فيليب روث روائي المحرّمات الأميركية

*فاطمة ناعوت

رحل فيليب روث قبل أن ينال الجائزة التي استحقها هو الروائي الأميركي الهائل، وكنّا نترقّبُ فوزَه عاماً بعد عام. رحل القائلُ: «نحن البشر، نتركُ بقعةً، وصمةً، ذيولاً تتجرجرُ وراءنا. نتركُ دمغتَنا، تلوّثَنا، قسوتَنا، عُنفنا وأخطاءنا… ليس من سبيل سوى هذا، لكي نُثبت وجودَنا هنا». لكن هذا الروائي ترك «دمغتَه» في روايات كثيرة أكّدت وجوده في هذا العالم. وضع روث تلك الكلمات الحادّة على لسان زوكرمان، الذي توسّله روث ليكون الراويةَ الحكّاءَ في كثير من رواياته، مثلما في «الوصمة البشرية» The Human Stain، الرواية التي ترجمتُها للعربية وصدرت قبل سنوات في القاهرة، عن «الهيئة المصرية العامة للكتاب»، سلسلة الجوائز، لحصولها على جائزتيْ: فوكنر الأميركية، وسميث البريطانية، فور صدورها.

فيليب روث «كاتبٌ داهية»، اعتبره النقّادُ «شيخَ الرواية الأميركية المعاصرة»، ومن أكثر روائيي أميركا المعاصرين حضوراً ونفاذاً إلى القارئ، لاعتبارات عديدة، منها المضمونيّ ومنها الأسلوبيّ.

مضمونيّاً: من حيث جسارته الفائقة في الاشتباك مع قضائيا إشكالية، وغزو حقول ألغام خطرة، قد يهابها الكتّابُ الآخرون مثل: الدين والسياسة والجنس. يخترق تلك «المُحرّمات»، ببساطة مَن يحكي عن فنجان قهوة تناوله في الصباح مع مطالعة الجريدة على صوت العصافير. يهدم الكاتبُ أهراماتِ التابوو الثلاثةَ تلك، من دون رهبة من الذين يتحسّسون مسدساتهم في وجه مَن يشارفها، والأهم، «من دون أقنعة». يغزلُ فيليب روث نسيجَه الروائيَّ بخيوط الثقافيّ والجماليّ والحكائيّ، على نحو تهكميّ فريد، يجعلك تلوكُ العَلكةَ المُرَّةَ وأنت تبتسم، فيما مرارتُها تسري في جوفك. وبرع روث كذلك في لعبة ابتكار «السيرة الذاتية الزائفة». فاعتاد أن يقدّم تاريخاً شخصيّاً مزوّراً، عبر شخصية الراوية ناثان زوكرمان، الذي يظهر كثيراً في رواياته. مثلما فعل عام 1993 في رواية «عملية شايلوك»، التي اعترف فيها بأنه كان جاسوساً إسرائيليّاً في اليونان، ثم يضحك في الصفحة الأخيرة معلناً أن اعترافه كان مجرد كذبة. كذلك فعل في رواية «الوصمة البشرية»، حيث نصطدم بالبروفيسور كولمن سيلك، أستاذ الأدب الإنكليزي في جامعة أثينا الأميركية، حين قّدم لأبنائه سيرةَ حياة ملفّقة عن أصول أجداده، كي يحفظ سرَّه الذي أخفاه عنهم طيلة حياته، وجعلهم يعيشون معه أكذوبةَ أنه من أصول بيضاء، غير ملوّنة. ذلك السرّ/ الوصمة، الذي دفع فاتورته مرارات إثر مرارات، انتهت بموته في حقول الصقيع وحيداً من دون رفيق.

وأما أسلوبيّاً: فالكلامُ فيها يطول. بدءاً باللغة التي تُجاورُ بين الخطاب المركب المثقف المتعالي، وبين الخطاب الحوشيّ الفجّ، التي يقترب من الإباحية والبذاءة، بخاصة حين يأتي الكلامُ في الحوار على لسان السوقة والرعاع من البشر. وهنا أعترفُ أن «الوصمة البشرية» قد أرهقتني كثيراً في الترجمة، وكان تحديّاً بالنسبة إلي، بسبب ذلك المزيج اللغوي المتنافر، والذي، أيضاً، يلتقطُ كثيراً من الدارجة الأميركية السوقية، ولهجة اليانكي. فالمعادلةُ الصعبة في الترجمة بعامة، هي محاولة تحقيق أكبر قدر من الأمانة في النقل، مع الحفاظ على أجرومية اللغة المستضيفة المنقول إليها النصّ، العربية هنا، إضافة إلى احترام أسلوبية الكاتب، لأن الكاتبَ، أيّ كاتب، هو أسلوبٌ، وصوغٌ، وليس فكراً ومضموناً، وفقط. أما في حال التصدي لأعمال فيليب روث، فيُضاف إلى معادلة الترجمة تحقيق نقيضين لا يجتمعان: أمانةُ الترجمة، واللغةُ الرفيعة الرصين. ولابد، هنا، أن تجور إحداهما على الأخرى. وكانت اللعبةُ الخطرة هنا، والتحدّي الذي أرهقني، هو محاولةُ الموازنة بحيث لا يحدث هذا الجَور، إلا في أضيق الحدود. وكان أن اخترتُ أن أنتصرَ للأمانة ولأسلوبية الكاتب، وفي حدود ما أمكنني من رصانة اللغة، حيث بعض المفردات التي كتبها روث من بالغ الصعوبة وضعها كما هي في النسخة العربية، لكنني اجتهدتُ أن أجعلها من الوضوح بحيث لن يغيب عن القارئ ماذا كانت في أصلها الإنكليزيّ.

يولي فيليب روث اهتماماً فائقاً بعلامات الترقيم، ومنها الجُمل الاعتراضية، الموضوعة بين شرطتين (-….-)، فتلك الجمل هي أفكارٌ وليدة عن التداعي الحُرّ للأفكار وتيار الوعي. ومع هذا كثيراً ما يتعمد روث أن يُهمل وضع علامات ترقيم أساسية في الجملة الأصلية، كلون من استرسال الحكي، مثل أبناء تيار الوعي Stream of consciousness، كما كان يفعل وليم فوكنر بإغفاله عمداً كل علامات الترقيم في كامل الرواية، وكذلك فعلت جزئياً فرجينيا وولف. ومن أسلوبية روث كذلك «لعبةُ الكرِّ والفرِّ في بناء الشخصية». حيث يلعب مع القارئ لعبةً سيكولوجية مثيرة. لعبة أرجحة التأثير النفسي في القارئ في بناء شخوص الرواية. في بدء السرد، قد يجعلك تمقت شخصيةً ما، لأنها خصمُ البطل، الذي عادةً، في الإبداع القصصي كافة، ما يجعله المؤلفُ محلَّ تعاطف القارئ، حتى وإن كان مجرمًا. وبعدما تمتلئ، أنت القارئ، بُغضاً لتلك الشخصية التي تحاول تدمير بطل روايتك، ينقلب السردُ في الفصول المتأخرة ليفتح لك كوّةً تتلصص عبرها على أسرار حياة تلك الشخصية البغيضة، فيأخذكُ التعاطفُ معها، وربما تنال احترامك وتحصد قلبَك. هنا يقعُ القارئ في الحيرة، وهو الشَّرَك الذي رسمه سلفاً فيليب روث. تفكر: «أيُّ جانبٍ أختار؟ البطلُ أم خصم البطل؟ ومع مَن أنحازُ ضدَّ مَن؟» هنا تكمن الرسالةُ الفلسفية: ليس من خير مطلق، أو شرّ مطلق. و «الثالثُ المرفوع» ليس مرفوعًا، بل حاضرٌ دائماً في دراما الحياة. الكلُّ يحملُ دوافعَه. حتى القاتل، ربما تتعاطف معه لو أحسنتَ الإنصاتَ إلى أوجاعه. شيء مثل هذا سيحدث لك مع شخصية مارك، الابن العاقّ في رواية «البصمة البشرية». ذاك الذي عذّب والدَه (بطل الرواية) طوال حياته. سوف تشفقُ عليه، وتنسى خصومتك معه، لحظةَ وقوفه منهاراً على قبر أبيه. كذلك دُلفين روكس، رئيسة قسم اللغة والآداب بالجامعة، التي نصبتِ الشِّراكَ الخبيثة لبطل الرواية كولمن سيلك، سوف تأخذك بها لحظةُ عطف حين تتعرف على أزمتها الخاصة، وكذلك لِس فيرلي، الزوجُ السابق لفونيا فيرلي، بطلة العمل، المجنّد في حرب فيتنام. سنكرهه كرجل ساديّ يضرب زوجتَه الجميلة بماسورة حديدية، ونمقته كقاتل غليظ القلب، لكنْ سندمع من أجله حين يقفُ عند جدار الجنديّ المجهول لضحايا فيتنام، ليناجي رفقاءه الموتى.

لعبة الضمائر

يجيد فيليب روث اللعب بالضمائر في غير سياقاتها المعروفة. يمزّق الخيطَ الوثيق الذي يربط بين: الضمير، والعائد عليه. معتبراً «الضميرَ»، كياناً منفصلاً قائماً بذاته، حتى وإن كان ضمير المتكلم (أنا-نحن). فيقول مثلا: «أنا» جزءٌ من «نحن»، بدلاً من قوله: «أنا جزءٌ منّا». وهو بهذا يضع الراويةَ/ المتكلمَ، في خانة المراقِب من بعيد، حتى أنه ينفصل عن نفسه ويتكلم عن ضميره: (أنا)، كأنما يتحدث عن شخص آخر، ينتمي إلى مجموعة لا ينتمي إليها: (نحن). ومن خلال سرد الرواية سنفهم أن كولمن سيلك يشير إلى «الملوّنين» بضمير (نحن)، بينما يشير إلى البيض بضمير (هُم). أما (أنا)، فهي الذاتُ الضائعة بين هُويتين وعِرقين وجنسين، لأنه يحملُ بشرةً بيضاء، وجينات ملوّنة لأسرة من الزنوج. وأحياناً يتجرأ روث على اللغة بأن يضيفُ أداة التعريف «ال» إلى الضمير، فتصير: «النحن»، «الهُم»، «الأنا». مثال: «لا تقدر أن تترك الـ «هُم» الكبيرة (The Big They) تفرض عليك تعصّبَها»- «وكلُّ شيء تريد تلك الـ «نحن» (The We) أن تراكمه فوق رأسك»… ذلك النوع من الصوغ الكِنائيّ المجازي، ليس وحسب غريباً على اللغة العربية، بل غريبٌ أيضاً في الإنكليزية.

على أنه وهو يُهشّم الأجروميةَ الصرفية، نجح في التعبير بعمق عن أزمة ذلك الرجل الواقف في حيرة فوق خيط دقيق مرتبك مهتزٍّ بين السواد والبياض، فاقد الهوية، غير منتمٍ، وناقم.

ومن أجلَى الأمثلة على تهشيم فيليب روث للأجرومية اللغوية قوله: to divine gnostically، my unpardonable theyness. فمفردة theyness، كلمةٌ منحوتةٌ، لا وجود لها في الإنكليزية، تتكون من الضمير they، هُم + اللاحقة ness، التي تحوّل الصفةَ إلى مصدر. يودُّ المؤلفُ هنا أن يحوّل الضمير (هُم) إلى مصدر. وكثيراً ما يجعل روث الجملة تتشظّى في بنائها النحويّ والصرفيّ، حين ينقل لنا أفكار شخصية مأزومة أو قلقة أو في حال خطر. لأنه آنذاك لا ينقل لنا كلامَ الشخصية «المنطوقَ» بلسانها، فهي صامتةٌ تفكر، بل ينقل لنا «صوتَ عقلها» وهي تفكر. ينقل لنا «التفكيرَ الخام» قبل أن يتشكّل في كلمات. وعمليةُ التفكير تلك، حار العلماءُ في توصيفها ومحاولة تعيير اللغة التي يفكر بها الدماغُ لحظةَ التفكير.

تتميز روايات فيليب روث بتعدد مستويات الحوار، وفق الشخص المتكلم. فنجد اللغة الأدبية الراقية؛ حين يكون المتحدثُ شخصاً رفيع التعليم، ونجد الفصحى المتعالية؛ على لسان الشخوص المفتونين بالكلاسيكية الإنكليزية مثل لغة شكسبير وشوسر، ونجد الخطاب البرجوازي الدارج؛ على ألسن أبناء الطبقة المتوسطة، ونُصدَم بالمعجم السوقي المبتذل، والإباحي أيضًا؛ حين يتكلم السوقةُ والرعاع. وأما الطاقةُ الصوتية الانفعالية التي تحملها الكلماتُ، من غضب، أو فرح، أو نشوة، أو اندهاش، أو هتاف عالي الصوت، إلخ، فيميّزها روث بالحروف الثقيلة، أو المائلة، أو الحروف الكبيرة Capital letters.

روايات فيليب روث دائماً غنيّةٌ بخيوط متشابكة من الملامح الإنسانية التي تتقاطع مع المجتمع الأميركي والمجتمع الإنساني الأوسع. نواجه غالباً ملمحَ «الهُويّة». إما البحث عن هوية، أو رفضها. كذلك ملمحُ «الطبقية» خصوصاً في المجتمع الأميركي الذي يزعم المساواة. وكذلك الملمح الإنساني والوجودي حينما يتأمل محنة الإنسان مع قضايا الهويات. ودائماً هناك خيط «فلسفيّ»، يتسرّب في نسيج روايات روث، فبين الحين والحين سوف تصادف فلسفات الشرق الأقصى وكذلك فلسفات الإغريق الأوائل خصوصاً السفسطائيين منهم. وحين يتطرق روث في أدبه إلى أهوال حرب فيتنام وأثرها في المواطن الأميركي المجند والمدنيّ، لابد أن يحار القارئُ هل يتعاطف مع الجنديّ الأميركيّ «المعتدي»، أم مع المواطن الفيتناميّ المعتدَى عليه. فكلاهما تعسٌ وبائسٌ ومأمور. ودائماً هناك ملمحٌ «سياسيّ»، يتماس مع تاريخ أميركا الاجتماعيّ والسياسيّ، فينتقده روث وينقضه. إذ يدخل في خبايا البيت الأبيض، يتلصص على فضائح الرؤساء الذين سكنوه، منذ نيكسون وحتى كلينتون، ويُشرِّح خبايا اليهود الذين يتحكمون في مفاصل أميركا. وهناك كذلك الملمحُ «النسويّ»؛ حين يسخر من «الذكور» الذين يتباهون بذكورتهم ويسميهم روث: «ذوو الحفّاضات»، مثلما يسخر من «الشكلانيين» ويسميهم: «ذوو القبعات». ودائماً هناك ملمحٌ ينتقد العنصرية في ألوانها كافة.

أما الملمح «المعرفيّ» فهو أحد المعالم المميزة لفيليب روث، كروائيّ لا يمرُّ على القشور بل يخترق أعماقَ الموضوعات حتى النُّسغ العميق. يُفصِّلُ ويشرحُ ويستفيضُ، فيما يمكن أن يمرَّ عليه كاتبٌ آخر مرورَ العابرين. فمثلاً حين يشرح عملَ فونيا فيرلي في عملية حَلْب الأبقار، سيحكي عن تفاصيل العملية حتى يكون بوسع القارئ أن يقوم بحليب بقرة بعد الانتهاء من قراءة الرواية. كذلك الأمر حين يتحدث عن الملاكمة وأسرارها وفنونها. والحال ذاتها في عالم الإيروتيكا والجنس، وكذلك صعوبات تعليم الأطفال المتعثرين في القراءة، وأيضاً مراسم وطقوس الجنازة على الطريقة اليهودية، وعن جدار شهداء حرب فيتنام من الجنود الأميركان في واشنطن، وعالم الطيور وأنواعها، والميثولوجيا الإغريقية، والعديد من أعلام الأدب والفلسفة والسياسة والفن.

ومن بين خيوط نسيج الواقعية الفجّة في روايات روث، لابد أن نلمح خيطاً شفيفاً من الرومانسية الناعمة، أو الفانتازيا اللامعقولة، يطلُّ برأسه هنا أو هناك. فكأنما خيطُ حرير خجول، يُطلُّ برأسه بين خيوط الخيش. وهنا تتجلى فرادة وعبقرية الريشة التصويرية الفائقة التي يمتلكها فيليب روث حين يقرر أن يرسم بالكلمات، عبر لغة شعرية شديدة الرهافة والعذوبة، بوسعها أن تنقض ما قبلها من لغة مباشرة فجة. رحم الله هذا المبدع الكبير.

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *