كيف نعيد اختراع مفهوم الحب؟

*د. أم الزين بنشيخة المسكيني

حينما ينحدر عصر برمته في سياسات عبثية تنشر قيم الكراهية في كل مكان، ربما لا يبقى سوى الحب أفقاً اتيقياً وأنطولوجياً من أجل إنسانية ممكنة. وربما أيضاً قد صار من نافلة القول أن «الحرب الدائمة» التي دخل فيها العالم منذ قرن من الزمن إنما تجد في انتعاش مشاعر الكره التي تتجلى بدياً في أحداث العنف والإرهاب المعمم مسرحاً للقساوة العالمية.

هذا المشهد لا ينتظر أي ضرب من البكائين الجدد، ولا من المستثمرين في حقول البؤس البشري، بوسائل شتى طائفية أو ميتافيزيقية أو حتى إنسانوية. لا أحد بوسعه الاكتفاء بحائط المبكى، وإلا كان مصيره الوقوف طويلا في طابور الموتى.

إن الكراهية شكل من التشريع لقيم الموت. فهل نكره أنفسنا الى هذا الحد؟ وهل انتصر تناتوس على أيروس إلى الأبد؟ وكيف بوسعنا إعادة اختراع الحب من جديد؟

تنشيط ثيمة الحب

لقد حرك هكذا قلق عميق ثلّة من المفكرين المعاصرين الذين نشّطوا تيمة الحب مرة أخرى، من أجل إنقاذ ما تبقى من الإنساني فينا: هي ثورة الحب من أجل حياة روحية جديدة (وفق لوك فيري) أو مديح الحب ضد الحب الاستهلاكي المعولم (ألان باديو)، أو الحب كشكل من اختراع المستقبل بكل مساحة الممكن التي تولد معه (نيغري). هي ثنايا فكرية وعرة تسير فيه أسئلة فلسفية تشتهي إدراك إحداثية جديدة لعصر يفقد فيه البشر إحداثياتهم وخرائطهم وهوياتهم الحميمة. ومن أجل ذلك تكاثرت العناوين التي عقدت العزم على جعل مفهوم الحب براديغما فلسفياً بامتياز من قبيل كتاب الفيلسوف الفرنسي ريكور «تأملات في الحب والعدالة» (1990)، ونص الفيلسوف الإيطالي نيغري « فينوس الواهبة للحياة، مقدمات في الحب» (2000)، وكتاب «الحب السائل» لعالم الاجتماع البولوني زيغمونت باومان (2004)، و»مديح الحب» للفيلسوف الفرنسي ألان باديو (2009)، و«ثورة الحب، نحو حياة روحية لائكية» (2010)، الخ.. ولقد التقت هذه العناوين رغم اختلاف مشاربها الفكرية العميقة في نقطة أساسية: الاشتغال على مفهوم الحب كخيط تأويلي طريف وفريد من أجل اختراع تجربة معنى مغايرة لكل ادعاءات الحقيقة التقليدية التي انتهت إلى أزمة العالم الحالي: فقر مدقع في الحياة الروحية رغم انتعاش تجارة الأديان، وتصحر رهيب في المنظومة الرمزية العميقة للشعوب رغم ازدهار فن البضاعة، وقحط في المشاعر رغم ثراء ثقافة الرفاه والمتعة. كيف نعيد الى الأفراد قدرتهم على الحب؟ وكيف تستعيد الإنسانية اقتدارها العميق على المحبة؟ ذلك أنه ثمة خيط رهيف يفصل بين الحب كموضوعة أيروسية وجنسية حميمة وبين المحبة كثيمة اتيقية وأنطولوجية لاختراع الحياة المشتركة على نحو مغاير.

السيولة الاجتماعية والعاطفية

أما عن الحب الأيروسي الذي غصت بأخباره الكتب بخاصة في تراثنا التقليدي، فيبدو أنه قد صار في الحضارة الحديثة الى ضرب من «الحب السائل» على نوافذ الشبكة الرقمية للتواصل الاجتماعي. و»الحب السائل» مفهوم مثير نعثر عليه تحت قلم زيغمونت باومان الذي اتخذ من استعارة «السائل» مجازاً معرفياً معمماً من أجل تشخيص وضعية الإنسانية منذ «الحداثة السائلة» الى عصر العولمة، وهي مسافة رمزية لكينونة أصيبت بالهشاشة من حيث الفقر الروحي الذي أصاب العلاقات الإنسانية. فنحن قد صرنا نعيش على الإشباع الوقتي والظرفي لرغباتنا، علاقات عابرة تفلت منا سريعاً كما الماء، هو الحب من بعيد، الذي يتجلى في الحب الافتراضي. وهو نوع من الحب الذي لا يمكننا فيه أن نقيم علاقات بالرغم من كوننا ننخرط دوماً في اتصالات على شبكة التواصل الاجتماعي، لكنها اتصالات عابرة من أجل «مجتمعات سائلة» تسحقها العولمة.

إلى أي حد بوسعنا اختراع «حب مناهض للعولمة»؟ ذاك هو السؤال الذي انخرطت فيه على أنحاء معالجات كثيرة من بينها مقاربة الفيلسوف الفرنسي باديو الذي ينادي باختراع شكل جديد من الحب هو في جوهره «تجربة لاختبار العالم من وجهة نظر الاختلاف». وهذا يعني أن الحب في الحضارة الرأسمالية قد انحدر إلى مجرد موضوعة استهلاكية تقوم على نرجسية الفرد ورغبته في «الأمن والرفاه». وهو ما جعل الإنسان اليوم يُصاب بضرب من الهشاشة العاطفية والروحية، بإدمانه على ثقافة البضاعة وسياسات السوق. ومن أجل تحرر البشر من هذه الهشاشة المفزعة، عليهم طلب الحب بوصفه مغامرة ومخاطرة وتجربة لشكل جديد من الحياة. هنا يرتقي الحب من موضوعة رومنسية إلى ثيمة اتيقية تتعلق باختراع تجربة الخلود وهو ما يكتبه باديو قائلا «إن سعادة الحب تمثل حجة أساسية على قدرته على استقبال الخلود نفسه».

اختراع الحياة المشتركة

وفي كتابه المعنون «ثورة الحب/‏ من أجل حياة روحية لائكية» يشرع المفكر الفرنسي لوك فيري لضرب من النزعة الإنسانية الجديدة القائمة على استعادة الحب كثورة روحية هي الأفق السياسي الوحيد المتبقي لنا اليوم. والسؤال يكون حينئذ: كيف نبني إنسانوية جديدة على الحب لا بوصفه أيروسياً بل بوصفه محبة، أي بما هو نوع من إتيقا الإحسان الى الآخر. وتقوم المحبة هنا على آداب تقاسم تجارب الحياة، وهو تقاسم يقوم على العائلة أولا من أجل التوسع نحو الإنسانية كجماعة افتراضية ينتمي إليها الجميع على قدم المساواة. ثورة الحب تعني هنا التشريع لنوع من الالتزام الإتيقي الذي يتحمله كل منا تجاه عائلته وأقربائه من أجل التأسيس للإنسانية في شكل موسع. والمثير في هذه المقاربة الانسانوية هو التعويل الفلسفي الأساسي على مفهوم المحبة بوصفها الموقع الرمزي الوحيد المقدس في عمق كل واحد منا. فكل امرئ يمكنه أن يكون خبيثاً أو لئيماً أو حتى أحمقاً، لكنه مع ذلك يمتلك في عمقه الحميم محبة ما للآخرين تجعله يفكر بأحبائه حيثما كان.

إن المحبة هي الأمر الوحيد الذي يصاحبنا حيثما نحن. ويقول لوك فيري في هذا السياق ما يلي «لا أعتقد أن اليونان يفكرون دوماً بالكسموس حينما يذهبون إلى التسوق، أو أن المؤمنين يفكرون دوماً بالرب حينما يمارسون الحب.. لكن الحب يظل يصاحبنا دوماً حيثما ذهبنا..».

إن المرور من «الحب» الرومنسي القائم على شهوة اللقاء بين محبين بصرف النظر عن كل العالم، إلى «المحبة» كمفهوم إتيقي وسياسي لاختراع أشكال جديدة من المشترك بين الناس، هو ما من شأنه أن يلئم جراح إنسانية أصابها القحط العاطفي المعمم. دريدا يقول «حينما يتخلى عنك العالم من الأفضل أن تحب»، لكن نيغري يقول «ليس ثمة من حب متوحد: فالحب ينتج أدوات ولغات وسياسات الكينونة صلب المشترك». هنا تكمن مفارقة عجيبة: فأنت لا تحب إلا لأنك قد صرت وحيداً، ومن جهة أخرى أنت «لن تكون وحيداً إلا وأنت مع الآخرين».. وهذا يعني أننا هنا في العالم و»لن نفلت منه إلى أي مكان آخر». وعليه نحن مطالبون بالمرور من الحب إلى المحبة أي من رومنسية العشاق إلى اختراع الحياة المشتركة.

خرائط  أجمل للمستقبل

كيف تستطيع المحبة أن تعيد إلى سكان العالم الحالي ثقتهم بالآخرين؟ وهنا ثمة نوع من الطرافة الفكرية التي ينبغي التنويه بها في تصور نيغري للمحبة في عصر العولمة. إن الحب الافتراضي الذي يولد على فضاء الصداقة الرقمية هو موقع نشيط وموجب لانتاج الحياة المشتركة. فالشبكة ليست مجرد فضاء افتراضي للتواصل العابر والظرفي والسائل، بل هي «مكنة إنتاج أنطولوجي للمشترك» فهي حقل المشاركة بين الناس، بل «إن الشبكة الافتراضية هي شكل إنتاجنا للعالم اليوم»، وإن علاقتنا بعالم التواصل الاجتماعي ليست مجرد علاقة أدائية واعتباطية، بل ثمة «شيء ما لغوي وعلائقي وعاطفي» يحدث صلب الحب الافتراضي، هو ضرب من «التعاون اللغوي» من أجل اختراع مجموعة لا متناهية من الفرديات هي الجموع في كثرتها وتنوعها واختلافها. والجموع هنا ليست سوى الانسانية في جملتها، وبخاصة تلك «الانسانية التي تتألم وليست الانسانية المثالية» (وفق عبارة نيغري).

ومن أجل المرور من الحب الرومنسي الذي لا يؤسس لغير الحب من وجهة نظر الهوية أو الفردانية التي تقف في حدود نرجسية مغلقة على رغباتها المرضية، ينبغي المرور الى التأسيس للمحبة بوصفها «القوة التي تجعل المجتمع يتماسك في أعلى درجة للوعي بذاته». وحده عالم محب بوسعه أن يرسم خرائط أجمل للمستقبل. لكن أي مستقبل بوسعنا تخيله في هذا العالم الذي تخربه كل يوم سياسات الكراهية والضغينة والوعي التعيس؟

نيغري يجيب كما يلي: «ليس لدي تنبؤات عما سيحدث.. لكن بوسعنا أن نتخيل أن دروباً أخرى لا تزال ممكنة..» وفي هذا السياق يقترح نيغري مرة أخرى تصوراً موجباً للعولمة وذلك على عكس كل المفكرين المعاصرين الذين يعتقدون أن خلاص الإنسانية الحالية يمر ضرورة عبر التحرر من العولمة. فهو يعتبر العولمة «أمراً إيجابياً، لأنها تهدم سلسلة كاملة من الأساطير وتنتج انفتاحاً للذاتية..». فكل عصر إنما يخترع لعبته الخاصة وينتج معها ضرورة قواعد تلك اللعبة وأسباب تغييرها بألعاب مغايرة في نفس الوقت. والعصر الحالي هو بصدد إنتاج أشكال جديدة من الحياة المشتركة ومن الذاتيات الخلاقة للكينونة ضد تصورات الخراب اليائسة.

عناوين في الحب

حفلت موضوعة الحب، بالعديد من العناوين التي وضعها فلاسفة كبار، وناقشوا فيها مفهوم الحب فلسفياً، على رغم اختلاف المشارب الفكرية العميقة لهؤلاء الفلاسفة. ومن تلك العناوين:

ـ «تأملات في الحب والعدالة» (1990) للفيلسوف الفرنسي بول ريكور.

ـ « فينوس الواهبة للحياة، مقدمات في الحب» (2000) للفيلسوف الإيطالي أنطونيو نيغري.

ـ «الحب السائل» (2004) لعالم الاجتماع البولوني زيغمونت باومان.

ـ «مديح الحب» (2009) للفيلسوف الفرنسي ألان باديو.

كلام عن الحب وله

* نحن ننتمي إلى ضرب من الكينونة المعطوبة، غير أن قليلاً من الوجود قد يخفي ممكناً أكبر مم بوسع العقول اليائسة توقعه. الحب هو شكل الأفق الذي ترسمه دوماً شمس جديدة.

* الحب هو طريقة أخرى في اختراع المستقبل. لكن المستقبل يحدث دوماً من جهة المستحيل. المهم أن نؤمن بقدرتنا على التماسك حتى في الخراب.

* ينبغي أن نؤمن بإمكانية الحقيقة حتى لو كان كل العالم على خطأ. وذاك هو الحب: أن نتمسك بحدوث العالم على شكل مغاير.

* الفن هو أرقى تجليات الحب.. فلنستأنف كتابة القصائد والأغنيات.. أغنيات جديدة «سنغنيها فيما أبعد من البشر»

بول سيلان
_________
*الاتحاد الثقافي

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *