فيليب روث “المخادع الخبير”.. أعماله تعكس نضاله الملحمي من أجل الهويّة الفردية

خاص- ثقافات

*آمال نوّار

تعطّل قلب فيليب روث منذ أيام واعتزل الحياة عن خمسة وثمانين عاماً، وكان تعطّل قلمه قبل ست سنوات من اليوم واعتزل الكتابة. هو من كوكبة من المبدعين النجوم، المستحقين، الذين ظلّوا ينتظرون “غودو” نوبل حتّى الرحيل. بالمقابل، كانت الجوائز الأميركية تأتيه حتّى بلا انتظار، والسينما الهوليودية تقتبس رواياته أفلاماً، ومعها الشاشة الصغيرة أيضاً. ولم تنتظر المكتبة الأميركية إلى ما بعد مماته كيما تخلّد ذكراه، بل أصدرت أعماله كاملة في مجلدات عشر (2005-2017) ليكون بذلك الروائي الثالث فحسب، الذي تُحفظ كتبه في المكتبة أثناء حياته، بعد القاصة والروائية يودورا ولتي 1998، وسول بيلو 2003. مان بوكر أيضاً كانت من نصيبه في 2011، وتبعتها في 2012 جائزة أمير استورياس. تنبّأ لنا روث بموت الرواية في الأعوام القليلة القادمة، منوهاً بأنها ستنحصر في جماعة المهتمين فقط، وبأنه سيصعب على الكِتاب عموماً مُنازلة هذه الشاشات كلها. كَتَبَ بصفته مواطناً أميركياً لا بصفته يهودياً، منتقداً التعليب العرقي والديني للأدب، واستغلاله كسلعة في سوق السياسة. أزعج في أعماله بعض الحاخامات، وبعض المنظمات النسوية، وبعض القراء المحافظين، وحسناً فعل. بالمقابل نال ثناء غالبية القراء والنقاد في أميركا والعالم، لبراعته وجرأته وغزارة انتاجه.

 يعدّ فيليب روث من أبرز الروائيين الأميركين في القرن العشرين الذين أسسوا شهرتهم من خلال الفحص الدقيق والهجاء اللاذع لأميركا ما بعد الحرب العالمية الثانية. اعتبره الناقد دافيد ليمان كافكا زماننا، “عبقري يهودي، هزلي، قادر على إعطاء نكتة ميتافيزيقية بعداً إبداعياً، بحيث يتحوّل التناقض الفنيّ الظاهري إلى حكاية رمزية أخلاقية أو دينية.” في هذه الحكايات الرمزية – من “وداعاً كولومبوس” وحتى “العملية شيلوك: اعتراف”، و”مسرح ساباث”، مروراً بِ”شكوى بورتنوي” وروايات ناثان زوكرمان- استمر روث في استكشاف حياة العائلة اليهودية في المدينة، والشخصيات المتناقضة التي تتكون فيها. نِيل كلاغمان، ألكسندر بورتنوي، ناثان زوكرمان، ميكي ساباث، وحتى فيليب روث نفسه، هم من بين الشخصيات البارزة التي خلقها روث لطرح ثيماته. رواياته يخاطب بعضها بعضاً عبر الشخصيات التي تواصل حياتها من رواية إلى أخرى، وهي بلا ريب في علاقة جدل دائم مع أبرز قضايا زمننا الفلسفية والإجتماعية والثقافية.

المعروف عن روث المولود العام 1933 في مدينة نيوارك من ولاية نيوجرزي، أنه من محبي  روح السخرية والفكاهة، وكان صرّح في أحد حواراته: “الهزل المجرّد والجديّة المميتة هما صديقاي الحميمان”. كذلك هو من هواة توظيف الحياة الشخصية في العمل الأدبي بعد تحوير بعض الحقائق بما يتناسب ومتطلباته (بعض التفاصيل حول زوكرمان مثلاً شبيهة بحياة الكاتب ولو أنه ينكر ذلك)، ولذا كان يصحب صدور كل عمل جديد له، موجة من التخمينات والتساؤلات حول ما هو الحقيقي فيه وما هو المبتكر، حتى أنه سُمي “بالمخادع الخبير”. من ناحية ثانية أثارت معظم رواياته وقصصه جدلاً واسعاً وانتقاداً وغضباً داخل المجتمع اليهودي الأميركي، لكونها أشارت إلى عيوب وخبايا ذلك المجتمع بأسلوب جريء فضائحي، اعتبره البعض مشيناً وشاذّاً، وكالعادة اتُّهِمَ بمعاداته للسامية. من ثيمات روث البارزة: مُثُل أميركا العليا وخيانة هذه المُثل، الانتماء العنصري ورفض هذا الانتماء، محاولات الإقصاء وطبيعة التصدّي لها، تاريخ أميركا الإجتماعي، المحرقة اليهودية، الهوية اليهودية، الموت، الجنس، العزلة، والقائمة تطول بغيرها من الموضوعات التي سعى من خلالها إلى إظهار ما سمّاه “عزيمة الذات” في مواجهة هويتها العارضة من أجل هوية إنسانية أشمل وأعظم.

نضال الكتابة

روايتاه الأولى والثانية، عكستا تأثره الشديد بكتابات أف. سكوت فيتزجيرالد، لما فيهما من نوستالجيا إلى طبيعة الحياة في الخمسينيات، في حين أن روايته الثالثة “شكوى بورتنوي” 1969، كانت بلا شكّ الرواية “الخبطة” التي حقق من خلالها الشهرة، لما تضمنته من جرأة في الموضوع (الاستمناء)، وجمالية في تقنيات السرد، وروح دعابة عالية. في السبعينيات صدرت له ثلاث روايات، استمدّت عوالمها من الخيال العلمي، إلا أنها لم تحظ بكثير من اهتمام النقد، على العكس من رواياته اللاحقة التي عاد فيها إلى الأرض، وتحديداً إلى المجتمع الأميركي، لمعاينة طبيعة العلاقات الإنسانية فيه.

عام 1985 صدرت له “التزام زوكرمان: ثلاثية وخاتمة”، ضمّت ثلاث روايات كانت نُشرت سابقاً ولاقت استحسان النقد. أعقب ذلك “الحياة المضادة” 1986، التي عالج فيها العلاقة بين إسرائيل ويهود “الشتات”، والتي حصدت الجائزة الوطنية لجماعة نقّاد الكتاب، وهي الجائزة التي سينالها روث للمرة الثانية عن روايته “الإرث” 1991. رواية “خداع” 1990 حققت أعلى نسبة مبيعات بين كتبه، وهي إلى جانب “الحياة المضادة” صُنّفت في خانة الرواية التجريبية. في “خداع” حاول روث رصد العلاقة بين الحقيقة والخيال عبر قصة غامضة عن دفتر يوميات لكاتب يهودي، يقع تحت يد زوجته لتكتشف فيه مقاطع يحاور فيها عشيقته، إلا أن الزوج يدّعي بأنها مجرد تمارين كتابة. وهنا يذهب روث في لعبته إلى مستويات أعمق ليطرح السؤال: ما هو الحقيقي في حياتنا وما هو الكاذب؟ وفي تحوّل مفاجىء عن مساره الروائي المعتاد، تصدر لروث روايتان أقرب إلى السيرة الذاتية، “الحقائق: سيرة ذاتية لروائي” 1988، وهي عن ذكريات حياته من الطفولة وحتى أواخر الستينيات، وكان كتبها للخروج من حال اكتئاب أصابته عقب عملية جراحية، و”إرث: قصة حقيقية”1991، وفيها يعيد سرد تفاصيل الأشهُر الأخيرة من حياة والده.

عام 1992 صدرت له “العملية شيلوك:اعتراف” وحصدت جائزة فوكنر لعام 1993. وهي قصة بطلها يُدعى فيليب روث أيضاً، يكتشف بعد شفائه من أعراض جانبية لأحد الأدوية، بأن ثمة رجل آخر في إسرائيل يدّعي بأنه فيليب روث الكاتب. هي رواية أشبه ببيت من المرايا، الراوي فيها ومنتحل شخصيته يتقمّص واحدهما الآخر، في لعبة مدوخة تسمح لروث في أن يبيّن الوجه المعاكس لكل برهان لدى واحدهما، مُظهراً مهارته مجدداً في التنقّل بين حدود حياته وعمله، وبين حقيقته وخياله. الرواية التالية ”مسرح ساباث” 1995، ينال عنها الجائزة الوطنية للكتاب للمرة الثانية، بعدما كان نالها عن مجموعته القصصية الأولى “وداعاً كولومبوس” 1959. علماً بأن “مسرح ساباث” تعرّضت لإنتقادات كثيرة، أبرزها عدم تخطيها لأنوية البطل وعدم انفتاحها على تجارب أخرى مشتركة في المجتمع، إضافةً إلى أنّ ثيمتيها: الشيخوخة والضعف الجنسي، ليستا بجديدتين وإن بدت معالجتهما هنا أكثر حيوية وجرأة وسخرية وجدية. في ثلاثيته الشهيرة: “الرعوية الأميركية” 1997، “تزوجتُ شيوعياً” 1998، و”الوصمة البشرية” 2000، يجبرنا روث على مواكبة الشخصية عينها (ناثان زوكرمان)، والتي دائماً تقع فريسة أسوأ السمات والآفات في عصرها، ناهيك بغدر النساء. الرواية الأولى من الثلاثية حازت جائزة بوليتزر، وهي من رواياته القلائل التي لا تكون فيها الطبقة المتوسطة من اليهود موضع سخريته بل ثنائه، فنجده يحتفي بأدبيات أفرادها وإحساسهم العالي بالمسؤولية ووطنيتهم وجديتهم في العمل، في حين يدين الرافضين لهذه الفضائل.

مَزْج روث بين الحقيقة والخيال تعدّى حدود حياته الشخصية إلى حياة أبناء جيله ووعيهم السياسي، لا بل إلى وقائع التاريخ، فها هو في “الخطة ضدّ أميركا” 2004، يصوّر لنا الرعب في تاريخ أميركا المحتمل في ما لو كانت تحوّلت دولة فاشية في الأربعينيات، بفوز تشارلز ليندبرغ على فرانكلين روزفلت في الإنتخابات الرئاسية! في “شبح الخروج” 2007، يعيدنا روث إلى ناثان زوكرمان (في آخر ظهور لهذه الشخصية)، وقد بات الآن في الواحد والسبعين من عمره، يعيش في عزلة ريفية نتيجة مشكلة صحية في البروستات، وقد قرر السفر إلى مانهاتن لإجراء عملية جراحية. هناك سيلتقي بآيمي بالات، عشيقة كاتبه المفضّل إي. آي لونوف، وملهمته، وممرضته، التي رغم كِبرها الآن ومرضها، ما تزال امرأة مفعمة بالحيوية،  تؤجّج فيه مجدداً رغباته الجنسية. هي رواية عن الرغبة في التجدّد، وكيف أنها تتحوّل لا محالة إلى حكاية قبول للإنحدار المحتوم نحو النسيان.

المرحلة الأخيرة في حياة روث الإبداعية، قبل اعتزاله الكتابة عام 2012،  أي وهو في السبعينيات من عمره، ختمها برباعية باسم “نمسيس” (إلهة الانتقام عند الإغريق)، مكونة من روايات صغيرة الحجم: “كل رجل” 2006، “السخط” 2008، “التواضع” 2009، “الانتقام” 2010. تتمحور جميعها حول ثيمة الشيخوخة والموت، وتتحد بخيط من النوستالجيا وإحساس بالنهاية. ويبدو منطقياً أن هذه السلسلة تعكس تأملات الكاتب وهو في ذروة تجربته وبداية شيخوخته، بعد خوضه غمار حياة غزيرة المعرفة والإنتاج (31 رواية)، وتربط بدايات روث والأزمات التي عاصرها (وباء شلل الأطفال الذي أصاب نيوارك في 1944، الحرب الكورية 1950 ) بانشغاله المتأخر بموضوع الموت. احتفى النقد بهذه الروايات باستثناء “التواضع” التي اُعتبرتْ سقطة مخيفة، وبالكاد تستحق لقب رواية، فهي ليست أكثر من فانتازيات جنسية لرجل عجوز ترتدي زي الأدب. في المقابل لاقت “كل رجل” احتفاء كبيراً جداً من النقّاد، وحاز عنها جائزة فوكنر، ما جعله الكاتب الوحيد الذي يحوز هذه الجائزة ثلاث مرات. وهي رواية عن الموت والمرض والوحدة والخسارة، غارقة في واقعيتها، وفي تفاصيل حياة رجل قد يكون كل رجل، ولذا أراده الكاتب بلا اسم. تحكي قصة رجل متقاعد، سبعيني العمر، يعاني من مرض القلب، وهو في مواجهته لموته يكشف عن واقعيته المادية، التي لا تقرّ بوجود عالم ما بعد الموت؛ فالموت له نهاية نهائية.

أعمال روث في مجملها ركّزت على الوعي الفردي أو الهوية الفردية، وعلى الرغبة الملحّة لدى الفرد للعيش، للكتابة، لإشباع غرائزه الجنسية، لفرض وجوده. وقد عجّت بمواقفه الراديكالية تجاه الدين والحرب وبعض القضايا التاريخية وقيم المجتمع والحياة العائلية والأب والأم والزمن والمرض والموت. بطل روث الدائم هو “الأنا”؛ هذه الذات التي لا تؤمن إلا بنفسها، وتناضل ضدّ كل ما يقف في طريقها. ورغم أن هذه “الأنا” الذكورية العملاقة، قد لا تروق لبعض القراء بسطوتها ولغتها الحاسمة، الجازمة، إلا أنها بالمقابل، مصدر إلهام لكثيرين غيرهم، تحضّهم على الكفاح ضدّ كل من يريد إسكاتهم، أو تلقينهم دروساً في الطاعة. قد تكون هذه “الأنا”، إضافةً إلى براعة الصنعة الفنية، هما السبب في الشعبية الهائلة التي يحظى بها روث لدى القراء والكتّاب معاً. وقد يكون نضالُ “الأنا” نضالَ الكتابة في النهاية، في المحاولة الدائمة، المستميتة، لتجاوز حدود الذات وكل ما يعيقها؛ ونضال فيليب روث بلا ريب، لا رحمة فيه.

في ما يلي نقدّم قراءة في رواية “كلّ رجل”، لكونها في رأينا الرواية الأكثر تمثيلاً للمرحلة الإبداعية النهائية في حياة روث، وذلك بما حملته من أسئلة وتأملات على لسان البطل، تعكس وجهة نظر روث الحقيقية حول الموت، لا سيما وأنّ أقوال جمّة وردت فيها، تطابقت مع ما كان يصرّح به من آراء في المقابلات الصحافية والإعلامية. علاوةً على ذلك، ثمة تناص لافت بين حياة بطل الرواية وحياة فيليب روث نفسه، امتد إلى الممات أيضاً، حيث شاءت الأقدار أن يقضي روث بمرض في القلب (قصور القلب) على غرار بطله.

الموت نهاية نهائية وعزاء الميّت أنه عاش

هل يفقد قارئ فيليب روث شعوره بالأمن والطمأنينة؟  في روايته “كل رجل” الصادرة في 2006، لا يكتفي بتذكيرنا بما نتعمّد نسيانه، ولا بجعل الشيخوخة وتداعياتها، والمرض، والموت، هواجس تلازمنا مدة طويلة بعد انتهائنا من القراءة، بل هو يتجاوز ذلك، متجاوزاً إيانا إلى ما بعد موتنا، ليأتينا بالخبر: ما من آخرة إذاً، يُنبئنا روث! ما من بعث وحياة أخرى. ثمة موت فقط؛ موت تنتهي به النهايات كلّها إلى عدم لانهائي.

يأخذ فيليب روث عنوان روايته التي غلافها أشبه بشاهد قبر، على قوله، عن سلسلة مسرحيات أخلاقية من القرون الوسطى، كانت تقام عروضها في المقابر تحت الإسم نفسه، وفيها أنّ كل رجل، أو كل روح بشرية، يتمّ استحضارها بعد موتها، بلا شفيع لها غير ما ادّخرته من أعمالها الحسنة، لتمثل أمام الخالق وتحاكَم. غير أنّ الرجل الذي يطالعنا في عالم روث، تقتصر مواجهته على الموت وحده، فهو لا يقرّ بوجود عالم ما بعد الموت، ولا بوجود أيّ محاكمة، إذ أنّ للموت نهاية نهائية، وليس بعده غير العدم. لكن ثمة ما يعزّي بطل روث المتمسّك بالحياة، ألا وهي واقعيته الماديّة، والتي أكثر ما تجلّت، في زيارته لمقبرة أجداده التي سيُدفن فيها لاحقاً، والتأمّل في الرصيد المتبقي من البشرية؛ عظام قانعة بالمعادلة المنطقية: في أن يكون أصحابها الميّتون قد عاشوا حياتهم. هكذا يُشعرنا بطل روث بأنّ العزاء الوحيد للذي سيموت، أنه عاش، وبأنّ الموت رغم بؤس حقيقته وجورها، هو هذا الثمن الغالي، غير المُغالى فيه، لهذه الأعجوبة الخالصة المسماة “الحياة”، إذ ليس أقلّ من الموت يكون ثمن الحياة، مثلما ليس أقلّ من الحياة يكون ثمن الموت. من هنا، يبدو لنا بطل روث رواقيّاً بامتياز، تبعاً لما تبديه شخصيته من انسجام وايمان بمبادىء فلسفة زينون (300) ق.م. القائلة بأنّ حكمة الرجل تتجلّى في تحرره من الإنفعال وخضوعه من غير تذمّر لحكم الضرورة القاهرة، وهي تتجسّد في هذه الرواية، في طبيعتها الأقسى، لتكون ضرورة الموت التي هي شرط الحياة. بطل روث إذاً، ينتمي إلى عالم ما بعد العالم المتدين، حيث البشر فيه أجساد برغبات حيوية فحسب، تولد لتعيش وتموت ضمن شروط حدّدتها الأجساد التي عاشت وماتت قبلها، وهم يحيون بحياة أجسادهم، ويموتون بموتها. لا شكّ أن روث يُظهر جرأة لافتة في الرؤية إلى طبيعة الحياة والموت في هذا المنحى الإلحادي، في وقت تشهد أميركا في ربع القرن الأخير انتعاشاً في الفكر الديني، ليس أدلّ عليه من هذا الحضور الصاخب لتيار المسيحيين الجدد أو المسيحية الصهيونية.

الرواية على صغر حجمها، والذي لا يتعدى المئتين صفحة، غارقة في التفاصيل، إذ يضع فيها روث تحت مجهره ثلاث كلمات: موت، مرض، وجسد، ويمضي في تأملها، من دون أن يعوق تأملاته اصطدامُها بجدار اقتناعه الفولاذي المتمثّل بنهائية الموت. فهو قد استعاض عن الغيب بالحاضر، وعما بعد الموت بالموت نفسه، جاعلاً من تلك الكلمات مسرحاً للتبصّر في طبيعة كل منها، وما تثيره من انفعالات متناقضة لدى البشر. ونلاحظ أن روث لا يلجأ إلى الإستعارات والرموز في تجسيده مأسوية الموت، بل يجعل من اللحم الحيّ المتفتت والعظام الناخرة، أدواته. وهو إذ يتحدّث عن والد بطله، تاجر الألماس، الذي كان يجد متعة بالغة في وضع خاتم من الألماس في إصبع إحدى النساء، يحيل سبب بهجته على هذه الحقيقة العارية: “حجر برّاق، شيء أرضي غير فانٍ على إصبعٍ فانية”.

رواية “كل رجل” هي كما بات واضحاً، عن رجل في طريقه إلى الموت، بعد تعرّضه لسلسلة من الانتكاسات الصحيّة في حياته، طاول آخرها قلبه. تخلّت عنه عائلته وعافيته وقدراته وأصدقاؤه، ولم يبق له من رصيد في الحياة غير الذكريات. أراده روث بطلاً بلا اسم، سبعيني العمر، متقاعداً، يزجي وقته الطويل والأجوف بالتأمّل والتحسّر، متأرجحاً بين ماضٍ حافل بالتجارب، تنعشه ذكرياته عن طفولته، ومتجر والده للمجوهرات، وحياته المهنية، وزيجاته الثلاث الفاشلة، وخياناته الزوجية، وعلاقته بأخيه وأولاده وأصدقائه… وحاضرٍ ليس فيه سوى الوحشة والألم والندم، بعدما انتهى وحيداً وبعيداً في مجمّع سكني للمتقاعدين على شاطىء نيوجرسي، وبعدما استحوذ المرض على جسده مجبراً إياه للخضوع لسلسلة من الإجراءات الطبية والعلاجات، ستستمر حتى مماته، لترقيع ما مات في قلبه من أسباب الحياة. تبدأ الرواية بجنازة البطل ومراسم دفنه، وتنتهي بلحظة موته على طاولة العمليات. بين البداية والنهاية يُرجعنا روث إلى الوراء لمعاينة حياة بطله وطبيعة شخصيته على ثلاثة مستويات: علاقاته العائلية والإجتماعية، وضعه الصحي، وطبيعة مفاهيمه الفكرية، في حين تتشكل هذه التفاصيل كلها على قماشة رئيسية هي جسد البطل إبان موته البطيء، وفي حين يتشكل السرد بأسلوب لا يعتمد خطاً مستقيماً، بل قفزاً زمنياً يخلّصه من رتابة تسلسل الحوادث، ويُظهر قوته التأثيرية في لعبة التضاد، كأنْ يأتي الحديث عن حيوية جسد الصبا مسبوقاً ومحاطاً بالحديث عن ضعفه الحالي وفظاعة الآلام التي تسبب بها المرض.

شخصية بطل روث ليست نموذجاً نادراً من البشر، بل شخصية واقعية، عادية، لرجل نيويوركي كان يطمح في أن يكون رساماً، غير أنه انتهى إلى العمل في الحقل الإعلاني، وقد ارتكب في حياته من الأخطاء والحماقات ما جلب عليه وعلى من حوله العديد من المتاعب. العزلة القاسية التي انتهى إليها، لم تحضّه على إعادة النظر في أفعاله، أو في منحاه التبريري، ففي نظره، ليس في الإمكان أفضل مما كان، أما مسألة زواجه وطلاقه المتكررة وخياناته الزوجية، فهي لا تجعله رجلاً غير عادي، وخصوصاً في مجتمع مثل المجتمع الأميركي، حيث ملايين الرجال، الذين يفعلون ذلك وأكثر، في حين أنه لم يمارس شكلاً من أشكال العنف الجسدي على أي من زوجاته وأولاده، وهذا أمر ما كان ليجعله غير عادي أيضاً! ولم يتأخر لحظة عن تلبية حاجاتهم… فما الذي كان إذاً يمكن تفاديه؟!

لئن كانت هذه الرواية خالية من الإثارة والتشويق، لا لغز فيها ولا مفاجآت، ولا ما يمنح القارىء متعة الحدس، ولئن كان السرد ينمو نمواً عكسياً، لكونه يبدأ من النهاية، ويسمن من تفريغ سلال الذاكرة، ولئن كانت لا تمنحنا شيئاً على صعيد الخيال، لكونها غارقة في واقعيتها، وفي تفاصيل حياة رجل قد يكون كل رجل، فإن ما يشفع لها، أنّ روث شاءها كذلك؛ رواية معلومة مسبقاً، إذ من لا يعلم قصة الرجل المريض بمرض مميت حتماً، وسيُميته فعلاً؟! ليس عبثاً إذاً أن روث لم يعطه اسماً. ومخافة أن تتملّكنا آمال بأن هذه الرواية لربما، تستبطن أعجوبة ما، وتشذّ عما حفظناه عن ظهر قلب من دروس الحياة عن المرض والموت، فإنّ روث يقمع أوهاماً كهذه منذ البداية، مفتتحاً السرد بجنازة البطل، ومحكماً الطوق حول محتوى روايته، والذي لا يروم فيه إلى ابتكار أيّ جديد، بل إلى التقيّد بلبّ ما هو تحصيل حاصل، والعمل على ألا تكون ثمرته، ثمرة مُرّة بحكم أنها مُرّة، بل بحكم أنه سهر على سرد واقع طعمها المُرّ، بكل حذافيره في مذاق الروح والجسد. الرواية إذاً، تروي المعلوم طعمه، لكن المستصعب قوله، بكلمات تجعل من طعم المرارة نفسها، لسانها، وهي تستمد قيمتها من صدقيتها في تصوير الواقع، ومن أسلوب سردها العالي الفنية والتقنية، في حين أن ثقلها الوجداني يكمن في هذه الإرادة الصلبة، وهذا العزم الحقيقي الصامد، لمواجهة ما ليس قابلاً للمواجهة. لاقت رواية “كل رجل”، وهي السابعة والعشرون في تعداد أعماله، إعجاباً من النقد، على الرغم من أن ثمة من اعتبر أن مقدرات روث في كتابة رواية طويلة تفوق كثيراً مقدراته في كتابة رواية قصيرة، وأيضاً ثمة من رأى إلى بعض أجزاء الرواية في كونها أكثر وقعاً وتأثيراً من الرواية ككل.

“أيها الموت، أنت تجيء عندما تكون الأبعد عن بالي”، هذا ما قاله البطل في إحدى مسرحيات “كل رجل” من القرن الخامس عشر، وهو ما اعتبره روث من السطور الأولى الأعظم في الدراما الإنكليزية. ورغم أن الموت لم يكن بعيداً عن بال بطل روث، إلا أنه ظلّ يتجاهله حتى آخر لحظة في حياته كما لو أنه لن يجيء. تمسّكه الشرس بالحياة أكثر ما تجلّى، في خاتمة الرواية، فهو إذ يدخل الغيبوبة أثناء عمليته الجراحية، تتبدّى له الأرض كوكباً ماسياً من بليون، تريليون، كِدْريليون قيراط، مما يجعل رغبته في الحياة تتجدّد، لكن هيهات! إنّ الإلحاد قد يمنح الشخص مساحة حرية واسعة في حياته، لكن الثمن الغالي، يدفعه لاحقاً؛ في تلك اللحظة التي دائماً تبدو بعيدة، إذ يوشك فيها على مفارقة وجوده، فلا يستطيع احتمال مواجهة ذاك العدم الذي يدّعيه. هكذا يموت بطل روث، بلا عزاء من الأرض أو من السماء سوى أنه عاش.

“كل رجل” رواية حيّة عن الموت، وفيها من المقومات ما سيبقيها تحيا الحياة بعد رحيل كاتبها رغم أنف كل الموت المدفون فيها. كتبها روث بغرض التأكيد على بطلان الفكر الديني، وعلى أن الموت هو الموت فعلاً، والدخول في العدم. ذلك يكون حال الميّت في عالم الأموات – باعتقاد روث – أما في عالم الأحياء، فمؤكداً لم يفته أنّه حين يموت،  فلن يكون من البشر الذين يحيون بحياة أجسادهم، ويموتون بموتها.

 

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *