استوكهولم- طالب عبد الأمير
جدل حاد في الأوساط الثقافية السويدية، هذه الأيام، حول تداعيات أزمة الأكاديمية السويدية على منح جائزة نوبل هذا العام، ولربما تمتد تداعيات الأزمة لسنوات لاحقة. فالكل يجمع هنا على أن أزمة الثقة ستكبل أفراد هذه المؤسسة الخاصة بتركيبة نظامها الصارم، خصوصاً فيما يتعلق بمهمتها بمنح الجائزة.
ثمة أصوات تطالب الآن بسحب هذه المهمة من طاولة الأكاديمية، ومنحها إلى مؤسسة أخرى، فيما تتباين الآراء من داخلها حول ترحيل جائزة هذا العام إلى العام المقبل، وهذا ليس بجديد، فقد حصل وأن رُحِّل توزيع الجائزة إلى عام آخر، كما حجبت في أكثر من مرة، بسبب الحربين العالميتين. لكن الشيء المؤكد أن الأكاديمية السويدية، ومنذ تأسيسها في العام 1786على يد الملك غوستاف الثالث، ومن ثم تحميلها مسؤوولية توزيع واحدة من أهم جوائز نوبل، وهي جائزة الأدب، لم تتعرض لمثل هذه الهزة العنيفة التي أدت إلى تصدع جدران وجودها، وجعلتها تدور في أزمة ثقة حادة تلقي بظلالها على منح الجائزة، خصوصاً أن التحقيق جار حول فساد مالي في هذه المؤسسة التاريخية العريقة.
في فترات تاريخية سابقة هبت على الأكاديمية عواصف قللت من شأنها، ولكن ذلك كان في إطار انتقادها واتهامها بضعف تقييماتها للمرشحين للجائزة، كما كشف عن ذلك لارس غللينستين أحد أعضائها البارزين، الذي شغل منصب سكرتيرها الدائم، في فترة ما، حيث وصف ما سماه «حقيقة ما كان يدور من صراعات داخل أروقة الأكاديمية»، في كتابه «الذاكرة والذاكرة فقط» الذي أصدره في العام 2000.
وأشار فيه إلى أن «الصراعات بين أعضائها تركزت على حب النفوذ والمال»، كاشفاً عن طبيعة الخلافات بين أعضاء الأكاديمية فيما يتعلق بعدم تحرك الأكاديمية السويدية إزاء الفتوى التي أطلقها آية الله الخميني ضد الكاتب البريطاني الهندي الأصل سلمان رشدي، بسبب كتابه «آيات شيطانية» العام 1989. الأمر الذي دفع بعضو الأكاديمية الكاتبة شيشتين أيكمان إلى مقاطعة جلسات الأكاديمية، احتجاجاً على عدم توقيع الأكاديمية على مذكرة الاحتجاج التي أطلقها نادي القلم ضد الفتوى، بدافع الخوف من أن تتهم بالانحياز السياسي. لكن هذه المرة فالأمر مختلف تماماً.
بدأ فتيل الأزمة عندما نشرت صحيفة «داغينس نيهتر»، إحدى كبريات الصحف السويدية في 28 من نوفمبر (تشرين الثاني) العام الماضي، شهادات نساء يتهمن فيها شخصاً مقرباً من الأكاديمية بالتحرش الجنسي، ثم تصاعد اللهب ليضيء جوانب أخرى مخفية في جسد هذه المؤسسة، التي تجاوز عمرها قرنين وثلاثة عقود. فأعضاء المجموعة، البالغ عددهم 18 شخصاً، المنغلقون على ذواتهم، والمنهمكون بالقراءة والعمل بكتمان، حسب لائحتها الداخلية وطبيعة دورها في مسؤولية رعاية اللغة واختيار الفائزين لجائزة نوبل في الآداب، «ليسوا سوى بشر مثلنا»، كما علق أحد الصحافيين. فهم لم يبخلوا في انتقاد بعضهم البعض، علناً، والتراشق باتهامات وبالتواطؤ المالي، والحديث عن تسريب أسماء من فازوا بالجائزة قبل الإعلان عنها، حتى وصل الأمر إلى ترك ثلاثة من الأعضاء المهمين في الأكاديمية لمقاعدهم في الأكاديمية، احتجاجاً على عدم نجاحهم في التصويت على إقالة أحد الأعضاء، وهي زوجة الشخص المتهم بالتحرش الجنسي، الذي سمته وسائل إعلام «خدمة الجمهور» (الإذاعة والتلفزيون) بالـ«الشخصية الثقافية»، وبالحصول على تمويل لمشروعه الثقافي من الأكاديمية بواسطة الزوجة، فضلاً عن تسريب أسماء فائزين بجائزة نوبل في الآداب، قبل الإعلان الرسمي عنها.
وفي سياق تفاعل الأزمة، وفي الاجتماع الطارئ الذي عقده ما تبقى من أعضاء الأكاديمية تمت إقالة السكرتير الدائم للأكاديمية سارا دانيوس، وتعيين الكاتب والباحث اللغوي أندش أولسون، سكرتيراً مؤقتاً بدلاً عنها.
وكانت سارا دانيوس أول امرأة تبوأت هذا المنصب في تاريخ الأكاديمية السويدية. ولم تدم به سوى سنتين فقط. وقد تفاعل المجتمع السويدي مع هذه الأحداث المتتالية، حيث نظمت حملة دعم للسكرتيرة المُقالة، شاركت فيها شخصيات شعبية ورسمية، من بينها وزيرة الثقافة آليس كونكه. كما طالب أكثر من مائتين وثلاثين باحثاً وأكاديمياً في مجال الأدب والثقافة بحجب الثقة عن الأكاديمية السويدية. حتى بلغ عدد من تركوا مقاعدهم في الأكاديمية ثمانية أعضاء، بالإضافة إلى السكرتيرة الدائمة.
ومن أجل إنقاذ هذه المؤسسة التاريخية، تدخل ملك السويد كارل غوستاف الثالث عشر، باعتباره راعي الأكاديمية السويدية التي أسسها جده غوستاف الثالث في العام 1786، لإجراء تعديل على نظامها الداخلي يتيح بموجبه حق العضو بالاستقالة، وليس كما هو منصوص الآن، حيث يمكن للعضو أن يقاطع اجتماعات الأكاديمية، ولكن يبقى مقعده باسمه حتى وفاته. وينص التعديل أيضاً على حق أعضاء الأكاديمية في اختيار أعضاء جدد.
بعد الإعلان عن التعديل الملكي على النظام الداخلي للأكاديمية السويدية، مباشرة، أعلنت الكاتبة لوتا لوتاس عن تقديمها طلب الاستقالة من عضوية الأكاديمية السويدية. ثم بعد أيام أعلن عضو آخر عن تقديم استقالته من الأكاديمية السويدية، وهي الكاتبة سارا ستريدبيري. حيث جاء ذلك في بلاغ صحافي للأكاديمية أن ستريبيري قدمت اليوم (أول أمس) السبت 27 أبريل طلباً لإعفائها من عضوية الأكاديمية.
يذكر أن الكاتبة انتمت إلى الأكاديمية العام 2016 بهدف التجديد في حياة هذه المؤسسة التي بات أغلب أفرادها كباراً في السن.
هل تفقد الأكاديمية السويدية مهمة نوبل؟
تدخل الملك في تعديل جزء من النظام الداخلي للأكاديمية، واجه تحفظاً في بادئ الأمر، فالأكاديمية السويدية مؤسسة مستقلة، لا علاقة لها بمؤسسات الدولة. لكن تم قبوله باعتباره حلاً للأزمة. غير أن أزمة الأكاديمية، لم تنته، وبدا هناك تخوف من فقدانها للدور المهم الذي تضطلع به منذ العام 1901 عندما بدأت بمنح جائزة نوبل في الأدب لأول مرة. ويأتي هذا الهاجس على خلفية أن اسم الأكاديمية السويدية لم يرد في وصية نوبل بمن سيتولى مهمة اختيار من يفوز بجائزة الأدب، بل جاء في نص الوصية «أن تقوم أكاديمية في استوكهولم»، دون ذكرها بالاسم كاملاً. وقد تم تفسير ذلك بأنه يعني الأكاديمية السويدية التي تقوم مهمتها الأساسية على التعامل مع اللغة السويدية، وإصدار القاموس، ووضع أسس النحو إلى آخره. وبهذا فإن مؤسسة نوبل هي الجهة التي منحت الأكاديمية السويدية هذا الدور، وهي صاحبة الحق في إعفائها منه. وليس من المستبعد أن يكون هذا أحد الخيارات المطروحة، فقد تصاعدت أصوات عدد من الباحثين والأكاديميين في مجال اللغة والأدب بالتنويه إلى أن الأكاديمية السويدية فقدت مصداقيتها، ولم تعد مؤهلة لاختيار من يحصل على جائزة نوبل في الأدب، وأن بالإمكان حصر دورها في المساهمة بطرح أسماء مرشحين، شأنها شأن أكاديميات أخرى. مؤسسة نوبل نفسها عبَّرت عن قلقها من هذه الأزمة، وأشارت في بلاغ رسمي موقّع بأسماء أعضاء هيئتها الإدارية الثمانية إلى أن الثقة بالأكاديمية السويدية تصدعت كثيراً، معربة عن تخوفها من تأثير ذلك على جائزة نوبل. وهي بانتظار ما ستكشف عنه الأيام المقبلة، وما ستسفر عنه دعوة السكرتير الدائم (المؤقت) للأكاديمية أندش أولسون، الأعضاء المنسحبين، إلى العودة إلى مقاعدهم. كما أن قضية الاتهامات بالتحرش الجنسي والمخالفات المالية تحولت من طاولة مكتب المحاماة إلى الشرطة للتحقيق فيها.
ما الذي سيحدث في مسألة منح جائزة نوبل في الأدب هذا العام؟
الجواب على هذا السؤال الآني يبدو ملتبساً، لكن باعتقادي، سيأتي شهر أكتوبر (تشرين الأول) ومعه الإعلان عن حائز جديد بالجائزة، فأعضاء الأكاديمية السويدية، ربما، توصلوا إلى غربلة المرشحين، قبل انفجار الأزمة، وقلصوا عدد المرشحين، وحددوا ما يُعرف بالقائمة القصيرة. وقد يتوافقون على اسم الفائز. لكن المشكلة لا تكمن فقط في منح الجائزة هذا العام أو ترحيل منحها إلى العام المقبل، وإنما بتصدع الثقة في الأكاديمية السويدية، التي تواجه دائماً باتهامات كونها مسيسة وتقييماتها لمن يفوز بجائزة نوبل من منطلقات غير أدبية.
_________
*الشرق الأوسط