السرّ البوفواري.. شموس النساء المنسيَّة

*لولوة المنصوري

ذلك السحر الأنثوي الذي مدَّت به سيمون دي بوفوار جسر الجاذبية نحو باريس، عبر الهم الوجودي والعناد الطاغي، كنتُ أتلمس به طريقي وأنا أحاذي نهر السين، الذاكرة المائية لتنوير باريس، داخلة في الثلج المتساقط على العاصمة في يوم بارد جداً، أبحث بين شواهد القبور عن اسمين لجسدين دفنا في قبر واحد، فيلسوفان في قبر واحد، سيمون الثائرة بجوار حبيبها الوجودي سارتر. وقد تفتّحت حول حجر القبر زهور مشحونة باللون الأحمر الناصع وسط بياض الثلج، تستقبل شهوة الحياة بشكل غامض وهاجسي. جئتُ ولْهى لملحمة السؤال المحفوف بالمخاطر، أنوي إيقاظ البخار المرتعش بالماء على عظام سيمون دي بوفوار المنهكة، أدرك أنها سمعتني حين قلتُ: شكراً سيمون، لأنكِ أشعلتِ أيقونة فكرية حرّة عبر الأسئلة المضادة حول المرأة، وقلتِ منظورك الخاص دون خوف. لقد خرجتِ من القهر بسلام، لطالما تشنجت الآراء حول فكرك حين تحدثتِ بحماسة مريرة عن النسوية العالمية والحب المطلق وحرية أجسادنا الأنثوية، يصلني سحر صوتك الهامس: «اليوم الذي ستتمكنين فيه من الحب سيكون ذلك بقوّتك لا بضعفك، لن تهربي من نفسك، بل ستجدينها، ذلك اليوم الذي سيكون الحب بالنسبة لك مصدراً للحياة، وليس خطراً مميتاً». سيكون ذلك بـ«السحر الأنثوي» الكنز المخفي الكفيل بإحداث انقلاب فكري وروحي في حياتنا نحن النساء، ذلك الإحساس الداخلي الذي يهيم بالغموض، غريزي وعميق وشديد القرب إلى عملية خلق الحياة، والذي دعت إليه دي بوفوار بقوة، حيث لابد من إعادة تشكيل كامل للصورة الثقافية للأنوثة بما يسمح للمرأة بالوصول إلى النضوج واكتمال الذات.

«باريس لا يمكن الكلام عنها إلا بصيغة الجمع، كما كان الإغريق يتكلمون عن أثينا»*، وأرى أن باريس تجبرك أن تكون مفرداً في صيغة مجتمعة، أو هي شبيهة بتلك الأسماء التي ليس لها مفرد وهي دائماً في صيغة الجمع ولا مجال فيها للتفرقة بين الأجناس، لهذا أذكر الجمع المفرد للكتّاب والكاتبات حين انطلقوا في رحلة ثقافية غنية، ذات دلالة معرفية وتنويرية متبادلة مع عاصمة النور، استجابة للمبادرة النبيلة من صاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي عضو المجلس الأعلى حاكم الشارقة، والتي بدورها قد شكّلت جسداً ثقافياً ملتحماً بقوة تأثيره وتأثره وتلاحمه العائلي.

ولعل إحدى أبرز مفردات تلك الرحلة أن أخرج بفكرة التماس مع الفكر البوفواري، ومحاولة قياس مدى انعكاسه على بؤرة النص الذي تبدعه المرأة في الإمارات، والبحث في السؤال التالي: ما مدى تفاعلنا ككاتبات إماراتيات مع شرط الحرية في الإبداع والفهم الأنثوي لأفكارنا في الحب والجمال الداخلي والوجود الثائر وحق طرح الأسئلة الكبرى؟

أيتها الأمومة.. أيتها الكتابة!

وعلى نحو أقرب من دلالة السحر الأنثوي، فيمكن القول بأنه لا يمكن تجزئة غريزة الأمومة عن تلك الدلالة، فالحس الأمومي سر وجودي وركن جوهري من أركان الهوية الأنثوية، والأمومة لا تقتصر على نشوة نرجسية، ولا على تمام شخصي وفردي، فهي حقيقة كونية تنفرد بها المرأة وإن بدت في ظاهرها اجتماعية، وإغفالها أو تجاهلها يؤدي إلى إغفال نصف وقائع السحر الأنثوي. ولعلني أنساب أكثر مع ما ذهبت إليه المؤرخة الفرنسية «إيفون كنيبييلير» من أن موضوع الأمومة في الكتابة له أمر معجز، فهو اللقاء بالكائن الصغير الذي يجهر منذ ساعاته الأولى بالسمة الإنسانية.

وهنا أتساءل مجدداً: هل تحقق ذلك التعاطي العميق مع مكنون ذلك التميز الأنثوي؟ أو بصيغة أخرى، هل تمكنت الكاتبة الإماراتية من فرد أعماقها للكنز المكبوت وامتلاك مفاتيح التعبير عن ذلك الموضوع المعجز، والاستجابة لشهوة النص الوجودي المبهم من خلال جرأة المخيلة وجرأة البوح والرؤى، وجرأة الوعي في السؤال عن الزوايا النادرة؟

لقد تجاوزت الكاتبة الفرنسية تلك العتبة منذ سنوات طويلة، ونأمل أن يقفز نص المرأة الإماراتية متجاوزاً نبرة الخطاب التبعي، ويبقى رهاننا على ما تنتجه الكاتبة الجديدة من تجريب وتجاوز وخروج على نمطية الأحكام المسبقة التي تنظر للإنسان من زاوية التقابل والتضاد وتؤطر الذكورة والأنوثة في أدوار اجتماعية محددة، وتؤسس لصراع مستمر بين الجنسين.

أفترض أن تنتقل المرأة الإماراتية إلى مرحلة الإنتاج القائمة على الفرادة والتميز فيما ينتصر للإنسان، إذ لا ينبغي للفروقات البيولوجية أن تتحكم في إحداث تفرقة ثقافية مبنية على خلفيات الصراع بين القوة والضعف، وتفضي إلى هيمنة نوع على آخر.

ولا يخفى علينا أنه عبر سلسلة من الأفكار الضيّقة والأحكام المسبقة التي ازدرت قضايا الأمومة وربّات البيت، والتي اكتنزت بها دراساتنا الثقافية وعبر تراكمات القراءات التقليدية كادت غريزة السحر الأنثوي أن تختفي دون جدل مشروع، وكادت الشمس الداخلية أن تهمّ بالرحيل حين تسيّجت وتنمّطت المرأة في أدوار محددة في الحياة، ورضخت لارتداء ما يفصّله الآخرون من مقاسات عنصرية، وتحول ذلك العنف الفكري الذي مورس على المرأة إلى عنف مضاد وصراع مستمر، وبرز ما يسمى بالأدب النسوي أو الحركة النسوية، ذلك أن المرأة في كل أصقاع العالم كادت أن تغرق في محيط مظلم كبير اسمه (سؤال الآخر عن رأيه بها) ودون أن تنتج الحلول وتفتح الأبواب، باتت تنغلق داخل صراعات هذا المصطلح وتنسى قوة سحرها الداخلي الولاّد للإبداع. وحين زارتها موجات اليأس سارعت إلى تصدير اللوم على الرجل أو التعليم أو تقاليد المجتمع، وبحثت عن مسببات ثانوية للعنف المضاد.

عودة إلى السر البوفواري الكامن في السحر الجوّاني، حيث تعرّش جنّة التحولات، ولا يقتصر عند كاتبة دون أخرى، فكما أن الهم والقلق والقهر الجميل موجود في نصوص الكاتبة الفرنسية، فهو أيضاً يتعالق بحذر في نصوص الكاتبة الإماراتية، لم نكتب في الإمارات بترف ومن برج عاجي كما يعتقد الآخرون عنا، فلقد كان في البدء الشقاء، وكان السحر واحداً، بينما الأدوات والتجارب اختلفت في تمديد الفكرة وتوصيل هذا السحر للقارئ، وقضايا المرأة كالحمل والإنجاب والرضاعة والأمومة والحُب مهما كانت ذات خصوصية متفردة بعالم المرأة، فإنها من أكثر الموضوعات جمالاً وإعجازاً وغموضاً في الوجود، إذا ما أضفي عليها طابع الوعي الفني والفلسفي العميق، فهي تكاد تتعالق مع الشرط الوجودي البشري، وتلتصق بالآفاق المجرّدة والميتافيزيقية التي تلقي الضوء على إنسانية الإنسان، لهذا أقول بأن الأدب النسائي في مرجعيته هو أدب كوني وليس بإنساني فحسب، هو بحث داخلي محض، يتموّج فيه الألم الأنثوي الغامض والخاص.

الكاتبة الإماراتية بين الظلام والنور

ثمة مراحل من العناء والألم والصبر قد مرت بها كتابة الأنثى في الإمارات، ويمكنني القول بأن الإمارات المعاصرة تعيش وعياً أنثوياً في السرد والشعر والفنون وتتمركز في كافة أشكال القيادة والتدبير، هذا الوعي يتخلّق باطراد ويتغذى على المعاناة والحكمة والثقافة الفكرية التي راح منظورها يتشكل عبر أطوار مسيرة المرأة المنتجة للإبداع، وعبر رؤية حكيمة وثقة عميقة من القيادة الرشيدة في الإمارات.

ودعونا نضرب مثالاً بارزاً في أكثر الفنون الأدبية التي تحظى بجاذبية الاستمرار والتدفق، ألا وهي الرواية، ففي أواخر التسعينيات من القرن الماضي انتقل المنظور من مجرد رصد للواقع بعيداً عن التوغل في الأحداث أو التعمق في المظاهر الحسية للشخصيات، إلى منظور أكثر تطوراً، وهو منظور الواقعيين النقديين الذين يقدمون نقداً للأوضاع الاجتماعية السائدة ورؤيا نسائية احتجاجيّة على قضية الثالوث الاجتماعي: (الحب/‏‏‏‏ الزواج/‏‏‏‏ الطلاق)، غير أنه احتجاج سلس ولطيف ولم يبلغ مرتبة التمرد والانقلاب على المجتمع لنيل حرية المرأة كما حدث في بعض المجتمعات العربية الأخرى، وإنما ابتعدت الرّوائيّة الإماراتيّة عن الخوض في القضايا الاجتماعيّة والإنسانيّة الشّائكة، واكتفت بالمطالبة بقدر بسيط من الحرّيّة والاحترام، وقدر لطيف من رفض الظّلم والدونية والرّضوخ، ولعل أبرز مسوغات ذلك اللطف الكتابي هو أن المرأة الإماراتية تلقى تمكيناً ودعماً حكومياً كبيراً منذ قيام اتحاد دولة الإمارات على يد باني النهضة والدنا المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان (طيب الله ثراه)، ولا زالت حتى اليوم تعد المرأة الرقم الأهم في معادلة البناء ومسيرة التنمية الشاملة في دولة الإمارات.

ومن منظور القدرية إلى الاحتجاج وعدم الرضوخ، تصل بنا الكاتبة الإماراتية إلى مرحلة التفاعل والانسجام النفسي والمشاركة في المؤتمرات والمناسبات الأدبية، وصولاً بعد ذلك إلى مرحلة السلام مع النفس والحياة، والالتفاتإلى الكتابة وبغزارة كبيرة، والتطرق إلى قضايا العالم والتاريخ والتخوم الرمزية، وهذا ما ميّز مرحلتنا الآنية، فالكتابة النسائية في الإمارات تحتفي اليوم بالسلام وحب الوطن وتلامس الهم الإنساني والفلسفي والتاريخي الأوسع، وتنغمس في الدلالة والرمزية وتتشكل من ثقافة أفق السرديات العالمية، مما يطمئننا على مستقبل الكتابة الإماراتية التي تنهض اليوم وتستفيق وتعاود رفد المشهد الأدبي بأقلام نسائية إماراتية تكاد تتقاطع أعمالهن مع المنجز العربي النسائي.

ولا زال الطموح الإبداعي يكبر طالما هنالك تشجيع وطني ومؤسساتي ودعم حكومي وثقافي للمرأة عن طريق إشراكها في تفعيل الملتقيات والأحداث الأدبية عبر انفتاح ثقافي متواصل، وشغف في الاطلاع والفضول المعرفي حول الآداب الإنسانية العالمية.

تساؤلات

ورغم ذلك، فإن كل ما ذكرته سلفاً لا يمنع من تجديد تساؤلي: هل خرجت المرأة الإماراتية بالأدب إلى رحابة حقيقة الأنوار في البحث والتقصّي والاشتغال العميق في الزوايا الكبرى، أم أنها انشغلت بدائرة التمثلات الجاهزة والعنف الفكري المضاد واستنزاف الروح في الأخذ والرد على مصطلح النسوية (على سبيل المثال) المكرر في كل محفل محلي وخارجي؟

وعبر مسيرة تطلعات المرأة في الإمارات وارتقائها في موضوعات الكتابة والألم والإبداع والفنون، هل طالت شرط التحقق البوفواري الثائر؟ وعبرت عتبة الدخول نحو سحرها الأنثوي المتمثل بالكينونة الروحية والغريزة الأمومية والحدس والحس العالي؟ أم أن السحر المغلوط احتجزها خلف مفاهيم الإغراء والرغبة والجاذبية؟ منتقصاً بعدها الإنساني الحكيم، مندفعاً بإبداعها إلى فكرة تشيّؤ الأنوثة المنقادة لشروط الثقافة الذكورية.

هل حقاً بدأت المبدعة الإماراتية تثق بسؤالها عن ذاتها، هل تحررت أخيراً من مخاوفها المتكرسة عبر السنين، أم أن هنالك راسباً خفياً لا زال يحفر فيها عميقاً، يحملها إلى تصدير اللوم وأسباب العذابات على المجتمع؟

هذا ما أرادت أن تقوله لي أنوار باريس، عبر صوت سيمون دي بوفوار الثائر والحزين في الثلج، لم أدر وقتها في تلك المسامرة الليلية رغم أصوات الكاتبات من حولي، وبمعزل عن سلطة الكلام، لمَ كنت قلقة في فكرتي؟! وما هو نصيبي من باريس؟

ما أكبر هذه البعثرة ! وما أجمل ذلك القلق الأنثوي الجميل في باريس ! حين يأتي فوضوياً برؤاه، مكتنزاً بالسحر والنور والحزن وصوت دي بوفوار !

…….* الجملة خاصة بالكاتب والروائي المغربي أحمد المريني.

قوة السحر الداخلي

عبر سلسلة من الأفكار الضيّقة والأحكام المسبقة التي ازدرت قضايا الأمومة وربّات البيت، والتي اكتنزت بها دراساتنا الثقافية، وعبر تراكمات القراءات التقليدية كادت غريزة السحر الأنثوي أن تختفي دون جدل مشروع، وكادت الشمس الداخلية أن تهمّ بالرحيل حين تسيّجت وتنمّطت المرأة في أدوار محددة في الحياة، ورضخت لارتداء ما يفصّله الآخرون من مقاسات عنصرية، وتحول ذلك العنف الفكري الذي مورس على المرأة إلى عنف مضاد وصراع مستمر، وبرز ما يسمى بالأدب النسوي أو الحركة النسوية، ذلك أن المرأة في كل أصقاع العالم كادت أن تغرق في محيط مظلم كبير اسمه (سؤال الآخر عن رأيه بها). ودون أن تنتج الحلول وتفتح الأبواب، باتت تنغلق داخل صراعات هذا المصطلح وتنسى قوة سحرها الداخلي الولاد للإبداع.

رحلة معرفية

باريس تجبرك أن تكون مفرداً في صيغة مجتمعة، أو هي شبيهة بتلك الأسماء التي ليس لها مفرد وهي دائماً في صيغة الجمع ولا مجال فيها للتفرقة بين الأجناس، لهذا أذكر الجمع المفرد للكُتّاب والكاتبات حين انطلقوا في رحلة ثقافية غنية، ذات دلالة معرفية وتنويرية متبادلة مع عاصمة النور، استجابة للمبادرة النبيلة من صاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي عضو المجلس الأعلى حاكم الشارقة، والتي بدورها قد شكّلت جسداً ثقافياً ملتحماً بقوة تأثيره وتأثره وتلاحمه العائلي.

ولعل إحدى أبرز مفردات تلك الرحلة أن أخرج بفكرة التماس مع الفكر البوفواري، ومحاولة قياس مدى انعكاسه على بؤرة النص الذي تبدعه المرأة في الإمارات.
_________
*الاتحاد الثقافي

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *