*ترجمة وتقديم : لطفية الدليمي
تقديم إلى طبعة ( كتب ماديسون Madison Books )
يظلّ الحب ( وهنا أعني الحب الرومانسيّ ) واحداً من أكثر الموضوعات إستحواذاً على عصرنا هذا ، وربما قد يجادل البعض أنّ هذا الإستحواذ ذاته نتاجٌ لحقيقةِ أنّنا لطالما سُحِرْنا بفتنة الحب إلى حدّ غدونا معه نعذِّبُ أنفسنا ، كما خلقنا حاجة موهومة يشوبها الإرباك للحب نعجز ربّما عن إدراك كنهها أو الإيفاء بمتطلّباتها . إنّ بعضاً من أعاظم الكثُّاب الذين كتبوا بشأن موضوعة ( الحبّ ) جعلوا من الحبّ صنواً للمحنة المُعيقة ، أو نوعاً من جنونٍ ما ، وربّما حتى مرضاً مميتاً لاشفاء يرتجى له ، ولكن برغم كلّ هذا فإن الحب أمرٌ حقيقيّ حتماً : هو أمرٌ ثمين يمكن بلوغه وحيازته في الوقت ذاته ، ومتى ماعرفنا أن نشقّ طريقنا وسط التيه الضبابي الميتافيزيقي فإن الأساطير المضلِّلة والإستعارات الخطيرة – التي جعلت الحب أمراً مخادعاً – ستنقلب حتماً وستغدو الرومانسية حينها موضوعاً قابلاً للفهم والإستيعاب ومتناغماً تماماً مع حياة عاقلة هادئة وسعيدة معاً . ينبغي التنويه هنا – ومن غير إزاحة أيّ من العواطف الشغوفة العظمى حول الحب والرومانسية – إلى ضرورة أن نتنبّه إلى المديات العالية التي رفعنا إليها هذه العاطفة بذاتها فوق أية عاطفة أخرى يحتويها جهاز إستشعارنا العاطفيّ .
يبقى الكثير ممّا كتِب بشأن الحب ، وبرغم كلّ شيء ، متماهياً مع ماكتِب عن الحب في الثلاثة آلاف سنة التي شهدْنا فيها رسائل الحب والمقالات المطوّلة عنه إلى جانب الشعر الرومانسي ، وإتخذت كلها واحداً من موقفيْن : إمّا موقف غير ناقد ومفعمٌ بحسّ الإحراج من تناول مادة الحب أو موقف ساخرٌ طافحٌ بالمرارة يدافع عن مصالح المرء الشخصية فيما يجترحه من قرار . نحن مُرغَمون في نهاية الأمر على الإختيار بين طائفتي ( المُعسّرون Foggers ) و ( المُيسّرون Facilitators ) في الحبّ : إن نظريات هؤلاء تمتدّ على مدىً واسع يبتدئ بالتجريدات الضبابيّة ويمرّ عبر الصواميل والبراغي ( إشارة إلى التفاصيل ذات الطبيعة العمليّة ، المترجم ) ثمّ يمرّ بالتفاصيل العملية المفرطة لينتهي المطاف به عند مايشبه دروس الحصص المدرسية التي تعمل على تحسين أساليب ” التخاطب ” والتي يُسمَعُ فيها على الدوام عبارة واحدة قصيرة تتكرّر على نحو متواتر ( تعلّم الإصغاء !! ) – تلك نصيحة ثمينة بلا شكّ ولكنّ مثيلاتها قلّما أزاحت النقاب عمّا تعنيه طبيعة الحبّ وفائدته لنا .
( حول الحب : إعادة إكتشاف الرومانسية في عصرنا ) هو مجسّي الشخصي الذي أستكشِف بواسطته هذه العاطفة الأعظم قيمةً بين كل العواطف : وعودُها ، مسرّاتها ، خيباتها ، والمخاطر الملازمة لها . كيف يمكن لنا أن ” نجد ” الحب ، أم أن الحب أمرٌ نخلقه نحن ؟ لِمَ نجد الأمر متلفّعاً بالصعوبة أحياناً عندما نحبُّ ، أو عندما نبوحُ بحبّنا ، أو عندما نبغي التعبير عن حبّنا بطريقة مقبولة وكافية ؟ لِمَ يمضي الحبّ أحياناً في المسار الخاطئ ، ولِمَ نختار أحياناً الشركاء غير المناسبين لنا ؟ . يُعامَلُ الحبّ غالباً على أنّه لايعدو جائحة حماسةٍ جنسية مرافقة لطور البلوغ ، ولكنّ هذه الخرافة الأسطورية – إلى جانب عدد آخر من نظيراتها المدمّرة – كفيلة بجعل الحب الناضج أمراً يستعصي بلوغه بسبب سوء إدراك طبيعته .
بعد أن نتبيّن وقع خطانا وسط الضباب الميتافيزيقيّ والأساطير المُضلّلة والإستعارات الخطيرة التي جعلت الحبّ يبدو أمراً مُخادعاً ومناوراً عنيداً ، أبتغي التأكيد على أنّ الرومانسية يمكن إدراكها وبلوغها ، وهي أمرٌ متوافقٌ مع حياة عاقلة وسعيدة . الحبّ أمرٌ ” طبيعيّ ” بالطبع وهو مايعني القول أنه يتبع بيولوجيّتنا ( تركيبتنا الأحيائيّة ) ولكنّه ينطوي على هيكليّة إجتماعيّة ومسؤولية فردية في الوقت ذاته . إنّ أطروحتي الأساسية هنا هي أنّ الحبّ ينبغي إكتشافه ، وأن يُعادَ إكتشافه من قبل كلّ جيل وكلّ ثنائيّ Couple متحابّ .
يشعر أغلبنا بعدم ” إكتماله ” من غير الحب ، ولاأعني في هذا الموضع محض الشعور بضرورة وجود ثمّة من يحبّنا بل أعني ماهو أعظم أهميّة للروح وهو أن نُحِبّ نحن حقّاً : هذه موضوعة تغور بعيداً في الأزمان القديمة ، ومثالها الأكثر شهرة هو التسليم الذي أذعن إليه أفلاطون أزاء أريستوفانيس Aristophanes في حلقة أفلاطون الدراسية الذائعة الصيت حيث لم يعُد يفهَم الحبّ بأقلّ من كونه ( إكتمالاً ) لنِصفَيْ روح ماكان في مقدورهما الإكتمال بغير الحبّ . أسعى في هذا الكتاب إلى إستكشاف تلك المواضعة الفاتنة – التي تشكّل مصدراً جاذباً لنا – والمؤسّسة على الإحساس الذي نحاول بواسطته ، وبإعتبارنا أفراداً مستقلين نتمتّع بذاتيّتنا الخالصة ، السعي نحو ( إكمال ) أنفسِنا ، أو لنقل الأمر بطريقة أكثر حرفيّة ودقّة : السعي لإعادة تعريف أنفسِنا مع – ومن خلال – شخصٍ آخر .
في الوقت الذي نعيدُ فيه تعريف أنفسِنا فإنّنا نعمل أيضاً على إعادة تعريف الحبّ ذاته ، ومع الحبّ نعيد النظر في كيفية فهمنا لمفاهيم أساسية وحاسمة مثل : الحميمية ، الإخلاص ، الإنجذاب الجنسيّ ، الرضا والشعور بالإرتواء . يتمحورُ هذا الكتاب كلّه وبإختصار حول ( إعادة إكتشاف الرومانسية لعصرنا ) كأفراد – سواء في ثنائيات أو جماعات – أو كجزء من ثقافة أكبر وأكثر تنوّعاً وترتقي بإضطراد متسارع .
لستُ أعِدُ هنا بأيّ وصفاتٍ من شأنها تسريعُ النجاح في الحبّ ، ولكن يملؤني الأمل بأنّ ماأقوله ( في هذا الكتاب ) لايبدو موغلاً في التجريد بسبب طبيعته الفلسفية ( ولاأبتغي هنا توكيد أيّة إعتذاراتٍ مسبّقة ) . إنّ واحدة من المقدّمات المنطقية التي يقوم عليها هذا الكتاب – والتي أؤمن بها بقوة – هي أنّ ماندعوه ( حبّاً ) لاينهض على محض البيولوجيا الخاصة بنا فحسب بل على سياقاتنا المجتمعية وعلى أفكارِنا أيضاً ، وأجادِل في الوقت ذاته أن مانؤمن به بشأن ( الحبّ ) يلعب دوراً عظيماً في كيفية تعاطينا مع الحبّ ، أو – وذاك أمرٌ محزنٌ حتماً – مع عدم قدرتنا وفشلنا في الحبّ ، أو الحب بطريقة غير رصينة . أقول ، وبتواضع ، أنّ هذا الكتاب هو جهد فلسفيّ لفهم واحدة من أكثر عواطفنا عرضة للتقلّبات ، كما أقول بإلحاحٍ ، ومن غير تواضع هذه المرّة ، أنّ غايتي من وراء هذا الكتاب هي الإتيان بتغيير ملحوظ في حيوات الناس .
منذ ان نُشِر هذا الكتاب قبل عقدٍ من الزمان أجد نفسي ملزماً بإبداء الشعور بالإمتنان بعد سماعي من الكثيرين بأن كتابي هذا ( حول الحبّ ) قد عمل حقّاً على تغيير حيواتهم ، كما أجد نفسي سعيداً لأنّ كتابي وجد طريقه نحو الورش الدراسية العديدة والمفيدة التي تتعاطى مع موضوعات مثل الزواج والعلاقات العاطفية في طول البلاد وعرضها ( يقصد المؤلّف الولايات المتحدة الأمريكية ، المترجمة ) . إنّ هذا هو ماطمحتُ إليه منذ البدء وهو ذات ماأطمح إليه الآن حيث يظهر كتابي بطبعة ثانية وهو في حلّة جديدة .
روبرت سي. سولومون
أوستن ، تكساس
ثمّة سؤال جوهري وحيد ، وذاك السؤال هو : كيف السبيل لإدامة الحبّ ؟
توم روبنز*
لوحة ( حياة ساكنة ) مع نقّار الخشب
هذا كتابٌ حول الحب – الحب الرومانسي : تلك العاطفة التي لطالما شهدت إحتفاءً بها مثلما طالها الإزدراء الساخر والنقد ، كما سعى وراءها الكثيرون بيأسٍ وتاقوا إليها توقاً عظيماً فكان المتوقع – بالنتيجة – سوء فهمٍ طاغياً لتلك العاطفة ، وإنّ سوء الفهم هذا على صعيدَيْ الفكر والتوقّع يقود إلى تفاقم اليأس والمأساة في الحياة اليومية العملية . عمل أغلبنا ولوقت طويل على تطوير نظرةٍ متناقضة بشأن الحبّ فكانت النتيجة أنّنا بتْنا نجد الحب المستديم مسألةً تنطوي على المخادعة وصعبة المنال بل وحتى أحجية عويصة .
نميل في الغالب لتعريف الحبّ بطريقة لايمكنه معها إلّا أن يكون تجربة إنتقالية مؤقتة وعابرة ومن ثمّ نروح نتساءل – وبطريقة لاتخلو من مرارة مفجعة احياناً – عن السبب الكامن وراء عدم دوام الحبّ ، كما أنّنا نؤمن بإلحاح أنّ الحبّ ” شعور ” ثم نشتكي لاحقاً عندما تنفجر فقاعةٌ في تلك العاطفة الفوّارة ، ونقول على الدوام أنّ الحبّ ” شغفٌ ” ثم تنتابُنا الخيبة المريرة عندما يموت شيء ما في ذلك الشغف ، وغالباً مانقرِنُ الرومانسية بالجدّة ثمّ نمضي لإبداء إعتراضنا بعد أن يغدو الجديد متقادماً ، وغالباً مانُبدي مظاهر الإحتفاء بالحبّ في طوْر شبابنا الباكر وبعدها نتساءل : لِمَ يغدو الحبّ عصياً وعرضةً لمشاكل جمّة في أطوار الحياة اللاحقة . في الوقت ذاته عملنا على دفع الحبّ إلى مستوياتٍ مثالية عسيرة البلوغ بات معها الحب المستديم حالة لايمكن حيازتها – على سبيل المثال لطالما تمّ تعليمنا بإضطراد أنّ الحب ينبغي أن يكون غير أنانيّ بالكامل في حين أنّ الحقائق الملموسة تؤكّد أنْ ليست ثمّة من عاطفةٍ مثل الحبّ تفعل فعلها المؤثر في نفس المرء ، وإلى جانب هذا ثمة صراعٌ حقيقيّ بين القيم التي نختبرُها في الحبّ وبين الفضائل التي تجعل الحبّ قادراً على النماء والإستمرارية وهو الأمر الذي يقود إلى تركيز صورة عن الرومانسية ونزعة الإنجذاب الرومانسيّ تخدم بمثابة الأطروحة المُعاكسة للحب القادر على الدوام .
ربما كان الأسوأ بين كلّ الأمور هو ماتمّ تعليمُنا إيّاه بشأن كون الحب أبدياً بينما الحب في حقيقة واقعه هو أمرٌ يُكتشَفُ – ويُعاد إكتشافه – على مدى التأريخ المعروف بكامله ، لذا فإنّ النتيجة المتوقّعة من وراء فهمنا هذا هو إمتلاؤنا بإحساسٍ لايفتأ يُملي علينا أنّنا متى ماوجدنا الحبّ بإخلاص فسنضمن إستدامته إلى الأبد في حين أنّ الحقائق على الأرض تؤكّد أن الحب تساؤل مفتوح النهايات دوماً إلى جانب كونه مسؤولية فردية لافكاك عنها .
كيف السبيل إلى إدامة الحبّ ؟ إن الاطروحة التي يقوم عليها هذا الكتاب هي أنّ الحبّ صيرورة عاطفية لاتتطلّب الوقت فحسب بل يمكنها بلوغ تخوم المستقبل حيث يكون في مقدورها بناء أسسها الراسخة فيه . الحب ليس شعوراً أو شغفاً لحظوياً ولاينبغي النظر إليه أو مقايسته بمحض المفردات المحدودة لِـ ( الإنجذاب الأوّلي ) وتفجرات الحب في باكورة الشباب مثلما لاينبغي المبالغة في تدجينه أو رفعه إلى مرتقياتٍ موغلة في النزوع المثاليّ . الحبّ لايدوم لأنّنا نسيئ فهمه ونفقد الرغبة فيه أو نتعامل معه كشيء معطىً مفروغ منه أو قد نخنقه بالأعباء والإنشغالات الرتيبة ، بل يدوم الحبّ عندما ندرك أنّه القيمة الأساسية والأولية في حياتنا ، وعندما نواجه المشاكل المرافقة له – أو الناجمة عنه – بشجاعة ، وعندما ندرك أنه ” صيرورة ” وليس محض شغفٍ عاطفي خالص . إنّ هذا الكتاب بشكل أساسيّ هو كتابٌ مصمّمٌ ليناقش موضوعة ( ما الحبّ ؟ ) في المقام الاوّل .
الحب هو التجربة الأكثر إنعاشاً – مثلما قد تكون أحياناً الأكثر إيلاماً وتدميراً – التي إختبرَها أغلبنا أو سيختبرُها لاحقاً في حياته ، ولطالما تمّ الإحتفاء بالحبّ على أنّه تجربة دينية ولكن طبيعة الحب ” الحقيقي ” غدت شائكة وذات نكهة لاهوتية مثل مفهوم الدين الحقيقي ، ومنذ أن رفع أفلاطون ذلك المعبود المحلي المبتذل المدعوّ ” إيروس Eros ” إلى مرتبة الألوهية وميّزه تمييزاً صارخاً ودقيقاً عن الحب اليومي العاديّ كان ثمّة صراعٌ عصيّ على أيّة حلول بين الجرعة المثالية الفائضة في النظرة إلى الحبّ وبين الحقائق الأكثر دنيوية والأقلّ أثيريّةً حول العلاقات العاطفية الجنسية وتقلّباتها . غالباً مايتمّ الإطراء على الحبّ بإعتباره ” هِبةً سماوية ” ويتم توضيح طبيعته المتطرفة بواسطة مفرداتٍ تجنح بعيداً – ربما إلى حدود لانهائية – عن تخوم الرغبات والعواطف الإنسانية الخالصة . إنّ أفكارنا عن الحبّ اليوم تبدو موغلة في التمزّق بين النزعات الواقعية والمثالية ، وبين الإحساس بالحضور العادي والطبيعي للحب وبين ندرة الحب الحقيقي والصعوبة التي تكتنفه . بتنا نطلب معجزة ونتوقّع حدوثها بالطبع .
بيْد أنّ مثل هذه المعجزات تحصل طول الوقت وبالرغم من كلّ شيئ : في كل مساء وفي أمريكا وحدها ينخرط مايقارب الستة آلاف مراهق في تذوّق تجربة فعل الحبّ ( فضلاً عن فنونه ) ، وفي الوقت ذاته يشهد كل يومٍ في أمريكا ذاتها ستة آلافٍ من حالات الطلاق حيث يبلغ الحبّ نهايته المُشرْعنة ( الأرقام مستفادة من توم باركر ، في يومٍ واحد ، 1984 Tom Parker, In One Day, 1984 ) – تلك علاقة إحصائية لاينبغي أن نغضّ النظر عنها . إن هذه الإحصائيات الرقمية تهوي على الأمة الأمريكية بمطرقة ثقيلة وينشأ عنها نتائج شبيهة بنتائج الإستطلاعات الانتخابية حيث تقود اللغة الهادئة التي تعبر عن الحقائق الصارخة المشهد الذي نبتغي معه إصطياد الحقيقة بطريقة حصرية ونحن في القرن العشرين ( أرجو الإنتباه إلى أن هذه الطبعة الثانية من كتاب سولومون نشِرَت عام 2000 ، المترجم ) . إنّ ماينبغي أن يصيبنا بالصدمة ليس ” أحجية ” الحب بل كونه بات حالة غارقة في الإعتيادية بالنسبة لنا وإستحالته شيئاً مفرطاً في العاديّة الصارخة بعد أن لم يعُد الحبّ عاطفة نادرة تجمع ( روميو و جولييت ) معاصِريْن ببعضهما وعلى نحو المصادفة غير المتوقعة بل غدا الحبّ شعوراً يتشاركه الملايين الذين يقومون على تدبير شؤون عائلاتٍ غير محكومة بالمضي في طريق الفشل وإنفراط العلاقة – وذاك مبعث سعادتنا بالطبع – إلى جانب هؤلاء الذين يمكن لحبّهم أن يكون مبعث راحةٍ – بل وحتى فكاهةٍ – بدلاً من كونه عبئاً مأساوياً ، ولكن يبدو أحياناً ، وكمفارقة ساخرة ، أن هؤلاء الأكثر تلاؤماً مع الحبّ ، والأعظم تفكّراً وإمتلاكاً لضميرٍ حيّ تجاهه ، والأقدر على إجتراح أسباب النجاح في الحياة بعامة – يبدو هؤلاء هم الأكثر رهقاً وعنتاً في إيجاد الحب المناسب لهم وفي جعله يدوم كذلك .
تتمثّل المشكلة أعلاه مع المفارقة الساخرة الملازمة لها بشأن هواجسنا الإستحواذية حول الحب في أننا فقدنا القدرة على بلوغ معرفة ( ماهو الحبّ حقاً ؟ ) وأبطلنا التفكير المتفحّص بشأن ماينبغي أن يتأسس عليه الحب . الحبّ ( وحاله في هذا مثل السعادة ) يمكن أن يطاله على نحوٍ أسهل بكثير هؤلاء الذين لايلهثون وراءه طول الوقت وكذلك الذين لايتوقّعون تضخيماً مبالغاً فيه للنتائج المتوقعة منه والذين هم غير متعجّلين لجني قطافهم من ثمار الحب . نحن غالباً مانتوقع الكثير من الأمنيات ونضع الكثير من التوقعات المبهجة في سلّتنا منذ بواكير الحبّ الأولى ونبالغ في التأكيد على أن الشيء الحقيقي الوحيد هو ” الحبّ ” إلى حدودٍ ندفع معها أنفسنا إلى تخوم الفشل الذريع . نحن ” نقع ” في الحبّ وحتى لو إنتهى ذلك الحبّ إلى الفشل المقيم بعد سبعة أسابيع أو سبع سنوات من بداياته فإن هذه التجربة ستكون كفيلة بتوفير برهان حاسم لنا بأن الحبّ ممكن من خلال مايوفره لنا من شعور الإنتعاش ، والتكريس القلبي الكامل ، والدهشة المتبادلة ، والثقة ، وأعجوبة المشاركة الحقيقية الحقّة لحياة فرد مع فرد آخر ؛ ولكن مايحصل أغلب الأحيان هو أنّ الحب لايدوم ومايحصل أكثر من هذا هو أن الحب يبقى عالقاً في السماء ولايترجّل على الأرض ، وهكذا لاتكون النتيجة خيبة فحسب بل مرارة وصورة موهومة وإحساساً بالخيانة والخذلان وإنزلاقاً متهوّراً إلى الإقتناع بأن الحب ذاته وهمٌ وفنتازيا ودعاية محضة وآلة صمّاء بل حتى قد ينتهي المرء إلى إعتبار الحب مؤامرة كبرى !! ، وقد يحصل في أحيان أخرى أن ينزلق المرء لينتهي عند قناعةٍ مكيّفة آيديولوجياً هذه المرة ( وأكثر قدرة على التدمير من القناعات السابقة ) ، وتقوم هذه القناعة على أن الحبّ أمرٌ حسنٌ في ذاته ولكن الرجال أو النساء – أو الرجال والنساء معاً – ” غير قادرين على الإتيان بأية فائدة لبعضهم ، ولاخير يُرتجى فيهم ” – وهنا نلمح نوعاً من الإحباط الذي تمّ رفعه إلى مصاف الحكمة المتبصّرة ، ونلحظ أيضاً أن الغضب الصبياني قد رُفِع إلى مرتبة أن يكون سياسة مُعتمدة ؛ لكن لائحة الإتهام هذه بحق الحب قلّما تبقى على حالها ويحصل في غالب الأحيان وبعد بضعة أسابيع أو شهور أن يعاود المرء ذاته سعيه اللحوح في طلب الحب ثانيةً . هنا نتساءل : هل أنّ مانطمح إليه ونسعى جدياً في البحث عنه هو بالضبط ماينبغي أن نسعى في طلبه حقاً ؟ إنّ هذا التساؤل يشي بشيوع مفهوم سلطوي شموليّ بشأن الحب ينبغي لكلّ منّا الإذعان له ولكنّ حقيقة الأمر هي على العكس تماماً ؛ إذ يسعى هذا التساؤل للتأكيد على حقيقة أنّ الحبّ موضوع خاصّ وشخصيّ بالكامل ممّا يمنح كلّاً منّا الإمكانية للمساهمة في إعادة إكتشاف الحبّ تبعاً لحاجاتنا وظروفنا الخاصة .
* توم روبنز: Tom Robbinsمؤلف وروائي امريكي ولد 1932 ومعروف بقصصه ذات النكهة الشعرية التي تحوي إشارات قوية إلى المضامين الإجتماعية والفلسفية المؤثرة كما يستقصي في أعماله الحقاق الغريبة وغير المتداولة .
( المترجمة)
________
*المصدر: المدى
__