عندما أصدر عالم الاجتماع العراقي الراحل علي الوردي كتابه «وعّاظ السلاطين» قبل أكثر من ستة عقود، كان العالم العربي يعاني من استبداد اجتماعي واستعباد سياسي، ولم يكن من الممكن لمثقف قرر عدم الارتهان إلا لوعيه كالوردي، إلا أن يقترب من الحقيقة حتى لو كان وهجها يلفح وجهه وأصابعه.
وما أن صدر الكتاب حتى أضاف وعاظ السلاطين من أشباه المثقفين إلى الاستبداد والاستعباد، استعداء السلطة، فصدرت على الفور عدة كتب تولى مؤلفوها الرد على الوردي، لكن أطروحاتهم جاءت رغما عن إرادتهم بمثابة تكريس لما قاله الوردي لأن التخلف يمكن له أن يتجسد ولا يعود مفهوما تجريديا إذا كانت مقارباته الفكرية من إفرازاته السامة.
واذا كان الوعاظ كما رأى الوردي لهم سلاطين يعيشون في ظلالهم ويسبحون بحمدهم ويتعهدون تبرير أخطائهم وخطاياهم، فإن للتنابلة في تاريخنا شأنا آخر، فهم كما قرأنا عنهم كانوا مثالا لكائنات طفيلية منزوعة الإرادة والكرامة معا، وعقولهم في آذانهم كالببغاوات، لكن ما طرأ بعد ذلك هو أن التاريخ أنتج في إحدى نوبات غيبوبته تنابلة من طراز جديد، فهم بلا سلاطين وعاطلون عن التنبلة لا عن العمل، فهم قرروا الإقامة في الهوامش بانتظار ما تجود به المتون، ولا مانع لديهم من أن ينافقوا بالمجان، لأن الطبع يغلب التطبع، والإنسان إذا أدمن الخنوع قد يصاب بالماسوشية ويستمرئ النبذ والتهميش، بحيث يصدق عليه قول الشاعر وهو أنه يدع المكارم ولا يرحل لبغيتها، لأنه الطاعم الكاسي، وهنا استخدم اسم الفاعل لينوب عن اسم المفعول على سبيل السخرية، ويبدو أن السلاطين بمرور الوقت وتعاقب التجارب أدركوا أن هناك من أفسد الاستبداد فطرتهم البشرية، وأفرغهم من آدميتهم، بحيث يبحثون عن القيود خوفا من الحرية ذات الأعباء التي لا يقوى عليها غير ذوي الإرادة الباسلة.
وما قاله علي الوردي عن وعاظ السلاطين يصدق إلى حد بعيد على التنابلة، حتى لو كانوا أيتاما وبلا سلاطين، وإذا كان الوعظ كما يقول يجعل الناس شديدين في نقد غيرهم لأن المقاييس الأخلاقية التي يسمعونها من أفواه الوعاظ عالية جدا ولا يستطيعون تطبيقها على أنفسهم، لهذا يلجأون إلى تطبيقها على غيرهم، والدليل المتكرر على ما يقوله الوردي هو أن بعض الناس يستثنون أنفسهم باعتبارهم معصومين ومن يهجو قومه بسبب تخلفهم لا يشمل نفسه في هذا الهجاء، لأن هاجس تبرئة الذات يتفاقم لدى من هم أقل وعيا، وبالتالي أقل اعترافا بالخطأ، وهذا بحد ذاته أحد أهم أسباب غياب النقد الذاتي.
وإذا صح أن هناك تصنيفا للعبيد فإن أدناهم هم الذين تتاح لهم الحـــرية فيلوذون بالفرار منها، لأنهم أصداء وليسوا أصواتا، وظلال وليسوا مصدرا لأي ضوء، لهذا فإن تنابلة عصرنا يبحثون عن سلاطين، وحين لا يجدونهم يخترعونهم من خيالهم ومن فائض ما تراكم في دواخلهم من ماسوشية.
والتجلي الثقافي لهذه التنبلة يتلخص في ما يسميه الشاعر محمود درويش الطنين، الذي يصدر عن أناس يشبهون تلك الذبابة التي تحدث عنها تشيكوف، والتي تطن وتحوم حول ذيل الجواد لتقول له إنها موجودة، ما يضطره بعد نفاد الصبر إلى الصهيل، فهي أصغر من أن تكون هدفا لرفسة منه، وحين يكون العدو ضئيلا ويوشك ألا يكون مرئيا بالعين المجردة، كما في أسطورة الإله أندرا والشيطان، فإن الانتصار عليه يصبح أنكى من هزيمة، لهذا كان من أدبيات الفروسية في التاريخ أن يمتدح الفارس قوة خصمه ولا يقلل من شأنه، لكي لا يكون لانتصاره معنى.
تنابلة عصر الإنترنت ليس لديهم ما يعظون به الآخرين غير المعارك الافتراضية، وعلى طريقة دون كيشوت، فهم يعلنون حروبا على أعداء لم يسمعوا بهم، تماما كما تفعل ذبابة تشيكوف، ما يضطر هؤلاء إلى الصهيل، فالحصان يدافع عن هويته بهذا الصوت، لأنه ما من صهيل بلا خيول، لكن الكلاب أيضا تحاول الدفاع عن كلبيتها بالنباح، والحكاية الطريفة المعروفة عن كلب كان لا يكف عن النباح طيلة الليل، واشتكى الجيران على صاحبه، فأخذه إلى طبيب بيطري فحصه ولم يجد لديه سببا للنباح غير الدفاع عن كونه كلبا، فالنباح أيضا هوية كما هو الزئير والصهيل والفحيح.
إن لكل عصر تنابلته، وما يختلف هو الأسلوب وتجليات هذه الظاهرة، لكن العصر الذي ينتج تنابلة بلا سلاطين، هو العصر الذي بلغ فيه التاريخ أقصى الجنون، وانقطع فيه الفاعل عن المفعول به، بحيث يسعى العبيد إلى القيود وهي لا تسعى إليهم، وأحيانا يكون عقاب الماسوشي هو اعتذار السادي عن تعذيبه.