الفيزياء والفلسفة؛تطوّر الأفكار الفلسفية منذ ديكارت حتى نظرية الكمّ (1)

* ترجمة وتقديم : لطفية الدليمي

   تمثّل الفيزياء – بسبب طبيعة مباحثها المعرفية – التوأم الطبيعي للفلسفة ، وقد تطوّرت هذه العلاقة التوأمية بين الفيزياء والفلسفة منذ بواكير الفلسفة الإغريقية التي يمكن عدّ أقطابها الأعلام أوائل فيزيائيي عالمنا ، ولابدّ هنا من الإشارة المحدّدة إلى الفيلسوف الإغريقي ( ديموقريطس ) الذي كان أوّل من أشار إلى المبدأ الذري Atomism  وتخلّدت ذكراه في العمل الفلسفي الفخم الذي كتبه ( لوكريشيوس ) بعنوان ( في طبيعة الأشياء De Rerum Natura ) .

   ترسّخ الإرتباط الوثيق بين الفيزياء والفلسفة في العصور اللاحقة للعصر الإغريقي حتى بزوغ عصر الميكانيك النيوتني الذي جاء بأدوات رياضياتية مستحدثة ( هي رياضيات التفاضل والتكامل ) في التعامل مع الظواهر الطبيعية ، ثمّ ترسّخ دور الرياضيات في الفيزياء بعد الفتوحات العلمية العظيمة التي تحققت ؛ لكن هذا الأمر لم يلغِ الشغف الفلسفي بقدر ماأعاد تشكيله ، وظهر مفهوم ( الفيزيائي – الفيلسوف ) كواقع حال تفرضه طبيعة الإشتغالات الفيزيائية التي تتعامل مع مفاهيم ذات مدلولات فلسفية مثل : الزمان ، المكان ، الفضاء ، طبيعة القياس ، التزامن ،،،، وليس غريباً أن تسمّى أقسام الفيزياء في كثير من الجامعات ( وبخاصة الأسكتلندية منها ) بأقسام ( الفلسفة الطبيعية Natural Philosophy ) في إشارة واضحة إلى تأصيل الفيزياء وعلاقتها التوأمية بالفلسفة ، ويلاحظ في هذا الشأن أنّ الفلسفة المعاصرة باتت أكثر إلتصاقاً بالإشتغالات الفلسفية التي شغلت الكائن البشري منذ بواكير وجوده الأولى ؛ فقد أثارت المعضلات المفاهيمية التي جاءت مع نظرية الكمّ تساؤلات فلسفية معمّقة لطالما كانت ميدان نظر العديد من الفيزيائيين – الفلاسفة مثل : ألبرت آينشتاين ، إرفين شرودنغر ، ماكس بورن ، ديفيد بوم ، فيرنر هايزنبرغ ،،، الخ .

   أقدّم في هذا القسم ( وأقسام لاحقة ) ترجمة للفصل المعنون ( تطوّر الأفكار الفلسفية منذ ديكارت حتى نظرية الكمّ ) من كتاب ( الفيزياء والفلسفة : الثورة في العلم الحديث Physics and Philosophy : The Revolution in Modern Science ) للفيزيائي – الفيلسوف فيرنر هايزنبرغ Werner Heisenberg الذي كان أحد الفيزيائيين الطلائعيين في ترسيخ مفاهيم نظرية الكمّ ، وقد نُشِر الكتاب في طبعته الأولى عام 1958 ولم يزل يُعدّ كتاباً مرجعياً حتى يومنا هذا .

                                                           المترجمة

   خلال الألفيْن من السنوات التي أعقبت ذروة العلم والثقافة الإغريقية في القرنين الخامس والرابع قبل الميلاد إنشغل العقل البشري إلى أبعد الحدود بمعضلات ذات طبيعة تختلف جوهرياً عن معضلات المرحلة التي سبقت ذلك التأريخ ؛  إذ في القرون المبكّرة من الحضارة الإغريقية كان الواقع المباشر ، وهو المعطى الذي نعيش به ونتلمّسه بحواسنا ، يشكّل الدافع الأقوى بين كلّ الدوافع الأخرى . كان الواقع يموج بالحياة ، ولم يكن ثمّة سبب معقول يسوّغ تأكيد التمايز بين المادة والعقل أو بين الجسد والروح ؛ لكننا سنشهد في فلسفة أفلاطون دافعاً إضافياً – إلى جانب الواقع المباشر – بدأ يطفو على سطح المشهد اليومي : في مقايسة ( الكهف ) الأفلاطونية ذائعة الصيت عمد أفلاطون لتشبيه الرجال كما لو كانوا سجناء مقيّدين في كهف لايمكنهم النظر سوى في إتجاه واحد فحسب ، خلفهم نار مستعرة اللظى ، وأمامهم جدار مبنيّ يرون فيه ظلالهم وظلال الأشياء التي خلفهم ؛ ولمّا كان الرجال عاجزين عن رؤية شيء سوى الظلال فقد حسبوا تلك الظلال واقعاً راسخاً قائماً بذاته ولم يدركوا الأشياء في ذاتها ، ثمّ حصل أن هرب أحد هؤلاء الرجال وغادر الكهف بعيداً لينعم بضوء الشمس ، وحينها رأى الأشياء على حقيقتها وأدرك أنّ الظلال ماكانت بأكثر من أوهام خادعة ، وهنا عرف الرجل الحقيقة للمرّة الأولى في حياته ولم يعُد يذكر حياته السابقة في غياهب ظلمة الكهف إلّا في حالة من التأسّي والإشفاق على حاله . بموجب هذه المقايسة الأفلاطونية يكون السجين الهارب من الكهف نحو نور الحقيقة كناية عن الفيلسوف الحقيقي الذي يمتلك المعرفة الحقيقية فضلاً عن الإرتباط المباشر بالحقيقة ( أو بالإله إذا جاز لنا اللجوء للقاموس المسيحي ) ، وهذا الإرتباط المباشر بالحقيقة هو الواقع الجديد المستحدث الذي سيمتلك فيما بعد سطوة تفوق سطوة الواقع المادي المباشر الذي نستشعره بحواسنا . يحصل الإتصال المباشر بالإله داخل الروح البشرية ، لافي العالم ، وكانت هذه المعضلة هي الموضوعة الجوهرية التي شغلت الفكر الإنساني دون سواها من الموضوعات خلال الألفي سنة التي أعقبت أفلاطون ، وخلال هذه الفترة الممتدّة توجّهت أنظار الفلاسفة نحو روح الإنسان وعلاقته بالإله وكذلك نحو القضايا الإشكالية للأخلاقيات وفهم الأفكار الموحى بها عوضاً عن فهم العالم الخارجي ، وتوجّب علينا – أبناء البشرية – أن ننتظر حتى بزوغ عصر النهضة الإيطالية من أجل أن يحصل تغيّر تدريجي في الفهم البشري يُفضي في خواتيمه إلى إحياء الإهتمام بالطبيعة .

   فيما يخصّ التطوّر العظيم في العلوم الطبيعية خلال القرنين السادس عشر والسابع عشر فقد سبقه ( مثلما لازمه ) تطوّر في الرؤى الفلسفية ، وهو تطوّر يرتبط إرتباطاً وثيقاً بالمفاهيم الأساسية في العلم ، وتأسيساً على هذه النظرة فقد يكون من المُجدي أن نعلّق بعض الشيء على هذه الرؤى منطلقين من المكانة التي بلغها العلم في زماننا هذا * .

   كان أوّل أعاظم الفلاسفة في حقبة العلم الجديدة هذه هو رينيه ديكارت René Descartes الذي عاش في النصف الأوّل من القرن السابع عشر ، ويضمّ كتابه مقالة في المنهج Discourse on Method أهمّ آرائه فيما يختصّ بتطوّر التفكير العلمي . إجتهد  ديكارت في كتابه هذا – مستنداً على خلفية من الشكّ والإستدلال المنطقي –  أن يجد قاعدة جديدة تماماً ، أو كما إعتقد هو قاعدة صلبة راسخة لنسق فلسفي ؛ فلم يقبل الإلهام الموحى به أساساً لتلك القاعدة مثلما لم يرغب في القبول الساذج بمعطيات الحواس دون تفكّر أو تدبّر . أشّر ديكارت إذن ولادة مبدأ الشكّ الذي يرمي بشكوكه كلّ ماتخبرنا به حواسنا كنتائج للإستدلالات المباشرة ، ثمّ إنتهى الأمر بديكارت إلى عبارته الشهيرة ( أنا أفكّر ؛ إذن فأنا موجود    cogito ergo sum  ) : أنا لاأستطيع أن أشكّك في وجودي لأنّ وجودي ذاته ناجم عن حقيقة كوني أفكّر ، وبعد ترسيخ وجود الأنا بهذه الشاكلة راح ديكارت يبرهن على وجود الإله على هدي إرشاد الفلسفة المدرسية ** ( السكولائية ) ، أمّا وجود العالم فيستتبع حقيقة أنّ الإله قد وهبني نزوعاً طاغياً كي أعتقد بوجود العالم ، ومن المستحيل طبعاً أن يكون الإله يسعى لخداعي *** .

    يتمايز جوهر الفلسفة الديكارتية تمايزاً جذرياً عن نظيره لدى فلاسفة الإغريق ؛ إذ انّ نقطة الشروع في الفلسفة الديكارتية ليست ( المبدأ الجوهري الأول ) أو ( الماهيّة ) الأولى بقدر ماهي مشروع معرفة أوّلية ، وقد أدرك ديكارت من جانبه أنّ مانعرفه عن عقلنا أكثر يقينيّة ممّا نعرفه عن العالم الخارجي ؛ لكنّ ثالوث ( الإله – العالم – الأنا )  الذي يمثّل نقطة الشروع لدى ديكارت قد بالغ في نظرته الجامحة والتبسيطية لمزيد من الحاجة إلى الإستدلال ، وبات الفصل بين المادة والعقل أو بين الروح والجسد ) تاماً كاملاً تبعاً للفلسفة الديكارتية بعد أن بدأت بواكير ذلك الفصل في فلسفة أفلاطون ، كما إفترق الإله عن الأنا وعن العالم كذلك ؛ بل جرى ترقية الإله في الحقيقة نحو مرتقيات أعلى بكثير تتسامى فوق العالم وفوق البشر وإلى الحدّ الذي غدا فيه الإله لايظهر في الفلسفة الديكارتية في خاتمة المطاف سوى كنقطة مرجعية مشتركة تعمل على ترسيخ العلاقة بين الأنا والعالم .

   في الوقت الذي جاهدت فيه فلسفة الإغريق القدامى نشدان النظام order في الكيفية اللانهائية للأشياء والحوادث من خلال السعي نحو بلوغ مبدأ موحّد أوّلي فقد حاول ديكارت ترسيخ النظام من خلال نوعٍ من القسمة الأساسية ؛ غير أنّ الأجزاء الثلاثة الناشئة عن القسمة **** تفقد بعض قيمتها الجوهرية إذا ماتعاملنا مع أيّ جزء منها بمعزلٍ عن الجزءين الآخريْن : إذا كان في مقدورنا إستخدام المفاهيم الديكارتية الأولية فيتوجّب أن يكون الإله في العالم وفي الأنا كذلك ، ويتوجّب أيضاً ألّا تنفصل الأنا عن العالم . من الطبيعيّ أن يكون ديكارت عرف منذ البدء ضرورة هذا الإرتباط الذي يستعصي على إي جدل أو تشكيك ؛ لكنّ الفلسفة والعلوم الطبيعية تطوّرت في فترة لاحقة على أساس التناقض الإستقطابي الجوهري بين ( الكينونة المفكّرة res cogitans ) و ( الكينونة الممتدّة res extensa ) ، ومن جانبها ركّزت العلوم الطبيعية إنتباهتها على ( الكينونة الممتدّة ) ، وأنّه لامر عسير أن نقلّل من تأثير هذا التمييز الديكارتي***** على مجمل الفكر الإنساني في القرون التالية ؛ لكن برغم ذلك فإنّ هذا التمييز الديكارتي هو ماسأوجّه له سهام النقد فيما بعدُ عند تناولي تطوّر الفيزياء في وقتنا هذا .

   سيكون في عداد الخطأ الجسيم ، بالطبع ، القول أنّ ديكارت ، ومن خلال طريقته في الفلسفة ، فتح لنا مساراً غير مسبوق في الفكر الإنساني . إنّ حقيقة مافعله ديكارت حقاً هو أنّه صاغ لنا ، وللمرة الأولى ، نزوعاً في التفكير الإنسانيّ يمكن في واقع الحال أن نشهد مفاعيله في حركة النهضة الإيطالية وحركة الإصلاح الديني ، وكان ثمّة عودة حينذاك إلى الإهتمام بالرياضيات – وهذا أمرٌ ينبئ عن التأثير المتعاظم للعوامل الأفلاطونية في الفلسفة فضلاً عن التأكيد اللحوح على الدين الشخصي . دعم الاهتمام المتزايد بالرياضيات نسقاً فلسفياً رسّخ كينونته من خلال البدء بالإستدلال المنطقي ، وقد حاول بهذه المنهجية أن يبلغ بعض الحقيقة التي تحوز شيئاً من اليقينية التي تحوزها النتائج التي نبلغها من خلال الأقيسة الرياضياتية ، أمّا فيما  يخصّ موضوعة التديّن الشخصي فقد فصل هذا الأمر بين الأنا وعلاقتها بالإله والعالم كذلك ، وأمّا الإهتمام بمراكمة المعرفة التجريبية مع الرياضيات – كما نشهد في أعمال غاليليو – فربّما يعود في جزءٍ منه إلى الإحتمال الذي بدأ يترسّخ في النفوس من أنّنا قد نبلغ بهذه الوسيلة بعض المعرفة التي يمكن الحفاظ عليها في إستقلالية كاملة عن تأثير المجادلات اللاهوتية التي نفخت النار فيها حركة الإصلاح الديني ، ويمكن بالطبع صياغة هذه المعرفة التجريبية من دون الإضطرار إلى الحديث عن الإله أو عن أنفسنا ، ومن جانب آخر تدعم هذه المعرفة التجريبية فصل المفاهيم الثلاثة الأساسية في المثلث الديكارتي ( الإله – العالم – الأنا ) أو الفصل بين ( الكينونة المفكّرة ) و ( الكينونة الممتدّة ) . كان ثمة حالات موثّقة في تلك الحقبة حصل فيها إتّفاق صريح لالبس فيه بين الروّاد الطلائعيين للفكر التجريبي على ضرورة ألّا يُذكَرَ إسم ( الإله ) أو ( العلّة الأولى ) في مناظراتهم الجدالية .

*  من المفيد التذكير بأنّ كتاب ( فيرنر هايزنبرغ ) الذي تُرجِمت منه هذه المقالة نُشِر  عام 1958 ، وهذا أمر جوهري لوضع السياقات التأريخية الصحيحة في موضعها المناسب حيثما إستوجب الأمر . ( المترجمة )

**  الفلسفة المدرسية Scholastic Philosophy :  فلسفة سادت في العصور الوسطى ، حاولت المزج بين العقائد المسيحية وعناصر الفلسفة الإغريقية عند سقراط وأرسطو وافلاطون باستخدام القياس المنطقي والجدل ، وبلغت أعلى مراحل تطوّرها في فلسفة القدّيس  توما الاكويني Thomas Acquinas . من أشهر أعلام فلاسفتها دانز سكوت Duns Scotus . ( المترجمة )

***  تبعاً لمبادئ الفلسفة المدرسية . ( المترجمة )

**** إشارة إلى المثلّث الديكارتي الجوهري ( الإله – العالم – الأنا ) . ( المترجمة )

*****  تُطلَق مفردة ( Cartesian ) لوصف شيء بأنّه ديكارتي ( أي ذو علاقة بديكارت ) . ( المترجمة )

يتبع

_________
*المصدر: المدى

 

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *