لا يرْتَوي فمُ الرّمْل مهما قبّلَهُ الماء

ـ*أدونيس

ـ 1 ــ

لم تَعُدْ يدايَ تتّسِعان للسّلاسل،

لم تَعُدِ الكلماتُ مرّةً، لم تَعُدْ حلْوةً،

لم تَعُدْ.

أنتَ أيُّها الحبرُ، ما شأنُك؟ ماذا تريدُ،

وما وَعدُكَ؟

وأنتِ يا وِسادَتي، أرجوكِ أن تَعِديني بهجرةٍ قريبةٍ،

أينما كان، كيفما كان.

ــ 2 ــ

إنّها السّلاحِفُ تُدَرَّبُ لكي تصيرَ غِزْلاناً،

إنّها تماسيحُ العِلمِ تُعَلَّمُ كيف تغسل المُحيطاتِ بدموعها،

لكي تُحسِنَ افتراسَ الأرض:

أهذا هو القرنُ الحادي والعشرون؟

ــ 3 ــ

قالت ضفّةُ النّهر اليُمنى:

سأمضي، هذه اللّيلة، أصغي إلى تنهُّد الهواء

في رئة الضفّة اليُسرى شقيقتي التي تحيا كأنّها ميِّتة.

ــ 4 ــ

الذين ذبحوا الإنسان منذ الهنديّ الأميركيّ الأحمر حتى الهنديّ

العربيّ الأسمر،

والّذين نهَبوا وينهبون، دمَّروا إبداعات الإنسان ويدمّرونها،

والّذين يسبون النّساءَ، يمتلكونهنّ، ويعرضونهنّ في

أقفاصٍ للبيع،

هؤلاء كلُّهم، على تنوُّعِهم، صيّادون يهبطون في جيشٍ

واحدٍ من الفضاء، حاملين هذه الرّسالة:

تَمْدين العالم،

وحماية الأرض والدّفاع عنها، باسم السّماء.

وها هم يغتصِبون البلدانَ من أقصى شرقها إلى أقصى غربها،

إضافةً إلى الشّمال والجَنوب،

يتنقَّلون من قارةٍ إلى أخرى، ومن بلدٍ إلى آخر،

في عرباتٍ تقطرها أشباحٌ تمتَزِجُ في خَلْقِها غرائبُ

المخلوقات، ــ

لبعضها أشكالُ الكركَدَنّات،

ولبعضها أشكالُ تماسيح تبدو في صور طيورٍ

ملائكيّةٍ،

تواكبهم، وترفْرِفُ سلاماً وطمأنينة، خصوصاً

عندما يخطب فيهم التّاريخ ــ القائد، محمولاً على

كتِفَيْ طائرٍ ــ ملاكٍ لا يعرف أين يمضي.

هذا هو العصرُ الأميركيّ.

ــ 5 ــ

تَمَرّد الزّمنُ على أبيه الأبَد:

خلَعَه عن عرشه، وحلّ محلّه.

السّؤال الذّي يشغل العقل ويحيّره، هو التّالي:

لماذا لم يحدث هذا التّمرُّدُ في التّاريخ كلّه إلاّ عند قومٍ

لا يؤمنون بالزّمَن ولا بالأبَد؟

ولماذا لا يجرؤ أحدٌ على تسميتهم؟

ــ 6 ــ

تَرَكَ نشيدَه يسيلُ في حِبرِ السّياسة، وقيلَ الصّلاة،

فصفَّقَتْ له مائدةُ الظّلام،

وغضِبَ كرسيُّ الشّمس.

ــ 7 ــ

قال البحرُ الأبيضُ المتوسِّطُ لزَبَدِه:

أنتَ اليومَ، لغتي التي لا تُتْقِنُ إلاّ الصُّراخ.

وتَعرِف أنّ الصُّراخَ يقتُلُ البَوْحَ وهو ما

أحتاجُ إليه، على ضفافيَ المَشرقيّة.

ثمّ تابَع البحرُ، يخاطب الأفق:

أنظُرْ كيف تنحدِرُ منَ الشِّعر سُلالةُ فراشاتٍ تطير

حامِلَةً مِظَلاّتٍ تتفَيّأ بها عندما تحطُّ على ذراعِ شجرةٍ،

أو كَتِفِ زهرة.

سلالةٌ بَدَأتْ تنفرُ من أبْجَدِيّاتٍ كثيرةٍ تُهَيْمِنُ

على الحقول والأودية والجبالِ التي تنتمي إليَّ.

ــ 8 ــ

قال المُستَقبَل:

أُفضِّلُ أن أجيءَ فقيراً في ضَوْء شمعةٍ،

على أن أجيءَ غنيّاً في فَجْرٍ يتَدَفَّقُ دماً.

ــ 9 ــ

هل ينبغي عليَّ، أيُّها العَسَلُ، أن أسْألَ النّحلةَ:

مِنْ أينَ لكِ، أنتِ الشّوكة،

هذا المُخمَل الذي تلبسينه؟

ــ 10 ــ

أمسِ السّبت،

خرجَتِ الشّمسُ سِرّاً من بيتِها،

حامِلَةً لتلكَ الطّفلةِ الجميلةِ، عهد التّميميّ،

زهرةً اسمُها ضَوءُ التّاريخ.

ــ 11 ــ

وَعَدَتْني الأرضُ بالسّماء،

وكنتُ أحلمُ ولا أزال،

أن تَعِدَني السّماءُ بالأرض.

ــ 12 ــ

إنّها الذّاكِرة ــ

تتمَرَّدُ راقِصَةً في حلَبةِ النّسيان.

ــ 13 ــ

نِسغُ الشّجرة يُغنّي هو أيضاً عندما تُصَفِّق أغصانُه

للهواء الضّيْف، ــ

يغنّي في قفصِه ــ الأمّ،

قفصٌ ليس فيه أيّة كوّةٍ لكي يُوَصْوِصَ ويرى.

ــ 14 ــ

«كلماتٌ عاشقة : حَبُّ رُمّانٍ،

يتَدَحْرج على جسد الشّهوة»:

هذا ما كتبَه لقاؤُهما الأوّل في دفتر طفولته.

ــ 15 ــ

فضاءٌ ــ شفتان مُغلَقَتانِ،

وليس فيهما غيرُ الكلام:

هذا ما قالَتْهُ النّجومُ، أمسِ،

عندما كانت تحكُّ ظَهْرَ اللّيل.

ــ 16 ــ

ماذا يفعلُ هو ابْنُ الزَّمَنِ،

والبَشَرُ الذين ينتمي إليهم،

أبناءُ الأبَديّة؟

ــ 17 ــ

اتركْني قليلاً.

وحيدةً، أحبّ أن أسمعَ، وحديَ،

نحيبَ الشّجر في أراغِنِ الهواء.

ــ 18 ــ

أنظري:

إنّه الغبارُ ــ

يتذكَّرُ جسمَه الأوّل.

ــ 19 ــ

حقّاً،

يليق بكِ، يا نجمةَ الصّبح،

أن تذهبي إلى مدرسة الفضاء،

في قميص النّوم.

ــ 20 ــ

ما هذا العصرُ الذي يتَدَحْرَجُ بين قَدَميْكَ، أيُّها الشّاعر،

وسرعانَ ما يختفي،

عندما تحاوِلُ أن تُلامِسَ كتفيه.

ــ 21 ــ

الليل في عين النّهار،

طائرٌ أبيضُ، لا اسْمَ له.

ــ 22 ــ

لا يَرْتَوي فمُ الرّمل،

مهما قبَّلّه الماء.

ــ 23 ــ

«لسْتُ إلاّ كمثل غبار الطّلْع:

لا مكانَ لي إلاّ في الرّيح» ــ

يقولُ الجبلُ الرّاسِـخُ الذي يُسَمّى الزّمَن.

ــ 24 ــ

مَهْلاً،

إلى أين تأخذني، أيُّها الحبُّ الذي يسيرُ بقَدَمَيْ

طفلٍ، ورأسِ شيخٍ أعمى؟

ــ 25 ــ

لِيَكُنْ:

لا أريد أن أعانق الأرضَ بكلماتي.

إذاً، بماذا أقدر أن أعانقَها؟

ــ 26 ــ

أمْسَكَ الشّعرُ بيدِ الليل،

هامساً في أذنيه:

هوَذا بابُ الضّوء.

ــ 27 ــ

إنّه الشِّعر:

فِتْنةٌ تُضَلِّل الجسد.

إنّه الجسد:

فتنةٌ تُضلِّلُ الشّعر.
_________
*الحياة

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *