القدرة على الاستمتاع الذاتي؛هل سيتحقّق حلم نيتشه في نهاية المطاف؟

*ترجمة وتقديم : لطفية الدليمي

                       

    الآتي ترجمة لمقدمة الفصل الرابع المعنون ( رؤيا العلم ) من كتاب كولن ويلسون ( أن نقوى على الحلم : الأدب والخيال

The Strength to Dream : Literature and the Imagination )

 الصادر عن دار نشر غرينوود  Greenwood Pressعام 1973 . يمكن عدّ هذه المقالة إضافة ممتازة لسلسلة كتابات ( كولن ويلسون ) في ميدان مقارباته للسايكولوجيا البشرية التي أراد منها نقل حياة الكائن الإنساني من مستوى ( الحاجة التي تفرضها الضرورة ) نحو مستوى ( التجربة الإنسانية الفريدة التي تعِدُ بانفتاح آفاق لانهاية لممكناتها ) ، وأظنّ أن هذه المعضلة الإشكالية ستبقى المهمة الأساسية لكلّ كائن بشريّ في عصرنا هذا كما في كلّ العصور القادمة .  

                                                                          المترجمة

 

     كتب وايتهيد مرّة : ( إن مفهوم الحياة يعني شيئاً من القدرة المطلقة على الإستمتاع الذاتي ) ، وينسحب قول وايتهيد على جوهر موضوعة التخيل البشري ؛ فعندما يدرك بطل رواية ( ذئب البوادي ) لهرمان هسه موزارت والنجوم يكون حينها قد خبر برهة من برهات الإستمتاع الذاتي الخالص والمكتفي بذاته إكتفاء مطلقاً .

     قد يكون في وسعنا القول أن الطبيعة تسعى دوماً لإنتاج كائن قادر على الإستمتاع الذاتي المطلق ؛ ففي حين كانت الحيوانات البدائية الأولى منشغلة بمتطلبات الحفاظ على حياتها والبحث عن الطعام كان الإستمتاع الذاتي متعة متاحة للحيوانات الأكثر حماقة وخمولاً والتي لطالما وقعت فريسة الحيوانات اللبونة القاسية : كان البقاء على قيد الحياة في العالم البدائي يعني غض النظر عن الإستمتاع الذاتي وتركيز الجهد والنظر نحو مخاطر العالم الخارجي ، وفي العادة نحن نفترض أن الإنسان كان المخلوق الأول الذي فكّر في تشارك الحياة مع غيره – من النوع البيولوجي ذاته – واقتسام واجب الدفاع وتوفير متطلبات الحماية الذاتية معهم ، وبعدما تعلّم طريقة بناء بيت في شجرة أو على شاطئ بحيرة صار بمقدوره إيجاد الوقت الذي يتيح له الإستمتاع الذاتي – ذلك الإستمتاع الذي تسبّب في قتل الديناصورات من قبل ، لكن الأمر الغريب أن ذلك الإنسان فضّل – بدلاً من الإستمتاع الذاتي – زيادة وتيرة العمل ومواجهة الكوارث الطبيعية حتى بتنا اليوم نجد أن أولى مشكلات الإنسان في الغرب هي وقت الفراغ المتعاظم المتاح أمامه إلى حدّ أن أنتشار الجرائم بين الفتيان – على إختلاف أنماطها – وكذلك تجذّر الأمراض العصبية وتفاقمها صارت من النتائج المباشرة لوقت الفراغ المتزايد أمام الإنسان ، ولكن مع تعاظم وقت الفراغ هذا فإن الإنسان يبدو أبعد مايكون عن بلوغ ( الإستمتاع الذاتي المطلق ) بالقياس لما كان عليه الحال من قبل . إنه لأمر صحيح ودقيق تماماً بشأن وجود الكثير من المهمات الواجب إنجازها من قبل البشرية على الصعيدين العلمي والإجتماعي ، ولكن لايمكن نكران السعي الحثيث للبشرية نحو تحقيق مزيد من السيطرة على العالم الخارجي وقصر مهماتها على ذلك العالم وحسب ، وإذا ماتحققت تلك المهمات ( على إفتراض أمكانية تحققها بالكامل ) فإن الإنسان سيظلّ لايدرك شيئاً عن فنّ ( الإستمتاع الذاتي المطلق ) المختلف جوهرياً عن اللذة المصاحبة للإنجازات المادية .

     كان هدف الفنان والفيلسوف دوماً هو التأكيد على الحاجة إلى قدر معقول من ( الذاتية ) – ذلك الواجب صعب التحقيق من قبل  عندما كانت الحياة منشغلة بمتطلبات الصراع من أجل البقاء ( البيولوجي ) على إمتداد الملايين من السنوات ؛ الأمر الذي عرقل – وعلى نحو آلي – قدرة الإنسان على التمتع بفضيلة ( الإستمتاع الذاتي ) الذي يتعامل مع دواخل الإنسان لامع بيئته الخارجية .

     إن هذا الأمر لجدير بتحليل مفصل بسبب علاقته المباشرة بإشكالية التخيل البشري : نجد مثلاً لدى ( إج. جي. ويلز ) مقاطع محددة في سيرته الذاتية التي أسماها ( تجربة في السيرة الذاتية Experiment in Autobiography ) أراها تستحق الإشارة . يبتدئ ويلز كتابه بشكوى مريرة لكونه يفتقد الحرية العقلية التي يحتاجها بقوة لتأليف كتبه :

     ( التورّط  هو نصيبنا المشترك في هذا العالم ، وأعتقد بأن التوق إلى التحرّر من قيود المزعجات والمتطلبات اليومية وفروض الأمور المُلِحّة والمسؤوليات – كما المغريات – هو أمر تتشاركه أعداد متزايدة من الناس الذين يجدون أنفسهم فريسة الأداء الميكانيكي لأعمال مغرقة في التخصص وينبغي عليهم النهوض بها ، وقد وقفت معظم المخلوقات منذ بدء الحياة ضد ذلك الأداء الروتيني للأعمال طيلة الوقت يدفعها في هذا عاملا الخوف والحنين ، ولطالما وجدت تلك المخلوقات في مأساة الحوادث المباشرة نشوة كافية ومسوغة لهم ؛ غير أن بزوغ تباشير فجر الإستبصار البشري المترافق مع الفائض العظيم من طاقة الحياة في القرن التاسع عشر قد آذن بتحرر الناس من الإنتباه المستديم تجاه الحوادث اليومية فحسب ؛ إذ بات حينئذ في قدرة الناس أن يتساءلوا عن شيء كان السؤال عنه قبل خمسمائة عام في عداد الأمور المحرّمة وغير المعقولة – صار في مقدورهم أن يتساءلوا مثلاً : نعم ، أنت تقيم أودك وتكسب مايكفي لإعالة أسرة ، كما أنك تحبّ وتكره ، ولكن ماذا تفعل حقاً ؟ ….. وهكذا إبتعدت مفاهيم العيش على نحو تدريجي عن الصفة المباشرة والفجّة للتعامل مع الحياة ؛ الأمر الذي يميّز بالضبط حياة الإنسان المتمدّن الحديث عن جميع أشكال الحياة السابقة بعد أن غدونا العاملين المثقفين المبدعين الذين يعيدون تشكيل الحياة البشرية ….. وصرنا مثل المخلوقات البرمائية الأولى نكافح لنخرج بعيداً عن المياه التي تغطي نوعنا نحو الهواء باذلين أعظم جهدنا للتنفس في بيئة جديدة …… لاأرغب اليوم مطلقاً في العيش لسنوات أكثر مالم أكن قادراً على العيش وفقاً لما أراه عملي المناسب الذي أعِدُّ نفسي خليقاً بفعله … أريد أن يفيض تيار الحياة اليومية كله من أجلي أنا ……………………….. )

     هذا إذن هو ويلز : نموذج الفنان الذي يدافع بوضوح ومباشرة عن مزيد من ( الإستمتاع الذاتي ) وتقليل الإلتزام بالعالم الخارجي ، ومع هذا فمن خطل الرأي الإفتراض أن مشكلة الإنسان ( الفنان ) الوحيدة هي تورّطه في حوادث العالم الخارجي ؛ فالإشكالات والعراقيل الذاتية حقيقية أيضاً وربما من المناسب في هذا الموضع تعريف هذه العراقيل الذاتية وطبيعتها : الطبيعة الصراعية التي تنطوي عليها حياة الكائن البشري المتمدّن هي بين متطلبات البيئة والرغبة الذاتية في الجلوس والإستمتاع بالحياة ( كما هي ) ، وتستحق عبارة ( كما هي ) بعض الإستفاضة في التحليل . لو إفترضنا مثلاً أن أحد رجال الأعمال عاش حياة طويلة حافلة بالعمل الشاق والمضني حتى إستطاع في خاتمة الأمر تدبير ضمان مالي ثابت لنفسه وعائلته يمكّنه من الإيفاء بكل الإلتزامات التي نحسبها ملحّة وضرورية ( حتى لو كانت من نوع توجّهه نحو دعم حزب سياسي مثلاً وغير ذلك من الأمور ) فسيكون له الحق الكامل في الراحة الكاملة ببيته الريفي والإنصراف عن المشاغل العملية اليومية ومن ثمّ تأمل الحياة والعالم ، ولو كانت للرجل هوايات محددة فلاشك أنه سينهمك فيها ، وإذا كان ميّالاً لملذات أخرى ( مثل الحسناوات الباريسيات أو مشاهدة الأفلام البورنوغرافية ) فما من شك بأنه سيستمتع بهذا الأمر أيضاً : لقد أتمّ الرجل ( واجبه ) الذي قد يكون نوعاً من المتطلبات الدينية أو أي شكل من أشكال المسؤولية تجاه المجتمع المتحضّر ، ولكن في كل الأحوال سيكون هذا الواجب مفروضاً على الرجل من خارج ذاته ؛ في حين بات في مقدوره الآن أن يخلع هو مايريده من معنى على الحياة ، وهنا ستجيب طبيعة سلوكه على السؤال الإشكالي التالي : ماهي قيمة الحياة حقاً ؟ وماالذي يمكن أن يحصل عليه من الحياة إنسان لايعاني عبء أية مشاغل مادية ولامسؤوليات ولاإلتزامات؟  

     يوفّر لنا ( تشارلس لامب* ) نوعاً من أنواع الإجابة على التساؤل أعلاه في مقالته عن الإنسان المتقاعد ؛ فالموظف العجوز الذي يتقاعد أخيراً يحصل على راتب تقاعدي يمكّنه من إعلاء شأن حريته – تلك الحرية التي تعني له التجوّل بين المكتبات والتنزه في الحدائق العامة مراقباً البؤساء المساكين المنطلقين إلى العمل ، ولكن مفهوم الحرية عند هذا الرجل المتقاعد يتكلّس هنا ؛ إذ ليس ثمة مايحوزه من إمكانية الإنفتاح على أشكال أو أنماط مغايرة من الكينونة التي عرفها في حياته ، وليس ثمة من سبيل له لإختبار نشوات تصوفية يمكن أن يحصل عليها من محض التحديق في عرنوص الذرة !! لاشئ أبداً ممّا عدّه ووردزورث أو بليك الجوهر الأساسي للحرية : مالم يكن الإنسان شاعراً أو متصوفاً فإن مفهومه عن ( قيمة الحياة ) تقرّره في العادة رموز مادية محدّدة ؛ لذا نرى أناساً ينتحرون بعد قراءتهم في الصحف عن إختبار جديد لقنبلة هيدروجينية أو عن التضخم النقدي المتفاقم أو عن الزيادة المفرطة في معدل إرتكاب الجرائم الجنسية ، وهنا يصحّ ان نشبّه حياتهم بميزان البائع الذي يحوي بضعة أثقال في كفة يقابلها كيس من السكّر – مثلاً – في الكفة الأخرى ، فإذا أضيفت محض ملعقة صغيرة من السكّر إلى الكيس إرتفعت الأثقال ، وفي سياق مماثل تكفي مشكلة صغيرة واحدة لجعل هؤلاء الناس يشعرون أن الحياة لم تعُد تستحق أن تعاش وأن فيها من الألم أكثر بكثير ممّا فيها من اللذة .

     إنه لأمرٌ حتمي أن كل إدراك إنساني محكوم بمحدوديته ولايمكن له أن يبلغ تخوم كل مافي الكون ويحتوي كل شيء قبل أن يقرّر مسبقاً ماهي القيمة المستحقة للحياة ، وهنا بالضبط تكمن قيمة الفنان ؛ فهو يبدي إحتجاجه على الدوام قائلاً إن قيمة الحياة هي أبعد مدى من أي بؤس أو ضائقة ، ومن هنا يحاول الفنان أن يبقي البوابة مفتوحة أمام كل الإحتمالات اللامعقولة التي تبتغي تأكيد القيمة العليا للحياة ؛ لذا حين يعلن ويلز أنه يرغب في إستمرارية العيش في الحالة التي تغدو فيها الحياة نمطاً من النشاط العقلي الخالص فإنه في واقع الحال يعلن أنه لن يولي أي اعتبار ولن يخلع أية قيمة على القرارات الفورية التي يتطلبها العيش وأنه سيعدّها ضرورات متعبة لاطاقة له بالسيطرة عليها ، وهنا حينما يلتزم الإنسان بهذا التعريف المشروط لمعنى الحياة فإن قيمتها لن تغدو مسألة رموز مادية محددة يمكن مقارنتها بكيس من السكّر على ميزان البائع بل تكون من وظائف العقل والتخيل والإرادة الخلاقة التي لايمكن للزمن أن يحدّها أو يقيّدها بمحدّداته الملزمة .

     تناول كتابي ( اللامنتمي ) المحاولات الحثيثة لأشخاص عديدين بغية التخلّص من ميزان القيم ( المحدود ) والعيش طبقاً للمقياس ( غير المحدود ) ، ويتيح لنا هذا التوصيف لمهمّة اللامنتمي الجواب الوحيد عن السؤال التالي : ماعساه يكون اللامنتمي بالنسبة لخارج ذاته ؟ هو في نهاية الأمر ليس ( خارجاً ) على المجتمع أو الدين أو الإنسانية بل هو خارج مقياس قيم ( الضرورة والحاجة ) السائدة ، وهو مايعبّر عنه هدف نيتشه : إطلاق القيم لتخوم أبعد بكثير من حدودها المرسومة .

*  تشارلس لامب Charles Lamb :  مؤلف وكاتب مقالات إنكليزي  عاش في الفترة 1775 – 1834 ،  إشترك مع أخته ماري في كتابة  العمل المسمى حكايات من شيكسبير  Tales from Shakespeare عام 1807 . إشتهر في مجال النقد بكتابه نماذج شعراء الدراما الإنكليز.  من أشهر مؤلفاته مقالات إيليا التي جُمِعت ما بين 1823 و1833 وحشد فيها كثيراً من ذكرياته وخبراته . ( المترجمة )

___________
*المصدر: المدى

 

 

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *