شعر ضد الخراب

خاص- ثقافات

*ناصر سالم المقرحي

” ما ليس شيئاً ” ديوان الشاعر السوري نزيه أبوعفش الذي كُتِبت قصائده ما بين سنوات 79 – 82 م وفيه نعثر على أبوعفش الناصع والمخلص لقصيدة النثر – إذ لم يكتب سواها بحسب اطلاعي المتواضع على إنتاجه – , في هذا الديوان الذي لا يبتعد كثيرا عن البدايات بحسب تصوري وعبر لغة مشحونة بالغضب والرقة في آن وبنبرة حادة وحالمة في نفس الوقت عكست بجلاء ما يضطرم في صدر قائل قصائده ورسمت بمداد واضح ما حدثته به نفسه الأمّارة بالشعر وأشياء أخرى من بينها التساؤل والأحتجاج وحتى الصراخ في وجه العالم , العالم الذي ما فتيءَ يدفع الشاعر إلى الكفر به وشتمه بما يليق به من عبارات , في هذا الديوان نلتمس ذاك العنفوان والحماس وذلك القلق الوجودي والحيرة وذلك الغضب الذي يتفجر كل مرة بهيئة قصائد لا تهادن , وفي ذات الوقت الذي يلعن فيه الشاعر العالم وينعى خرابه نراه يحتفي بما يمكن أن يكون منقذاَ لهذا العالم من الخراب نراه يحتفي بالمرأة وبالأنوثة بشكل عام كما لو أنهُ يريد القول بأن تأنيث العالم هو طريق خلاصه , وكأنه يريد القول أن الأحتفاء بقيمة الأنوثة التي هي صنو الخير والمحبة والخصب والنماء طريقة لتهدئة ضراوته , وأن العالم , هذا العالم الخرِب إذا ما نُظٍرَ إليه بمنظار الأنوثة سيتخلى عن بعض قسوته وشراسته وسيبدو قابلا للعيش فيه وصالحا للحياة .
وسط الكم الهائل من الكوابيس والهواجس والمخاوف والهذيان والجنون والمقابر والموت والقتل والرصاص والمجازر والطغاة والحروب والمرارات التي حشرها لشاعر في متن قصائده نعثر على قصائد ومقاطع شعرية حالمة تنتصر للحياة وتحتفي بالمرأة .
والشاعر الذي أرهقه العالم بمآسيه وحروبه وخرابه لا ينفك يبحث عن مهرب لائق حتى وإن كان في النوم ففي قصيدة وأنا نائم يقول مثلاً :-
في سريري وأنا نائم
وعلى بُعد كابوس أو أكثر من الصباح
أحشر قلبي تحت الوسادة
وأحلم بامرأة وديعة
تخلع عني الثياب والكتابة
والصداع النصفي .
*****
ويهتف في قصيدة أخرى :-
لا تشبهك النساء ولا تشبهك الملائكة
أيتها الأميرة التي من ذهب وماء ورد وأعاجيب
لا تشبهك النساء
مزيج من شعاع آلهة وأدوات ريح
خلاصات نبيذ وأنبياء وعصارات بنفسج .
وحين يُطبق اليأس على الشاعر يجد في الشعر متنفسا فها هو ذا يرصد حالة من حالات يأسه ووحدته وقنوطه من صلاح العالم حين لا سبيل للخروج من الورطة إلا بالشعر :-
تجلس خلف النافذة
مغبشا بالصباح
مبقعا بكحلي الليل
تنتظر أحدا لا يجيء
لا يجيء سيدي
فاشرب شايك بهدوء وقل أن هذا ممتع
كنزك كله في فنجان شايك
فاشربه على مهل وقل
يا للذة
ولا تستقرئ النافذة
ولا تستوضح الهواء
ولا تصدق برج السرطان
ولا تصدق مزوري الأوسمة
ولا تصدق الذين قالوا أنتظر سنأتي
لا أحد سيأتي . . صدقني
من عادة الناس الرحيل
ولا أحد يعود سيدي
لا أحد يصدق سيدي
لا أحد في بريد الوقت
لا أحد
ولا تؤجل شيئا
كن على عجل وسريعا , وجاهز اليأس
قل حزنك فور وقوعه .
*********
إلى أن يختتم قائلاً :-
أنا حزين هذا الصباح
إلَهي فهل تعرف ماذا أعني ؟
******
ويتدفق الشعر غزيرا في هذا الديوان تارة بشكل قصائد طويلة وأخرى بمقاطع شعرية قصيرة تشبه إلى حد بعيد قصائد الومضة إن لم تكن هي بذاتها إلى أن نصل قصيدة ” أغنية ” التي تتشح عباراتها بالأسى فالشاعر يجد نفسه غريباً ووحيدا في ليلة يُفترض فيها أن يهطل الثلج ويجتمع الأصدقاء , إنها ليلة رأس السنة , كما لو أنهُ يخاطب أصدقاء مفترضين يقول وقلبه مفعم بالوِحدة :-
تابعوا رجاء
لنمضي في الغناء
إن قلبي حزين
لأن الثلوج لم تسقط هذه السنة
في ليلة عيد الميلاد
********
” أنا البنت الحكيمة , أنا البنت العاشقة ” قصيدة أخرى من قصائد الديوان الثلاثون تقود إلى المختلف من القول وفيها يستعير لسان هاته البنت ليقول شعرا ما لم تستطيع قوله صراحة , هنا يمنحها الشاعر فسحة لتقول ذاتها وتُفصح عن مكنوناتها دفعة واحدة ففرصة كهذه لا تتكرر مرتين , فلنستمع إلى بعض اشتهاءاتها إلى بعض شهقاتها , هاته البنت العاشقة والمتفتحة لتوها كوردة يانعة :-
أنا العاشقة المجربة
أنا العاشقة الحكيمة
أُلملم نداي وصمغي
وأسند السماء بأصابعي
مبتلة بجرحي اللذيذ
ومسراتي الأولى
أكشف ركبتي للعصافير
وأُدخِل الشمس إلى صدري
أستدرج النحلة إلى ثديَّ الذاهلين
وشفتي المحنكة
ثم أمر بقلبي على الجبال
والأسيجة
والمنازل المبهمة
أطلق سراح النساء
والمعتقلين السياسيين
وتلامذة المدارس المغفلين
أضرب الجنود على مؤخراتهم الثقيلة
وأسوقهم إلى حجرات اللذة المهيأة
والأسِّرة المتروكة للغبار
وبإشارة X بسيطة مرتجلة
سأشطب الملوك والعباقرة ومفسدي لذائذ الأرض
وبأصبع صغير أو عصا أو قلم غير مبري
أمر على تخوم الممالك والبلدان
مزيحة المفارز والخودات ومحاكم أمن الدولة
دائسة بضراوة
على القنصليات وكولبات الحدود . .
نافخة بغير شفقة
على حواجز بيروت الطيارة
وجدار برلين الأحمق .
في العموم هذا ديوان وضِعَ بقصد مساءلة العالم مساءلة الحياة وقول ما يعتمل في النفوس من هواجس ومخاوف , ونيابة عن الكثيرين يقول الشاعر هذه المخاوف فالشعر هنا لا يهادن ولا يمالي ولا يعنيه أن يكون جميلا وحالما بقدر ما يعنيه أن يخلخل الثوابت ويحرك السواكن , شعر كالذي نتحدث عنه من أهدافه نقل العدوى إلى المتلقي ليصير هو الآخر ثائراً غاضباً حانقاً راغبا في التغيير للأفضل , ليصير شاعراً .
هذه إطلالة سريعة على ديوان ” ما ليس شيئاً ” نتغيا من بين ما نتغيا منها , ملامسة جوهره والمستتر فيه , سيما وأن الشاعر الذي لم يكن لديه ما يخفيه على ما يبدو كان نزيها في عرض همومه ومشاغله ونكث كل عفشه أمام المتلقي الذي لم يتأخر بدوره وأخذ ينبش بشغف في ما نكثه الشاعر .
وأياً كان فإن قصائد الديوان وبعد مرور كل هذا الزمن مثلت مرحلة من مراحل الشاعر وعكست بوضوح قناعاته ورؤيته للحياة والواقع الذي لم يتغير كثيرا لناحية أنهُ سيء على الدوام أو يراوح ما بين السيء وشديد السوء وها هي الحرب وبعد أن برزت حقائق جديدة لا تزيد الشاعر إلا حنقا وغضبا هذه المرة على باروناتها ومزودي آلتها الجهنمية بالوقود , وكعادته الشاعر لا بد من أن يتبنى موقفا من الذي يحدث ولهذا نراه الآن ينحاز للحياة وللسلام ولسوريا بعد أن سقطت الأقنعة وبانت النوايا , وإلى أن تنتهي الحرب سيظل الشاعر يدحض بشعره كل هذا العبث وكل هذا الخراب حيث الموت هنا واقعي أكثر  من أي وقت مضى .
وهنا أجدني أُذكَر بمناسبة اهتدائي إلى هذا الشاعر , إذ حدث أن اطلعت على قصيدته المعنونة ب ” طوبى لهذا الصبر ”
في صفحات الوسط بمجلة الكفاح العربي لصاحبها وليد الحسيني في أحد أعدادها الصادرة ثمانينيات القرن الماضي مرفقة برسم معبر لأحد فناني المجلة هو عبارة عن جسد مسجى ومُقطع بحيث بدا كتمثال حجري مهشم ومُلقى على الأرض ولا زلت أتذكر بعض ملامح ذلك الرسم الذي عزز من دلالات القصيدة رغم مرور كل تلك السنين , ولأن القصيدة وافقت هوىً في نفسي حينها بحمولتها من الأسئلة الحارة وبجرأتها الغير معهودة ولهجتها الحادة والصادمة وجدتني منساقاً وراء هذا الشاعر إلى حد أنني اقتنيت أعماله الكاملة الصادرة عن دار المدى بأحد دورات معرض طرابلس الدولي للكتاب قبل أن يستعيرها أحد الأصدقاء وتُصادر , والغريب في أمر الديوان أن عنوانه – ما ليس  شيئا – ليس عنوانا لأحد القصائد الواردة به على غير عادة الشعراء الذين يسمون دواوينهم بإحدى قصائده , كما لو أن الشاعر هنا ضرب عصفورين بحجر – رغم أنني لا أحب هذا المثل فمن يضرب عصفور بحجر أو بغيره هو من يستحق الضرب – حين جعله عنوانا جامعا لقصائد الديوان ومحيطا بها ومؤطرا لها في ذات الوقت الأمر الذي أضفى عليها بُعدا إضافياَ .
***********

طرابلس – ليبيا

شاهد أيضاً

أول رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي

(ثقافات) أوَّل رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي: أركيولوجيا الصورة في رحلة ابن بطوطة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *