خاص- ثقافات
*سيومي خليل
كانتْ أوراق الشجرة المرسومة على الحَائط تتمايل بفعل هبوب ريح خفيفة ، تميل كأنّها أوراق حقيقية ،وتعود إلى مكانها ، وبَدت الأعشابْ الصغيرة التي لمْ ينس الرسّام أن يضعها في مكانها الطبيعي محيطَة بجدع الشجرة تَشْرئب بمقدمات رؤوسها كأنها مجموعة أطفال صغار ينظرون إلى أمر مثير في السماء .
وقفتَ هُناك حيث كانت الشجرة المرسومة على الحائط تُحيي حميع المارين من قرب سُور بناية تكوين المعلمين والمعلمات ،وشعرتَ ككل مرّة أن الشجرة حية ، وأنها ليست مجرد رسم ، وتخيلت كَمَا دائما حين تهب رِيح خفيفة وتَشعر بهَا أُذناك الصَّغيرتان أنّ أوراق الشجرة تتحرك ، وأنّ الأعشاب التي تحيط بحدعها تشرئب بمقدمات رؤوسها إلى السماء .
تَساءلْتَ في حيرة:
– ما نوع هذه الشجرة ؟
كانَ من الطبيعي وأنت تقف أمام شجرة مرسومة أنْ تسأل السؤال التالي :
– ما اسم صاحبها ؟
على الأقل إنْ لم تهتم باسم الرسام الذي ظل يوما كاملا واقفا أمَامَ حائط سور بناية تكوين المعلمين والمعلمات ، والذي لا شَك دخّن بشراهة ، وابتعد مرات كثيرة عن السور كَي يرى إن كانت لوحته التي يَرْسمها علَيه قد اكتملت… على الأقَل اهتم بنَوع الألْوان التي استعملت ، أو بالتقنية التي تم اعتمادها في خلط هذه الألوان …لاشيء من كل هذا اهتممت به ، لأنّك فعلاً كنت تظن أن الشجرة حقيقية .
الشجرة حية
هناك على الحائط كانت شجرة حية
أوراقها مثل أي أوراق شجرة أخرى لم يرسمها أي رسام
حين تهب ريح خفيفة وتشعر بها أذُناك الصغيرتان ترى تمايل الأوراق ؛
لا أظن أن شيئا من هذا يُمكن لعقل أنْ يقبله ، لكنك كنت تقبله كأنّه إحدى بديهيات العلم ، أو إحدى الثوابت التي يقوم عليها الوجود ، لذا كنت تُطيلُ النّظر إلى الشجرة ، ودائما ما كنت تتكئ على الحائط ، تماما على نفس مَوْضع الشَّجَرة ، لدرجة أن من يَراك على هذا الوضع يظن أنك تعتقد نفْسكَ متكئا على جدع شجرة .
-نعم …لقد كنت متكئا على جدع شجرة .
أتذكر أني أجبتك وابتسامة على وجهي :
– لكن ذلك حائط وليس شجرة
أخرجت سيجارة مالبور من علبة السجائر ، وقذفتها إلى فمك بِطَريقة استعْرَاضية ، كأنك تخبرني بشكل خفي عبر هذه الحَرَكة التمثيلية أني مجرد مغفل صغير يظن نفسه يفهم أكثر من الآخرين ، بدَأت تدخن السيجارة ، وتتحدث عن قصة غرامك القديمَة التي لا أعْرف دَورهَا في حديثنا ، وعن كيف تَخلت عنْكَ فتَاتك التي قضيت معها أكثر من خمس سنوات لأنها اكتشفت أنَّكَ صرت آخر .
فجأة قلت وأنت تعود إلى موضوعنا الأول :
-ما الفرق إن كنت متكئا على حائط أو على جدع شجرة؟
أجبتك :
-هناك فرق كبير ، فالحائط ليس هو جدع الشجرة .
حدثني عن قصة غريبة لا أعرف إن كانت من بنات أفْكاَرك السافرات أم أنها من تلك القصص التي بات النت يتحف الجميع بها :
-لقد كان هناك رجل أرق- هل هي أرق أم آرق ؟- لا يهم – لم تنفعه كل الأسرة الوثيرة ، والأفرشة الموشاة برسومات حريرية ، والأغطية الدافئة ، أن تجعل جفنيه يغلقان ولو لدقائق . ما إن يأتي الليل مثل سحابة غائمة حتى تنفتح عيناه على مصراعيهما كأنهما بوابة عظيمة أغلقت النهار كله وحينَ أتَى الليل سمع صرير فتحها.لا يتمكن من غلق عنيه إلى حين يهل الصباح . أتعبه بشدة هذا الأرق ، والسهاد ، وجعل وساده كله ألم . مصادفة سيرى أحد المشردين ينام على رصيف بدون فراش أو غطاء . اقترب منه وسمع شخيره ورأى ابتسامة غريبة على شفتيه .
تساءل :
-كيف يمكن أن يحدث هذا ؟
ليعرف الجواب جرب أن ينام على الرصيف .
صمتت عند هذا المشهد من القصة ، وحين أظهرت استغرابي لنهاية القصة ، حيث بدت أن لا نهاية لها ، وأن ما قلته للتو لا يمكنه أن يجعل للقصة معنى ، ابتسمت ابتسامتك الماكرة وأعدت تمثيل مشهد رمي سيجارة المالبورو إلى فمك وقلت :
-لا تستغرب ، هذه هي نهاية القصة ، لقد جرب الرجل أن ينام على الرصيف مثل المتشرد، لا أعرف إن كان تخلص من أرقه أم لا، فهذا ليس هو المقصود من القصة ، إن لها قصدا آخر أتمنى أن تكشفه.
بدأتَ تَضحك هذه المرة كأنك حقا تحدث أحد ما أخبرك بنكتة، في حين أنّك كنت متكئا على حائط مرسوم عليه شجرة، الذين كانوا يمرون جنبك كانوا ينظرون إليك،ويحوقلون، داعين الله أن ينجي عباده من الجنون .
سألتني بسرعة قبل أن أتم سردي لتتمة ما أكتبه :
-لكن ألم تكن أنت معي؟
أنت الذي تكتب الآن قصتي ألم تكن معي ؟
ألم تسألني إن كنت متكئا على حائط أم على جدع شجرة ؟
ألم أُحدثك عن قصة ذلك الشخص الأرق ؟
لم إذن تقول أني كنت جالسا لوحدي ؟
أجبتك وأنا أُظْهر نوعا من الحيرة حول كل ما أسمعه كأني لم أكن متوقعا هذا الانحراف الشديد في القصة ، فأنا حقيقة كنت أود الحديث عن تيمة أخرى غير التي جررتني إليها :
-ليس بالضرورة أني كنت معك مكانيا .
صمتت حين رأيت دهشتك وبدت لي بعض الدمعات تنساب من عينيك بكل بطء . اكتشفت حينها كم كنت تخشى الوحدة ، وكم كنت تظن حقا أن لك أصدقاء ، ومجالسين ، وندماء . فهمت حينها أنك أمام صدمة عرت كل شيء غطيت نفسك به ، فقد ظننت لزمن أنك تجلس تحت شجرة ، وتتكئ على جدعها ، وتجلس مع مجموعة من الأصدقاء ، كل مرة يكون معك صديق أو صديقين . في هذه المرة ظننتني أنا من يجلس معك ، لكن الحقيقة التي اكتشفتها للتو أنك كنت وحدك.
تركت الدمعات تنساب دون أن توقفها وقلت لي :
-لكن من تكون إن لم تكن صديقي ؟
وأين تكون إن لم تكن تجلس معي تحت شجرة ؟
قلت لك :
-لَقد نجحت أن تجعل حائطا شجرة حية ، الناس جميعا الذين كانوا يمرون من جنب الحائط لم يروهُ إلاّ حائطا ، ولمْ يَرَو إلاّ رسمة مضحكة لشجرة كانت عليه ، كان الكل يعرف أنّك أنت من رسمتها ، لكن لا أحد عرف كيف أصبحت تعتقد أنها حية . إذا كنت قد نجحت في هذا الأمر الذي لم ينجح فيه الكثيرون فلا شك أنك نجحت أيضا في أن تأتي بالكثير من الأصْدقاء وتُجلسهم تحت شجرتك. لقد كنت واحدا من هؤلاء الأصدقَاء رغم أني لا أعرفك ، فأنا كنت أمّر كالآخرين جنب السور ، وحين أراك في وضعك ذلك ، أفكر أنه كان لك ماض بهيا كما سمعت ، وأُحوقل داعيا الله لك بالنجاة ، وفجأة وجدت نفسي مخطوفا إلى دماغك كأن مغناطيسا جذبني إليك .
أوقفتني ابتسامتك الماكرة من جديد وقلت :
-ربما دماغك من جذبني أنا وليس دماغي من جذبك أنت .
أتدري ربما أنت من يجلس الآن تحت حائط يظنه شجرة .
اعجبتنى كثيرا القصة، اعتقد ان الكاتب الجميل سيومى خليل قد تجاوز بها تبابات كثيرة، فهى جيدة ومبتكرة من حيث الفكرة والتناول والصياغة، أعجبتنى فيها تلك المراوحة ما بين شجرة مرسومة على جدار وشجرة حقيقية، فمن خلال تلك المراوحة ودرجة التخييل اكتسبت القصة مذاقها