وولف: صائغ الكلم الذي فتح بوابات جحيم الواقع

*ندى حطيط

عندما أغمض توم وولف (1930 – 2018) عينيه للمرة الأخيرة الشهر الماضي كان يُسدل بغيابه ستاراً تأخَّر نزوله بعض الوقت على مرحلة استثنائيّة في الصحافة الأميركيّة المعاصرة غيّرت جذرياً أساليب الكتابة والتحقيقات الصحافية -حتى إنها سُميّت «الصحافة الجديدة»- ليفتح الباب على مصراعيه للجيل الجديد من تنانين صحافة الأخبار الكاذبة ودجالي «تويتر» وعصابات الظلام السيبري على «فيسبوك» وأخواته ليسرحوا ويمرحوا في حياكة سرديّاتهم البغيضة من مقاهي الطريق أو أقبية الأجهزة الغامضة أو حتى من غرف نومهم. وولف الذي كان بصحافته الجديدة تلك قد قلب عالم الكتابة الصحافية الأميركيّة رأساً على عقب، مُسقطاً في طريقه أصنام الكتابة التقليديّة مزاوجاً بين صياغة الحدث ولغة الأدب ليصبح نموذجاً للصحافي العابر للخطوط الآيديولوجيّة والباحث عن الحقيقة وراء الصورة، انتهى بإيقاظ زملاء المهنة في طابق الإعلام المرئي الذين اكتشفوا كم كانوا بُلَهَاء في بحثهم عن الخيال لإثارة الجماهير في الوقت الذي كان فيه الواقع بتفاصيله أوقع أثراً بما لا يقاس.

لم تكن صحافة وولف الجديدة أول «صحافة جديدة» تعرفها أميركا. لقد كانت صحافة تابلويد «البنس الواحد» في النصف الأول من القرن التاسع عشر صحافة جديدة وقتها، تلتها بعد نصف قرن صحافة التابلويد الصفراء التي سميّت بدورها «الصحافة الجديدة»، وكلتاهما كانت تعبيراً عن روح جيل القرّاء وتحولات الأزمنة الأميركيّة وقتها. صحافة وولف أيضاً كانت صوتاً ثوريّاً احتاج إليه جيل الشباب الأميركي الغاضب في ستينات وسبعينات القرن العشرين، الذي لم تعد ترقى إلى ذائقته تقارير صحافة الجيل القديم الجافة التي تُخفي أكثر مما تُظهر وتقول للناس ما يريدون سماعه فحسب، ملتزمة أفعال الماضي والمبني للمجهول كأنها مقدسات وعجولاً ذهبيّة.

وولف انتقل بالنص الصحافي إلى الفعل المضارع، ووقائع اللحظة القائمة، مستعيراً لغة صور النصوص الروائيّة ليغوص وراء الحدث، ولينقل بكلماته المشهد من إطار أعرض، مازجاً المشاعر بالحقائق، والألوان بالخلفيات المعتمة حتى كأنك وأنت تنوي أن تقرأ تقريراً صحافيّاً من حبر على ورق عن حدث ما، تنتهي كأنك شاهدت شريطاً ملوناً عالي الجودة عن ذات الحدث. لا الحدث بعد هذا الشريط الوولفي هو الحدث ولا الحقيقة هي الحقيقة، ولا يمكن بعده لرماديات الخبر التقليدي الثنائيّة الأبعاد أن تُرضي عيناً غرفت من أطايب الألوان وإيقاعات الصورة المجسمّة التي أودعها في كلماته. لقد منح وولف الخبر شرعيّة أن يُقرأ من أجل المتعة لا الواجب.

عداوته مع الرّمادي لم تبدأ بالصحافة، بل كانت قد وُلدت في أروقة أكاديميات الدراسات العليا. فهو بعد أن تشكلّ فضوله الصحافي إبان دراسته الجامعيّة الأولى في الأنثروبولوجيا والدراسات الأميركيّة على يد الدكتور مارشال فيشويك -الذي اشتهر بأنه كان يدفع بتلامذته لدراسة المجتمع الأميركي من خلال العمل مع عمال البناء، ونادلات المشارب، وجامعي القمامة ولاعبي كرة السلّة الشعبيّة لا في صفحات الكتب-، اصطدم في جامعة ييل العريقة بالتجريد والشكلانيّة وانعدام الخيال عند أساتذته في الدكتوراه الذين قسوا عليه حتى كاد يفشل في إحراز الشهادة. ويبدو أنه تنازل مكرهاً في ما بعد وأعاد النظر في بعض جوانب أطروحته لتناسب مزاج أساتذته، الذي كانت تغلب عليه في ما يبدو ميول يساريّة، لكن تجربته تلك أفقدته نهائياً الرغبة في امتهان العمل الأكاديمي وضخّمت في قرارة قلبه كراهيّة لا تفتر للمؤسسات الأدبيّة والفكريّة والصحافيّة جميعاً.

وُلد وولف في فرجينيا، واشتغل بعد تخرجه لدى صحف صغيرة وكبيرة في مدن مختلفة، لكنه قبٍل دونما تردد عرضاً من جريدة «نيويورك هيرالد» عام 1962 ليقضي في نيويورك كل ما بقي في جعبته من أيّام العمر، وليصبح كأنه مَعْلم من معالمها لا يحدث فيها شيء يستحق الكتابة عنه دون أن تجد وولف ببزته البيضاء الناصعة يسأل أحد أبطال الحدث عما شهده قبل أن ينتحي إلى ركن مع دفتر ملاحظاته يراقب ويدون ويسجّل الأشياء والأصوات والألوان والروائح ولا يتعب.

عندما كتب وولف بطريقته الجديدة أثار غضب المحررين والزملاء وحتى بعض القراء الذين لم يعتادوا على استعمال حواسهم جميعها عند قراءة التحقيقات الصحافية حتى وصفه الروائي الأميركي المعروف جيه. دي. سالينجر بـ«الأسلوب المسموم»، لكن محرر مجلّة «إيزكوير» التقط موهبة وولف من أول مقالة بعثها بها إليه الأخير بالبريد ودفع بها إلى النشر دون تردد. لكن موعده مع الشهرة تأخر إلى عام 1979 عندما نشر كتاب «الأشياء الصحيحة» وهو شبيه بتحقيق صحافي مطوّل عن حياة رواد الفضاء الأميركيين الذين مضى لأبعد من مجرد تسجيل مغامراتهم في السماء، باحثاً داخل أروقة حياتهم اليوميّة مع زوجاتهم وأولادهم وزمانهم. كان نصاً مذهلاً في قدرته على وصف المشاهد كما لو أنه شريط سينمائي لا تحقيق صحافي مكتوب، مما حفّز المخرج الشهير فيليب كوفمان على تحويله بالفعل إلى فيلم تجاري في السينما لقي نجاحاً رغم أن كوفمان نفسه قال إن النص فوق السينما وأقدر من الفيلم على رسم الصورة.

النجاح الكبير الذي لقيه «الأشياء الصحيحة» كان كدعوة شخصيّة لوولف للانتقال من بحر الصحافة إلى محيط الرواية الأرحب فدخله صحافيّاً له عيون تشارلز ديكنز وقلم إميل زولا ليكتب رائعته «شعلة غروريّات – 1987» التي كانت كبورتريه سجّل نفاق وتناقض وعنصريّة وجشع المدينة الأميركيّة، مستلهماً من أجواء تحقيقاته الصحافيّة السابقة في السبعينات وكتاباته عن جيل الهيبيز وراديكاليي 1968. وكما في «الأشياء الصحيحة» فقد تحوّلت شعلة غروريّاته إلى شريط سينمائي أصبح بالفعل حديث الساعة حينها.

صار وولف ظاهرة لافتة لا سيما أنه التزم بعد نيويورك ارتداء البزّات البيضاء كأرستقراطيٍّ من الجنوب –قيل إنه كان يحتفظ بأربعين منها في خزانة ملابسه- فاعتاد عليه مجتمع المدينة رجلاً آتياً من مكان بعيد يهبط إلى أرضنا في بذلته الخاصة، قد لا يعرف شيئاً لكنه يكاد يقتله الفضول ليعرف كل شيء. وما لبث أن تبعه آخرون ممن ثاروا على الكتابة الصحافية التقليديّة فأمسوا كتيار صحافة مختلفة انتشر في وقت كانت الصحف والمجلات ما زالت ذات تأثير. وقد جمع نماذج من هذه الكتابات في أنثولوجيا عنونها بـ«الصحافة الجديدة – 1973».

في مدرسة وولف، الصحافة هي «أن تراقب موضوعك عن كثب لوقت طويل حتى تتشربه قبل أن تبدأ الكتابة عنه» و«عندها فقط اكتب لتريهم لا لتقول لهم». وكان يرى أن ثلثي الكتابة الصحافية يجب أن تُستقى من مادة الواقع بينما يتبقى للموهبة والقدرة على التعبير المتفرّد الثلث الباقي. وهو في كتابته كما في حضوره الشخصي كان شديد الاعتناء بالتفاصيل، فكان يرتدي ثيابه الأنيقة ويجلس إلى المكتب ويمسك بالقلم ليفرض نفسه على الأوراق دون أن ينتظر أبداً وحياً أو إلهاماً أو مزاجاً ليأخذه إلى هناك. ويقول عنه من عرفوه عن قرب إنّه كان موهوباً كمحقق بوليسي في كيفيّة توجيهه الأسئلة واستخلاصه الحقائق من أفواه الناس.

أعمال وولف بمجموعها -13 كتاباً و4 روايات ومئات المقالات- كأنّها سجل متكامل وضعه أنثروبولوجي حاذق في صنعته للسياسة والثقافة الشعبيّة وإيقاعات الحياة في أميركا في النصف الثاني من القرن العشرين. وهناك أكثر من 150 اقتباساً من أعماله استعان بها قاموس أكسفورد للغة الإنجليزيّة كنماذج على استعمال الكلمات في معانٍ معينة. لقد كان صائغ كلمات يذيب الحروف ويصنع منها قلائد تخلب الألباب.

سياسياً، كان وولف في قلب اليمين الأميركي، ولذا فقد خاض مساجلات عدّة ضد أيقونات اليسار أمثال ليونارد برنستاين ونعوم تشومسكي، واصطدم بنقيضه في السياسة سيمور هيرش لكنّه قال علناً إنه «ربما قد لا يوافق على مضمون أعمال الصحافي اليساري المعروف لكنّه بالضرورة لا يختلف مطلقاً مع أسلوبه في الكتابة الصحافيّة العظيمة المعتمدة على التحقيق الميداني». لقد كان وولف صحافياً حقيقياً –لا يقبل النفاق والكذب والتلفيق- من طراز يبدو أنه انقرض اليوم لمصلحة صحافيين مرتزقة يكتبون هراء «ويكيبيديا» في خدمة المصالح المؤدلجة.

لكن وولف ليس بريئاً بالكليّة عن إطلاق هذه المخلوقات في فضاء الصحافة، إذ يعدّه بعض مؤرخي الثقافة الأميركيّة بمثابة أب روحي لتلفزيون الواقع استلهم منه القائمون على الشاشة الصغيرة شغف التفاصيل الماثلة واستبعاد الخيال لمصلحة الواقع الأكثر إثارة للفضول قبل أن ينتقلوا رويداً رويداً على يد الرأسماليّة المتأخرة ليستهدفوا صنع «الواقع» كما يجب أن يكون وفق أجندات مسمومة، وينتهوا اليوم إلى مجرّد تجار حقائق بديلة في خدمة سرديّات المهيمنين. إذا صحّ كلام هؤلاء المؤرخين، فإن الرجل ذا البزة البيضاء قد مضى بعد أن فتح علينا بوابات جحيم الواقع –حقيقياً كان أم ملتبساً-، وهي بوابات قد مسّتها النار، تحرقُ أيدي كل من يحاول إغلاقها، وهو حتى لن يكتب لنا ليعتذر عما فعل.
_________
*الشرق الأوسط

شاهد أيضاً

يَنبثُ لِي شارِبٌ.. منَ الصَّمت

(ثقافات) يَنبثُ لِي شارِبٌ.. منَ الصَّمت حسن حصاري منْ يمُدُّ لي صوْتا غيرَ صوْتي الغائِب؟ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *