*أدونيس
أيّتها الضفّتان، إلى أين؟
ــ 1 ــ
الضفّتان، اليوم ــ ضفّتا البحر المتوسّط، بحرِ هوميروس وقدموس وهانيبعل ونفرتيتي، بحر أرسطو ودانتي، وابن رشد، مسرحٌ غربيٌّ ــ شرقيّ، على مستوى الكون، للنّزعات الإمبراطوريّة ــ الخِلافيّة، بدءاً من الإسكندر المقدونيّ، وانتهاءً بنظام الكاوبوي الأميركيّ،
وهي نزعاتٌ تتمثّل، على الأخصّ في عصرنا الرّاهن، في جنون العظمَة والهيمنة على العالم، عسكريّاً واقتصاديّاً وثقافيّاً.
شاطئ غزّةَ، العريقة، «المُشَرَّدة» نقطةٌ نواةٌ في تركيب
«صورة» هذا المسرح، وفي «صياغة معناه».
وها هي «كيمياء» الكاوتشوك تظهر على هذا المسرح
«قافزةً» على حواجز الصّواريخ «الذكيّة» والطّائرات الحربيّة
والدّبّابات وجيوش الغزو من كلّ نوع، داخلاً وخارجاً،
وها هي الأرض الفلسطينيّة تلبس عباءة «الدّخان الكيميائيّ»، التي تنسجها خيوط الألفاظ «الحماسيّة» دفاعاً عن شمسها.
ربّما ستكون هذه الأرض مضطرّةً، باسم الحريّات وحقوق الإنسان التي يدافع عنها الغرب والشّرق، للبرهنة على أنّ هذا الدّخان ليس كيميائيّاً كما يُتَّهَمُ أصحابُه، وليس ذرّيّاً، وإنّما هو دخانٌ كاوتشوكيّ. خصوصاً أنّ الأخبار تنتشر بأنّ السيّارات والجدران والطّرق في المناطق المجاورة بدأت تُصابُ بأعراضٍ مرَضيّةٍ غريبةٍ ونادرة ! وبعضها بدأ يعيش في حالةٍ صعبةٍ من الاختناق!
ويفكّر قادَةُ الدّفاع عن حقوق الإنسان وحرّيّاته بإرسال أسرابٍ من الصّواريخ الذّكيّة لإبادة هذا الدّخان ومستخدميه!
أنتِ أيّتها الضّفّةُ المشرقيّة الكبرى المُعَذّبة، البائسة، إلى أين سيقودكِ هذا الجنون الإمبراطوريّ الذي تحيطُكِ بعنايته، ورعايته، أختُكِ هذه الضفّة الصُّغرى؟
ــ 2 ــ
نعم، نحن، العرب المسلمين الذين تيسّرَت لهم الإقامة على الضفّة المشرقيّة من المتوسِّط، بطريقةٍ أو أخرى، نعم، نحن وحدنا الحقلُ الكونيّ الوحيد الذي تزرعه الرّيح ــ ريحُ الفرقة والشّتات،
ووحدنا،
لا يزال كلٌّ منّا يحدِّد نفسَه قائلاً:
«أنا الزّائلُ ــ لكن الذي لا يزول»، ــ
ذلك أنّه لا يكتب إلاّ «قلمه»
ولا يقرأ إلاّ «حبره».
ذلك أنّه، عندما ينظر إلى الفضاء،
يؤكِّد أنّه، لا يرى إلاّ بشراً،
يحاولون، دون تعبٍ أو مَلَلٍ أو توقُّفٍ،
أن يصبغوا وجهَ الشّمس،
ذلك أنّه لا يقدر أن ينامَ إلاّ إذا كان واثقاً
أنّه سيقتلُ حمامةً في نومه،
ذلك أنّه لا يقدر أن يستيقظ إلاّ إذا كان قد بَشَّر في نومه،
أنّ شرايين الفجر هي نفسُها شرايينُه.
ــ 3 ــ
ــ تسأل عن اللانهاية؟
ــ نعم، قلنا لك ونكرّر أنّها عندنا مقصوصة الأجنحة، هي أيضاً.
ــ 4 ــ
يبدو أنّ «شعوبكِ» أيّتها الضفّة الغربيّة لم تتعلّم من شعوب أختك المشرقيّة إلاّ «اللغة العثمانيّة» التي حاربَتْها و «نَفَتْها» باسم الدّفاع عن حقوق الإنسان وحرّيّاته، ثمّ «ورِثَتْها» كلّيّاً، بحيث حلَّتْ محلَّها.
هكذا يمكن أن يُقال للّذين يؤمنون بأنّهم لا يُخطِئون أبداً، لا في القول ولا في العمل:
كلاّ، لن أعدَّ الدّرجات التي تصعدون عليها أو تهبطون.
إنّها أبجديّة أخرى لتاريخٍ لم يعُد قادراً على الاستمرار،
إلاّ سائراً على الجُثث،
وحشيّاً، وأعرجَ، ومُحْدَوْدِباً.
ــ 5 ــ
فــكِّروا، إذاً، بتلك «النّهايات» التي «لا تنتهي»:
الخلافة العثمانيّة التي «احتلّت» الإمبراطوريّة البيزنطيّة،
التي «احتلّتْ» الإمبراطوريّة الرّومانيّة،
خلافة التّحوّل، رُوَيداً رُوَيداً، إلى هياكلَ من فخّارٍ،
تَحَوَّلَ إلى هياكلَ بلاستيكيّة
في متحفٍ كونيّ، بواجهةٍ كاوْبويّةٍ:
متحفٍ اسمه الغبار.
فكِّروا، خصوصاً، بذلك الماضي الإسلاميّ ــ العربيّ، كيف يجلس مُرهَقاً على عتبة هذا المُتحَف، يتفحَّص تجاعيدَه في مرآةِ الوقت:
رأسُه يلتهِمُ رئتيْه،
والوقت يلتهِم رأسَه.
ــ 6 ــ
منذ ولادتها،
كانت الضفّة الغربيّة من المتوسِّط تجلس على ركبتي أختها،
الضفّة الشرقيّة: أثينا ــ أوغاريت،
ولم تستطِعْ أن «تنهضَ» حتّى الآن.
دائماً جائعة،
ولا يطيب لها إلاّ الخبز الذي يعجنه ويخبزه الفقراء
والمشرَّدون المنفيّون والمذبوحون.
وها هي لا تزال تفكّر وتعمل كأنّها تقول للأشياء والكلمات:
لا أحبّ أن أملك إلاّ ما ليس ملكاً لي.
هكذا تحيا هائمةً في فضاء من الدّم الأسود الأحمر الأبيض
ومشتقّاته الأولى والثّانية والثّالثة وما بعدها.
وها هي تقيم الأعيادَ والولائمَ، على نحوٍ مُتَواصِلٍ ــ مُنَظَّمٍ، وباهر.
لكنّها، حول المائدة، تُماهي غالِباً بين دُعاتها ومَدعوّيها،
وقلّما تُمَيِّز بين الطّريحِ والجريحِ والذّبيح.
لم تَعُد السّماءُ ــ مرفوعةً فوقَها.
تحَوَّلَت تحتَها إلى ممرّاتٍ مَتاهيّةٍ في زرائبَ وإصطبلاتٍ،
في مَداجِنَ وأنْفاق،
والشُّهُبُ صارت لَهَباً.
واليومَ، لا مهنةَ لها، خارجَ الوظائفِ الثّلاث الكُبْرى:
الترصُّد، والتنَصُّت، والهجوم الذي هو غالباً الغَزْو.
ــ 7 ــ
تتميَّزُ في « سياساتها «، وأعني هذه الضفّة الغربيّة، بأنّها تقولُ وتُمارِس ما تقول:
« الثّقافةُ هي أن تَغُشَّ الطّبيعةَ باسم الإنسان،
وأن تغشَّ السّماءَ باسمِ الأرضِ، والأرضَ باسمِ
السّماء.
وهي أن تغشّ الإنسانَ باسم هذه جميعاً، وباسم
الأشياء كلّها.
هكذا، في الليل، تحرس العالمَ مدناً، وخرائطَ،
وفي النّهار، تدعو إلى استباحتها.
ــ 8 ــ
الضّفّة المشرقيّة محيطٌ ــ
لكن، حيث تُغادِرُ الموجَ،
لا ترى، أينما توجّهْتَ، إلاّ
صحراءَ أختها الغربيّة ــ
فراغَ الإنسان،
ورملَ الفِكْر.
وربّما رأيْتَ في الوقت نفسه،
طائراً يُقبِل نحوَكَ، سائلاً بلهفة:
أين الغصنُ الذي يقدر أن يحملَ جناحيَّ ؟
ــ 9 ــ
لا تتّكِىء الشّمسُ في الضفّتين إلاّ على ضوئها.
خاصّيّةٌ يترجمها الزّمَنُ مُلَخِّصاً معناها في هذه العبارة:
الحرُّ هو، وحده، الذي يعرف
القانونَ ومعناه.
ــ 10 ــ
تعرف الضفّةُ الغربيّةُ نحّاتين في مختلف الميادين. والغريبُ أنّها تعجب، غالباً، بأولئك الذين يشبهون الرّيح:
لا ينحتون إلاّ الغبارَ والرَّمْل.
ــ 11 ــ
« تنتظرُ العتبةُ قدَمَيْكَ، أيُّها المُشَرَّد «:
تقول الرّيحُ التي تكنسها.
وتضيف:
« كلُّ مَشَرَّدٍ عتَبَةٌ طائرة «.
ــ 12 ــ
« نهاية المَنفى « ؟
ــ مَن يحلمْ بهذه النّهاية يشبه شخصاً يحلمُ أن يسافر في الفضاء،
داخلَ طائرةٍ من الورق.
ــ 13 ــ
دمُ المستقبل: هذا ما بدَأَتْ تتلطَّخُ به الضّفّتان.