خاص- ثقافات
*القاهرة: عبد الرحمن مقلد
لم ترتبط مدينة باسم شاعر كما ارتبطت مدينة الإسكندرية المصرية بالشاعر اليوناني قسطنطين كفافيس، حتى لم يعد يُذكر أحدهما في الأدبيات إلا مرتبطاً بالآخر. ولا يأتي هذا الارتباط بين كفافيس والإسكندرية فقط كونه وُلد فيها ومات بها، لكن علاقة أعمق ربطت بينهما، جعلت روح هذه المدينة «الكوزموبوليتانية»، بمزيجها البلدي – الهليني، المتعدد الجنسيات، وطابعها المتوسطي يسري في قصائده. وكما وصف كفافيس، الإسكندرية، بالمدينة «المُعَلِّمَة»، فالإسكندرية هي الأخرى لاحقته، ولم تتركه يفلت منها، كما يقول في قصيدته الشهيرة «المدينة»: «قلت: سأذهب إلى أرض ثانية – وبحر آخر – إلى مدينة أخرى – تكون أفضل من تلك المدينة -… لن تجد بلاداً ولا بحوراً أخرى – فسوف تلاحقك المدينة – ستهيم في نفس الشوارع – وستدركك الشيخوخة – في هذه الأحياء نفسها – وفي البيوت ذاتها – سيدبّ الشيب إلى رأسك – وستصل دوماً إلى هذه المدينة».
عن كفافيس وعن مدينة الإسكندرية والجالية اليونانية التي عاشت فيها، وتفاعلت مع سكانها المصريين، وعن كبرى حوادث وادي النيل خلال النصف الأول من القرن العشرين، تبحث رواية «أصوات إسكندرية… في شارع ليبسيوس» للكاتبة اليونانية بيرسا كوموتسي، الصادرة مؤخراً في العاصمة اليونانية أثينا، التي من المنتظر صدور ترجمتها العربية للمترجم خالد رؤوف عن إحدى دور النشر المصرية قريباً.
ولمدينة الإسكندرية تراث أدبي مشهود، وهي من أبرز المدن «الملهمة» التي ارتبطت بالعديد من أهم الأعمال الأدبية الخالدة، وفي مقدمتها «رباعية الإسكندرية» للورانس داريل، و«الإسكندرية… تاريخ ودليل» للروائي الإنجليزي إي.إم.فورستر، و«مدن جامحة» للكاتب لستراتيس تسيركاس، و«أيام الإسكندرية» لذيميتريس س.ستيفاناكيس، و«الإسكندرية مدينة الذكرى» لمايكل هاغ، وغيرها.
أما كفافيس فوُلد في الإسكندرية عام 1863 ومات بها سنة 1933. وهو ما يجعله الرمز الأبرز للحضور اليوناني في مصر خلال الفترة التي شهدت حضور الجالية اليونانية في مصر، التي بدأت هجرتها إلى مصر خلال القرن التاسع عشر، وبلغت ذروة عصرها الذهبي من بداية القرن العشرين إلى منتصفه.
تستحضر رواية «أصوات إسكندرية… في شارع ليبسيوس»، كما تقول بيرسا كوموتسي لـ«الشرق الأوسط»، «حياة اليونانيين في الإسكندرية في الفترة بين الحربين العالميتين قبل قليل من وفاة الشاعر قسطنطين كفافيس، وهي إعادة سرد وعرض للمدينة وحياة اليونانيين في مصر آنذاك، كما تلعب الشخصيات المصرية دوراً محورياً فيها كعادتها في كل أعمالها».
وتدور رواية كوموتسي في شارع ليبسيوس (منطقة كوم الدكة بوسط الإسكندرية)، حيث كان يقبع منزل كفافيس، الذي زاره به الروائي نيكوس كازانتزاكيس، وهو من أوائل من كتبوا عن حياة كفافيس في الإسكندرية، وذلك ضمن زيارته لمصر عام 1926، التي صدرت يومياتها في كتابه «ترحال» (رحلة إلى مصر… الوادي وسيناء)، وخص صاحب «زوربا اليوناني»، كفافيس، بفصل من الكتاب، دوَّن به تفاصيل لقائهما.
وأسهب كازانتزاكيس في أوصافه لكفافيس، بل اعتبره «الرجل الكامل الذي يمثل بهدوء إنجازه الفني بكل كبرياء… وهو الشيخ الزاهد الذي قهر حب الاستطلاع والطموح والحسية، وأخضعها لنظام الزهد الأبيقوري القاسي… وهو الشخص المختلف والشخص الوحيد الشجاع… وفي الوقت نفسه تبدو تعابيره شيطانية ماكرة وتهكمية قوية».
وتعكس تفاصيل اللقاء بين كازانتزاكيس وكفافيس، إلى جانب الإعجاب الكبير من الأول بالأخير، الحضور الطاغي والأثر الذي حققه شعر كفافيس في بلده الأصلي اليونان، وهو ما يظهر من ثناء صاحب «الإغواء الأخير للمسيح» على تفرد الشاعر السكندري، فهو على حد قوله «أهم الرموز الثقافية الفذة النادرة في مصر» وصاحب «هذه الروح الحكيمة المعقدة المثقلة بالهموم… الذي كرس نفسه للتطهر من الشهوات، ونجح في العثور على أسلوبه الفني الخاص… هذا الأسلوب الذي لا نظير له»، كما أنه «امتلك كل الخصائص المميزة النموذجية للرجل الفذ والفريد في زمن الانحطاط، وجمع الحكمة والسخرية والسحر وفائض الذكريات»، ما جعله «يتكئ على حاشيته الناعمة، ويحدق من خلال نافذته وينتظر ظهور البرابرة. إنه يحمل ورقته التي تحتوي على المدائح المقدسة الرائعة الأخيرة».
ورغم أن شهرة كفافيس، كما يظهر من حديث كازانتزاكيس، كشاعر يوناني، كانت تجوب الآفاق في البلاد الشمالية، وجعلت منزله محط كبار الكتاب والمعجبين اليونانيين، فإن الغموض والغرابة اكتنفا سيرة حياته الخاصة في الإسكندرية. هذا الغموض صنعه الشاعر ذاته، إذ كان يعيش في صورة وحضور شخص عادي، يذهب لعمله في بورصة الإسكندرية، وإن تأخر يدخل من الباب الخلفي، لكي لا يلحظه مديره، ثم يختفي عائداً لحياته الغامضة التي تدور في مقاهي وحوانيت المدينة؛ هذه الحياة التي شكّلت مادة ثرية ومغرية، سواء لمؤرخي وباحثي الأدب أو حتى للكتابة الروائية. وهو ما امتد حتى عام 2012 الذي أصدر فيه الروائي المصري طارق إمام روايته «الحياة الثانية لقسطنطين كفافيس»، وهذه المرة تستعيد بيرسا كوموتسي سيرة الشاعر وشارعه (ليبسيوس)، راصدة سطوع أفضل أيام اليونانيين في مصر، وخفوتها مع انتهاء الحقبة الملكية وقيام ثورة يوليو (تموز)، وما تبعها.
بيرسا كوموتسي ذاتها وُلدت في مصر، وعاشت فيها حتى شبابها وتلقت تعليمها في القاهرة، قبل أن تنتقل إلى وطنها الأصلي اليونان، وتصدر متوالية من الروايات التي ترصد في مجملها حضور اليونانيين في مصر، وتشابكاتها مع الواقع المصري.
وتأتي رواية «أصوات إسكندرية» ضمن طموح كوموتسي لإحياء «أدب اليونانيين في مصر»، والسير على خطى الكاتب اليوناني الشهير ستراتيس تسيركاس، كما تقول، فالأخير مثلها وُلد في مصر ولكن في مطلع القرن التاسع عشر وعاش عمراً طويلاً بها، وكتب عنها معظم أعماله، منها روايته الملحمية «مدن جامحة» ورواية «نور الدين بومبة» التي سجل فيها وقائع ثورة المصريين في 1919، وبالأخص في الصعيد.
وأصدرت كوموتسي ضمن هذه الطموح، عدداً من الروايات عن حياة اليونانيين في مصر، منها: «الضفة الغربية من النيل»، و«الإسكندرية طريق الغرباء»، و«سنوات شبابي الأولى: متعة عمري»، و«حيوات ورقية»، و«شارع فرنسا»، و«نزهة مع نجيب محفوظ» التي تستحضر فيها شخص الكاتب المصري الحائز على «نوبل»، مضمِّنة إياها سيرة بداياتها وطفولتها وأيام شبابها في مصر. وعادةً ما تستحضر كتابات كوموتسي التشابهات والتقاربات بين الشعبين المصري واليوناني، اللذين يربط بينهما (كما تصف)، «الحب المتبادل. فهما لم يكونا غريبين بعضهما عن بعض. في واقع الأمر قد عاشا في انسجام لعقود طويلة. وتكونت بين أبناء الجالية اليونانية صداقات شكّلوها مع الجيران المصريين والزملاء والأساتذة وزملاء الدراسة، وكلها علاقات قامت على التآخي والمحبة والتآزر والاحترام المتبادل. وبالأخص الحياة السالمة الآمنة التي عاشوها على الأرض المصرية. وبالتأكيد لا يزال هناك يونانيون يعيشون في مصر، وليست لديهم رغبة في تركها فهي وطنهم. يحبونها مثلما يحبون اليونان. حتى هؤلاء الذين رحلوا عنها لم يكفّوا عن الحنين إليها، والتفكير في العودة إليها».
أما عن الحركة الثقافية للجالية اليونانية في مصر، فإنها كما توضح بيرسا، «لا تزال موجودة. كانت هناك دوماً ولا تزال ولم تنقطع أبداً. ومؤسسة الثقافة اليونانية فرع الإسكندرية ساهمت بشكل كبير في تنظيم العديد من الأنشطة الثقافية التي تسهم بقوة في التقريب بين الشعبين وبين اللغتين أيضاً»، لافتة إلى أن الأرشيف اليوناني بما يشمله من كتب ومطبوعات جُمع ويحفظ في أرشيف تاريخي بالجامعات، وصار حقلاً للبحث تجري دراسته بشكل دقيق ومتفحص.
وإلى جانب كونها إحدى أشهر الكاتبات المعاصرات في اليونان، ترجمت بيرسا كوموتسي 16 رواية لنجيب محفوظ، إلى جانب ما يقارب 40 عملاً لكتاب عرب، بالإضافة إلى أنطولوجيا شعرية عربية، وهو ما يجعلها من أهم الوسائط في انتقال الأدب العربي لأثنيا، لذا ترى أن «الترجمة من وإلى العربية واليونانية على السواء لحسن الحظ كافية، ويزداد عددها شيئا فشيئاً. فهناك اهتمام كبير من الجانبين».
وللشغف اليوناني بمصر تاريخ يمتد منذ قديم الأزل، فقبل الميلاد بأكثر من 500 عام وقف المؤرخ اليوناني هيرودوت متحدياً أبناء موطنه دافعاً إلى أن «البانثيون اليوناني» (منظومة الآلهة اليونانية) مأخوذة من مصر الفرعونية، وأنها كانت موجودة في مصر قبل 10 آلاف سنة، مروراً بوصول الإسكندر الأكبر لمصر الذي حرص على زيارة معبد أمون لتنصيبه فرعوناً على مصر، وإنشائه الإسكندرية، إلى أن بلغ هذا الشغف ذروته وحضوره خلال حكم الحقبة الخديوية (أبناء محمد على)، إذ حضر للعمل والحياة ما يقارب نصف مليون يوناني، كان منهم مئات الفنانين والموسيقيين والكتاب.
وشهدت الفترة الأخيرة تقارباً ثقافياً بين مصر واليونان، على أثره نظمت مصر فاعلية «العودة للجذور»، ودعت العديد من الأسر والشخصيات اليونانية التي عاشت في مصر لحضور احتفالية في مدينة الإسكندرية، في المقابل نظم معرض الكتاب الدولي في ثيسالونيكي باليونان فاعليات تناقش العلاقات بين الشعبين، وهو ما يجعل بيرسا كوموتسي تتفاءل بمستقبل مشرق في هذا الاتجاه، «اتجاه الحوار الثقافي بين الشعبين الذي هو المحور الذي تعمل عليه الآن قرابة ثلاثين عاماً ويزيد. والآن يزداد الأمر أكثر فأكثر وبدأ يؤتي ثماره».
_______
*الشرق الأوسط.