خاص- ثقافات
*سيومي خليل
-1-
لم يطلب منك في الحفل إلا أن تحابي قليلا والامتثال للنص. أعرف أنك شخصية لاتحب الاختلاط كإيميل سيوران لكن القصة كانت تيمتها أن تخضع لقانون غريب عنك. أردت القيام بعلاجك بالصدمة لكن الأمر فشل بشكل دريع . حلان كان أمامي وأنا أصوغك ؛ أن أحدد مسارك بحرفية روائي لا يترك تفصيلا إلا وخاطه ، أو أن أدعك تنتكتب لوحدك كما تشاء .
للأسف لم أقم بأي حل من الحلين ،فقد كان هناك حل ثالث مرفوع ، وممكن الوقع دائما ، لكني لم أعره أي اهتمام .
-2-
دعتك زميلتك في العمل لحضور حفل عيد ميلادها الثلاثين . استغربت كيف أن عمرها ثلاثين سنة فقط وهي التي شهدت معركة الزلاقة . كتمت هذه النكتة وأنت ترى براءة زميلتك وهي تقدم لك في مظروف أبيض به ورده زاهية دعوة الحضور ، كيف يمكنك أن تخبرها أن عمرها بعدد أوراق الملفات المتراكمة في مكتبك في الشهر العقاري . ابتسمت لا غير وبدأت تمسح أرنبة أنفك وقلت :
– أنا لا أحب الاختلاط ، أفضل أن أكون لوحدي ، وأن أموت وحدي .
رأيت انزعاجها واضطرابها ،كانا بريئين ، وزادهما المرهم ذي الرائحة النافذة التي تضعها على وجهها حدة . قالت لك وهي تتصنع ابتسامة :
– لا يمكن هذا ، فأنت الوحيد الاجتماعي بين كل الموظفين ، أنت من تتحفنا كل يوم بنكت جديدة ، ومن تحيي الجميع حتى بواب المؤسسة، لا تكذب ، وقل أنك لا تريد دعوتي .
لم يكن ما قالته زميلتك كذب ، فلا أحد من الموظفين يعرف الجميع مثلك ، لا أحد ينصت لكل ترهاتهم العديدة والتي لا تعرف كيف يؤمنون بها غيرك ، ولا أحد من الموظفين يبدو مبتسما أمام الجميع غيرك ، إذن كيف تقنعها أنك لا تحب الاختلاط ؟ كيف يمكن لصاحبة الوجه البريء الذي بدون عمر محدد أن تقتنع أنك كائن متوحد، وأنك تحب أن تكون وحيدا دائما ، ولولا العمل لم أزعجت نفسك بالاجتماع مع الناس ؟ هل يمكن أن تجرؤ وتقول لها أن أيام العطل لا تحدث فيهاأحدا أبدا ، وأن هاتفك النقال تحمله للزينة ليس إلا ، وكي يهاتفك أخوك الأكبر فقط …
يبدو الأمر صعبا جدا لذا ابتسمت وقلت لها بصوت مجلجل :
– كنت أمازحك ، سأحضر الحفل.
-3-
هذا أول حفل ستحضر له. حفل يشبه أول امتحان قمت به ،وأول يوم لك في العمل وأول يوم – ربما – لك في الوجود.
الليل كله ظللت تفكر كيف ستتصرف في الحفل بدأت تتساءل أسئلة غريبة ومضحكة : لاشك أن هناك حضور ؟ كيف علي أن أصافحهم ؟ هل علي أن أبدي ملاحظات لزوجات زملاء عملي عن جمالهم الخلاب ؟ هل من الضروري أن أقول لأزواج زميلاتي في العمل أنهم محظوظون لأنهم حصلوا على كل هذه الطيبة المتمثلة في عيون زوجاتهم ؟
كنت كقط وضع في دن من خمر ، خرج القط سكرانا لكن ليس بسبب السكر إنما بسبب برودة الخمر .
فكرت أن تحمل الهاتف وتنادي زميلة عملك وتخبرها أن ضغط الدم ارتفع ، وأنك سقطت كصخرة وذهبوا بك إلى مستشفى في آخر العالم ، أو أن السيارة دهستك وأخذت معها نصف جسدك الذي لا ترى أنه يهمك …لكنك تذكرت أن أرقام الهاتف عندك التي تكتبها تضعها بدون أسماء ؛ كنت تكتب الرقم فقط كأنه رقم معملات وليس رقم هاتف ، أحيانا تستعين بالذاكرة لتعرف صاحب الرقم ، وأحيانا لا تهتم بمن يخاطبك ، فكل من سيخاطبونك لن يقولوا شيئا يغير من العالم شيئا .
بحثت عن رقم زميلتك محاولا تذكره لكنك لم تنجح ، لذا نمت ممليا النفس أن تحلم بالرقم ، لكنك حلمت بكابوس اسمه حفل عيد الميلاد.
-4-
قبل الحفل بساعات ظهرت مشكلة وجودية مؤرقة بحق :
فلأنك لم تحضر حفلات قط لم تعرف ما الهندام المطلوب منك ارتداؤه .
تساءلت في غباء شديد عن الزي المناسب للحفلات خصوصا أعياد الميلاد . لتساعد نفسك قمت بتحميل أفلام أمريكية في مشاهدها بعض الحفلات وبدأت ترى في الملابس التي يرتيدها المدعوون . كانت كلها بدلات سموكنغ سوداء أنيقة لا يظهر فيها أي انثناء أو اعوجاج ، في بعض الحفلات ارتدى المدعوون مونطوات طويلة رائعة . نظرت جهة دولابك الذي لم يكن فيه غير بعض التيشورتات الرخيصة وأقمصة وسراويل جينز بعضها هيبي قديم ، وبعضها ممزق ، وبعضها أسود كالليل .
ارتديت كل شيء أسود .
هل ارتديت التبان أسود هو الآخر ؟
كتمت ضحكة ساخرة وقلت في نفسك :
– وهل ارتداء التبان ضروري ،من الأفضل أن يظل المرء خفيفا .
والجوارب هل ارتديت تلك المثقوبة ؟
ضحكت هذه المرة بصدق وقلت :
– لا لا ..لقد اشتريت جوارب جديدة ، لكني لا أتحمل ارتداء أي شيء جديد ، سأتركها تتقادم قليلا .
-5-
دخلت فيلا زميلتك في العمل . لم تكن تعرف أن لها فيلا واسعة كهذه ،فحتى وإن كانت تتقاضى أفضل منك، وتترقى بمناسبة وبدون مناسبة ، إلا أن فيلا في أفضل شوارع المدينة تحتاج لراتب والكثير من الحظ والسرقة ؛ هي ليست بسارقة ، يمكن أن تكون محظوظة ؟
قدمت لك زوجها :
– زوجي …
لم يكن مطلوب منك في الحفل إلا أن تحابي قليلا ولا تخرج عن النص ،كان المطلوب منك أن تنحني وتسلم عليه وتبتسم كما يفعل كل خلق الله وكل أبطال القصص والروايات الشهيرة ، لكنك تجهمت ، وتقلصت عضلات وجهك ، وممدت يدك بتصلب ، ولم تنحن قليلا .
لم ينتبه الزوج أنك خرجت عن النص ولم تحاب وقال لك :
– أنت الموظف المجد الذي تحدثني زوجتي عنك كثيرا .
بدأ يضحك بطريقة لم تعرف المقصود منها ، لذا صفعته ؛ آه لم تصفعه حقيقة ، فأنت لن تكون غير حضاري إلى هذه الدرجة ، أنت فقط صفعته داخل جمجمتك الصغيرة ، قلت له ارفع رأسك قليلا ثم صفعته بكل جهدك .
مسكت بيده أو أنه هو تحديدا من مسك يدك اليمنى وذهبتم أنتم الثلاثة إلى وسط الفيلا حيث ظهرت بعض النباتات الغريبة تزين كل الحوافي والجنبات ، وظهرت ثريا كبيرة معلقة بالسقف ، وكانت تشكيلات الجبص الجميلة تملأ المكان بالكامل …أردت أن تكمل معرفة باقي الفيلا لكنك تذكرت أنه من العيب التحديق في بيوت المضيفين. أفاقك زوج زميلتك وهو يقول لك :
– هذه شاشة بلازمة مثبتة وسط الحائط أنها تقنية عالية .
الشاشة كانت غريبة بحق ومثيرة لكن القناة التي عليها كانت مضحكة وغبية وساذجة ، تذكرت وأنت تنظر إلى القناة الفكرة التي تقول :
ليس المهم الإناء إنما المهم الذي فيه .
قدمتك زميلتك إلى باقي المدعويين الذين تعرف بعضهم .
وهي تقدمهم لك كنت تُحل أنف هذه وتضعه في وجه الآخرى لترى كيف ستصير ، وتزيل الفستان القصير لهذه وتلبسه لزوجها ، وتأخذ من حقيبة إحدى المدعوات أحمر شفاه وتضعه على شفتي زوجها، وتترك مدعوة بثدي واحد لترى كيف ستظهر ، وتجمع نصف مدعو بنصف مدعوة لترى اي كائن ستحصل عليه … حين تعبت من هذه اللعبة السريعة والتي انتهت قبل أن ينتهي تقديم المدعوين لك بدأت تصفر ، ثم تغني ، ثم ترقص …كل هذه الأشياء كانت تقع في دماغك الصغير ، فلست وقحا لتسمع زميلتك وفي عيد ميلادها صفيرك المزعج . بعدها بدأت تشخر وأنت تتذكر :
الحي الكئيب الذي ولدت فيه .
البيت .
المدرسة التي تغرقها الأمطار .
أحداث فندق ايسني التي قرأت عنها أو سمعت عنها .
امتحانات البكالوريا التي اجتزتها .
الخوف الذي كان يصيبك وأنت تمر جنب إدارة ما.
جنازة الحسن الثاني .
اقصاء المنتخب الوطني .
صديقك الذي انتحر .
المهاجرون السريون الذين كنت تلتقيهم على الشاطئ .
المظاهرات التي لم يكن أحد يستمع إلى صوتها القوي …
قلت :
– يلعن أبوه دماغ أحمل لا يدعني لشأني حتى وأنا مع أناس رائعين .
-6-
سنة حلوة يا جميل ..
تساءلت :
أين هو هذا الجميل ؟
أكيد لم تتساءل أمام أحد ، لقد طرحت السؤال على نفسك ، وكنت أول واحد أطفأ الشموع الموضوعة على الحلوى الضخمة التي استغربت كيف تم إنجازها؛ لاشك أن مقاول عقاري هو من أنجزها . أعجب الجميع بنَفَسكَ القوي الذي أطفأ الشموع ، لم يكن أحد منهم يتصور أن نفخة من نفسك يمكنها أن تطفئ ثلاثين شمعة دفعة واحدة . بدؤوا يثنون على قوتك . لم تخبرهم أن نفسك مهلوك بسبب الكيف والسجائر والعمل الدائم حتى في النوم . صمتت وبدأت تصفق مع الجميع احتفالا بزميلتك في العمل . لكنك حقيقة لم تكن تصفق ، فقد كنت تفعل شيئا عجيبا استغربوا له وهم يضحكون ، وأعجبهم ايما اعجاب ؛ لقد بدأت تضرب على المائدة التي وضعت عليها الحلوى وتغني :
– زين يا قطيب اللوز خليه يدوز …
بدأ الجميع يقلدك ويضربون على المائدة ، بل هناك من أتي بصينية وبدأ يعزف عليها ترللي.. تر للي ، وهناك من بدأ يصفر ، ويرقص ، وبدؤوا جميعا في ترديد:
– زين يا قطيب اللوز …
أردت أن تعتذر منهم على هذا السلوك غير الحضاري الذي قمت به ، لكنك رأيتهم فرحون ، بل أعجبهم هذا الأمر كثيرا ، لذا قلت لنفسك :
– هذا بفضل الشقيفات ديال الكيف .
جانبتك زميلتك في العمل وقالت لك :
– شكرا لأنك جعلت عيد ميلادي مرحا هكذا .
أردت أن تخبرها أنك كنت تسخر منها ، لكن يبدو أنها محظوظة لدرجة تتحول كل السخريات الموجه إليها إلى ما يفرحها .
س خ
لم يطلب منك في الحفل إلا أن تحابي قليلا والامتثال للنص. أعرف أنك شخصية لاتحب الاختلاط كإيميل سيوران لكن القصة كانت تيمتها أن تخضع لقانون غريب عنك. أردت القيام بعلاجك بالصدمة لكن الأمر فشل بشكل دريع . حلان كان أمامي وأنا أصوغك ؛ أن أحدد مسارك بحرفية روائي لا يترك تفصيلا إلا وخاطه ، أو أن أدعك تنتكتب لوحدك كما تشاء .
دعتك زميلتك في العمل لحضور حفل عيد ميلادها الثلاثين . استغربت كيف أن عمرها ثلاثين سنة فقط وهي التي شهدت معركة الزلاقة . كتمت هذه النكتة وأنت ترى براءة زميلتك وهي تقدم لك في مظروف أبيض به ورده زاهية دعوة الحضور ، كيف يمكنك أن تخبرها أن عمرها بعدد أوراق الملفات المتراكمة في مكتبك في الشهر العقاري . ابتسمت لا غير وبدأت تمسح أرنبة أنفك وقلت :
– أنا لا أحب الاختلاط ، أفضل أن أكون لوحدي ، وأن أموت وحدي .
– لا يمكن هذا ، فأنت الوحيد الاجتماعي بين كل الموظفين ، أنت من تتحفنا كل يوم بنكت جديدة ، ومن تحيي الجميع حتى بواب المؤسسة، لا تكذب ، وقل أنك لا تريد دعوتي .
– كنت أمازحك ، سأحضر الحفل.
هذا أول حفل ستحضر له. حفل يشبه أول امتحان قمت به ،وأول يوم لك في العمل وأول يوم – ربما – لك في الوجود.
قبل الحفل بساعات ظهرت مشكلة وجودية مؤرقة بحق :
فلأنك لم تحضر حفلات قط لم تعرف ما الهندام المطلوب منك ارتداؤه .
تساءلت في غباء شديد عن الزي المناسب للحفلات خصوصا أعياد الميلاد . لتساعد نفسك قمت بتحميل أفلام أمريكية في مشاهدها بعض الحفلات وبدأت ترى في الملابس التي يرتيدها المدعوون . كانت كلها بدلات سموكنغ سوداء أنيقة لا يظهر فيها أي انثناء أو اعوجاج ، في بعض الحفلات ارتدى المدعوون مونطوات طويلة رائعة . نظرت جهة دولابك الذي لم يكن فيه غير بعض التيشورتات الرخيصة وأقمصة وسراويل جينز بعضها هيبي قديم ، وبعضها ممزق ، وبعضها أسود كالليل .
– وهل ارتداء التبان ضروري ،من الأفضل أن يظل المرء خفيفا .
– لا لا ..لقد اشتريت جوارب جديدة ، لكني لا أتحمل ارتداء أي شيء جديد ، سأتركها تتقادم قليلا .
دخلت فيلا زميلتك في العمل . لم تكن تعرف أن لها فيلا واسعة كهذه ،فحتى وإن كانت تتقاضى أفضل منك، وتترقى بمناسبة وبدون مناسبة ، إلا أن فيلا في أفضل شوارع المدينة تحتاج لراتب والكثير من الحظ والسرقة ؛ هي ليست بسارقة ، يمكن أن تكون محظوظة ؟
– زوجي …
– أنت الموظف المجد الذي تحدثني زوجتي عنك كثيرا .
– هذه شاشة بلازمة مثبتة وسط الحائط أنها تقنية عالية .
ليس المهم الإناء إنما المهم الذي فيه .
الحي الكئيب الذي ولدت فيه .
البيت .
المدرسة التي تغرقها الأمطار .
أحداث فندق ايسني التي قرأت عنها أو سمعت عنها .
امتحانات البكالوريا التي اجتزتها .
الخوف الذي كان يصيبك وأنت تمر جنب إدارة ما.
جنازة الحسن الثاني .
اقصاء المنتخب الوطني .
صديقك الذي انتحر .
المهاجرون السريون الذين كنت تلتقيهم على الشاطئ .
المظاهرات التي لم يكن أحد يستمع إلى صوتها القوي …
– يلعن أبوه دماغ أحمل لا يدعني لشأني حتى وأنا مع أناس رائعين .
سنة حلوة يا جميل ..
أين هو هذا الجميل ؟
– زين يا قطيب اللوز خليه يدوز …
– زين يا قطيب اللوز …
– هذا بفضل الشقيفات ديال الكيف .
– شكرا لأنك جعلت عيد ميلادي مرحا هكذا .
س خ