*خيري منصور
قبل أكثر من قرن كتب عبد الرحمن الكواكبي عن الاستبداد وطبائعه، كما تجلت في عصره، ودفع الثمن إذ مات مسموما، وكانت آخر عبارة قالها لابن اخيه هي، سموّني يا عبد القادر… وأهمية ما أنجزه الكواكبي ليست فقط في توصيف الاستبداد، بل في استقصاء هذا الشر حتى الجذور، بحيث رأى فيه سلالة تتكاثر، فالاستبداد ليس مجهول النسب، لأن ما يفرزه بمرور الوقت وتفاقم الصمت هو بمثابة مضادات لكل ما هو سوي في الوضع البشري، كما أن الكواكبي رأى غابة الاستبداد وشجرته معا، ولم يحجب أحدهما الآخر، ولو اقتصر في مقاربته المشحونة بطاقة عرفانية ووعي مفارق للسائد في زمنه على التصدي لمستبد بعينه، سواء كان حاكما أو فئة تحتكر السلطة وتحول دون تداولها، لربما طواه النسيان كما طوى المستبد الذي كتب عنه، لكنه أدرك أن للاستبداد منظومة من المفاهيم، وله ممارسات متكررة تتحول إلى أعراف، لهذا شملت رؤاه الاستبداد والمستبدين معا، بعكس ما يحدث الآن، حيث يعزل فقهاء التسويغ وشرعنة الفساد بين الفساد كمفهوم مجرد، والفاسدين، وكأن الفساد نبت شيطاني بلا جذور أو شر من شرور الطبيعة وكوارثها، التي لا حول للإنسان فيها ولا قوة.
وربما لهذا السبب عاقب المستبد الكواكبي بإعدامه في منفاه مسموما، ولم يخطر ببال القاتل أن المقتول سيفيض كثيرا عن مساحة قبره، ويولد مرارا بحيث يكون مرور أكثر من قرن على رحيله بمثابة قيامة له، وإعادة نشر لأفكاره، فالكتاب لم يفقده التاريخ صلاحيته بل كرّسها، لأن مؤلفه اكتشف المفاعيل التي تؤدي إلى عبور الاستبداد للعصور، فكانت مقارباته عابرة لعصرها، وحين نقرأ فصولا من الكتاب تبدو لنا كما لو أنها كتبت للتو وعن أيامنا العجاف، التي تحالف فيها الاستبداد مع الفساد بمختلف أشكاله لإنجاب ما نراه من استعباد للبلاد والعباد!
والكتب المؤهلة للبقاء هي تلك التي رأى مؤلفوها ما هو أبعد من زمانهم، وما هو أشمل من الجغرافيا التي عاشوا فيها، ليس لأن ما لديهم من فائض الخيال يتيح لهم ذلك، بل لأنهم قادرون على التقاط المشترك التاريخي والمتكرر المأساوي في الوضع البشري.
ولأن الكواكبي لم يكن ضحية لسطوة بُعد واحد على ثقافته، فقد رأى ما هو نقيض الاستبداد، وكانت له يوتوبياه لكنها يوتوبيا أرضية، وتخيل مؤتمرا شاملا للأمة كلها في كتابه «أم القرى»، فاستبق ما يسمى الآن اللعبة الافتراضية، التي يتداول فيها المتخصصون سيناريوهات الحرب والمواجهة.
ما أعنيه بشجرة الاستبداد هو الزعيم أو الفرد الذي يحجب الغابة، بحيث يتوهم الناس أن الاستبداد سيزول مع زوال المستبد الفرد، والحقيقة عكس ذلك تماما، وهناك أمثلة لا تحصى عن نهايات المستبدين التي لم تضع حدا لنهاية الاستبداد، لأن استبدال شهاب الدين بأخيه لن يغير المشهد، بقدر ما يكون تواطؤا مؤقتا لحجب الحقيقة، فالمستبدون على اختلاف الأسماء والألقاب هم من إفراز ثقافة استبدادية تتأسس على الاحتكار والإقصاء، وهناك من يصف المستبد أو الفاسد بالبثور التي تظهر على الجلد، لهذا فالعلاج إذا اقتصر على المرئي والسطحي لا رجاء منه، لأن الاستبداد يتناسل وله ميراث ينتقل من جيل إلى جيل.
وعلى سبيل المثال كتب الكثير عن الاستبداد الستاليني، أو ما سمي عبادة الفرد، لكن هناك من الباحثين من تجاوزوا الشخصنة إلى المفاهيم المجردة، فكتبوا عن الستالينية وليس عن ستالين، لأن ستالين هو الشجرة التي حجبت غابة من المفاهيم ومكونات الأيديولوجيا التي تتأقلم مع الأشواق النرجسية لبشر لديهم تصور بأنهم من طينة أخرى، وليسوا من البشر الفانين، لهذا يتسلل وهم المعصومية لديهم، فهم ملهمون ولا يخطئون ولهم وحدهم الحق في القول وما على الآخرين إلا ترديد الصدى كالببغاء الذي وصفها أحمد شوقي بقوله إن عقلها في أذنيها!
والفارق بين رؤى جدلية للتاريخ وأخرى أفقية هو أن الرؤى الجدلية لا تفصل بين الغابة والشجرة، وتستطيع أن ترى الاثنتين معا، لكن بالبصيرة وليس بالبصر فقط، تمامــــــا كما أن نهر الزمن الذي قال عنه هيراقليطس لا يقطع مرتين، يمكن قطعه مرارا، لكن بأدوات وأساليب أخرى غير الحسية والمباشرة، والإبداع بحدّ ذاته محاولة لتحقيق مثل هذا الحلم، وروايات من طراز «البحث عن الزمن الضائع» لبروست أو «رباعية الإسكندرية» لداريل، هي محاولات لقطع النهر مرة أخرى من خلال ما يتحقق من عبقرية المزاوجة بين الخيال والذاكرة.
إن حكاية الشجرة والغابة رغم بساطتها وكثرة تداولها، تبقى أشد تعقيدا مما نتصور، فما يحجب الغابة هو عنصر من عناصرها وليس خارجا عنها، لهذا فإن ما يحجب الاستبداد كمفاهيم وأعراف هو المستبد الذي ما أن يزول حتى نكتشف بأنه يعود باسم آخر.
___________
*القدس العربي