رجال في الشمس :عندما يصبح المكان معاديا للشخصية

 

  خاص- ثقافات
عبد الجليل لعميري.

 

– تمهيد :

صدرت رواية رجال في الشمس سنة 1963 ، فمثلت أول عمل روائي للكاتب المناضل غسان كنفاني ، خلال مرحلة إقامته بلبنان /بيروت.ومثل هذا العمل الإبداعي حينها خطوة جريئة في نقد الواقع الفلسطيني بعد خمسة عشر سنة من وقوع النكبة1948.

 كانت الرواية دقا لناقوس الخطر الذي يتهدد القضية ،فقد ألف الفلسطينيون الشتات ، وبدأت العزائم تخبو…وانتشرت الحلول الفردية بين سكان المخيمات في المنافي…لقد ابتلع الفقر أحلام الفلسطينيين في الشتات …

  حينها كتب غسان هذه الرواية القصيرة ، لكن العميقة ، لرصد مصائر شخصيات فلسطينية لجأت إلى الحلول الفردية ، مبينا عقم هذه الحلول ، لينتقل فيما بعد – في رواتي عائد إلى حيفا وأم سعد/1969- إلى تصوير مصائر أخرى ، ومناقشة حلول جديدة ، أهمها الكفاح المسلح ، الذي سينطلق – في نسخته الجديدة – مع منظمة التحرير الفلسطينية سنة 1965.

 هذه الرواية كباقي روايات غسان كنفاني تحتفي بالفضاء وترصد تحولاته وأدواره في بناء مصائر الشخصيات الفلسطينية.

  فما هي تجليات الفضاء في رواية رجال في الشمس ؟وما هي دلالاته في بناء الحبكة السردية ؟؟

1/ المخيم :

   تصور الرواية المرحلة الممتدة بين 1948 و1958 ، اي حوالي عشر سنوات ،وترصد وضعية أبطالها الثلاثة ،داخل المكان الجديد ( المخيم)،باعتباره وطنا مفترضا ومؤقتا،بل وهميا ومزيفا في انتظار العودة المعلقة…بعد ضياع الوطن الحقيقي اثر نكبة 1948، هذه الشخصيات الثلاث : أبو القيس واسعد ومروان تحاصرهم مشاكل اجتماعية ومادية ، فأبو القيس يحلم ببناء بيت من اسمنت ..وتربية ابنه في ظروف جيدة ..وكذلك أبو مروان الذي تخلى عن زوجته وأطفاله من اجل الزواج بامرأة أخرى (مبتورة الساق)لأنها تملك بيتا من اسمنت…فيضطر مروان إلى تحمل مسؤولية إعالة إخوته وأمه بعد أن تخلى عنهم الأب والأخ المهاجر إلى الكويت…في حين يعاني أسعد من ارتباط والده وعمه بعهد تزويجه بابنة العم التي لا يحس اتجاهها بالحب…ويعاني من مطاردة الاحتلال له..

   هذه العوامل مجتمعة تتحكم في قرار الهجرة السرية الذي اتخذته الشخصيات الثلاث ..وقد كان قرارا فرديا ومستقلا …إلا في مرحلة لاحقة حيث توحدت مصائرهم في مصير واحد…

 وبرصدنا للحدث وقرار الشخصيات نلاحظ أن المتحكم فيها هو المكان…فضياع الوطن يقذف بهم نحو المخيم ،والمخيم يصبح مكانا معاديا لأنه لا يوفر ادني شروط الحياة الإنسانية الكريمة ..فتضطر الشخصيات إلى الهروب منه نحو فضاءات أخرى تتوهم أنها ستكون أفضل منه، ليصبح المكان جوهر الآلة الحكائية ومحركها. تحس الشخصية بعدم الاطمئنان داخل المخيم فتبحث عن بدائل في أماكن أخرى خارجية ، ويصبح الداخل/عندي معاديا ،في حين الخارج/عندهم حميم (ولو على سبيل الافتراض).والهروب من المخيم يصبح بداية رحلة المأساة الفلسطينية عبر أماكن أخرى ستكون أكثر خطورة منه…

2/الطريق :عدوانية الصحراء..

  تحضر الصحراء ،كمكان ممتد ،مفتوح وخطير في محطتين من رحلة البحث عن الحلول الفردية :

+محطة :فلسطين /الأردن ،خاصة مع اسعد ، الذي تركه المهرب على الحدود في قلب الصحراء ،وهرب عنه ..وكادت الشمس الحارقة تقتله لولا سيارة الانجليزي التي أنقذته وأقلته إلى العراق..

+محطة :العراق/الكويت ..والتي سنعود إليها حين نحلل “الخزان/الصهريج” كمكان قاتل..لأنه ارتبط بها و أثرت فيه..

 وان كانت الصحراء عابرة في بداية الرحلة ، فإنها ستلعب دورا خطيرا ودراميا في نهايتها..

3/ المكاتب : عدوانية العلاقات البشرية..

-المكتب الأول :مكتب المهرب بالبصرة ،الذي كان يتعامل بفضاضة مع الراغبين في الهجرة السرية…خصوصا من خلال موقفه مع اسعد،ومروان بحيث طلب منهما ثمنا باهظا (15 دينار)وحين طلبا التخفيض في الثمن طردهما..

-المكتب الثاني : مكتب الجمارك الخاص بنقطة المراقبة العراقية ،حيث نجح أبو الخيزران في استخلاص الإذن بسهولة و مر بالسرعة المطلوبة للمرحلة التالية..

-المكتب الثالث : مكتب الجمارك الخاص بنقطة المراقبة الكويتية ،حيث اظهر عبثية الموظفين وهم يسخرون من أبي الخيزران ويعطلونه لكي يحكي لهم عن الراقصة كواكب ومغامراته النسائية الوهمية…في الوقت الذي كنا نعرف بأنه شخص فاقد لرجولته بسبب حادث إصابته خلال حرب 1948.

  هذه المكاتب ،كأماكن ضيقة ،تتحكم في مصائر الشخصيات …في حياتها وموتها بشكل سوريالي..فتصبح معادية لها وخطيرة عليها..

4/الخزان (او الصهريج) :الانغلاق القاتل..

يرتبط الصهريج أو الخزان بالشاحنة ، فبشكله الهندسي الحديدي (في الفيلم اتخذ شكل مستطيل)يحمل عدة دلالات رمزية :

– الأصل في الصهريج انه مكان للحياة،فهو خزان لحمل الماء خلال رحلات الصيد التي يقوم بها الحاج مالك الشاحنة والتي يعمل  أبو الخيزران في قيادتها.” وربما دل الصهريج على الجوف الحافظ لما فيه إلى حين نزعه ، ويدل على تيسير العسير والعز والمنصب الجليل ويدل على الأمن من الخوف”  كما ورد في تفسير الأحلام.

– شكله يشبه صندوق حمل الموتى أو قبرا…منغلق معتم وخانق..مناف لكل مظاهر الحياة ودال على الموت..

– وظيفته بالنسبة للشخصيات : الستر والحماية ..من عيون الرقيب،أي انه مكان مغلق حميم وامن..لكن ذلك محدد بزمن دقيق :7دقائق..

–  دلالته حسب واقعه الحقيقي، في ظل الصحراء وحرارة غشت القاتلة ، يصبح :مقلاة،وصفائح حديدية مشتعلة وخانقة …داخله معادي (الاختناق/شدة التعرق…).

– وظيفته المتحولة :الانتقال من نقل الماء(الحياة) إلى تهريب البشر(الكسب المادي غير المشروع).

 حين ينجح أبو الخيزران في المرور من نقطة الجمارك الأولى ،يسارع إلى فتح الصهريج لتخرج الشخصيات مرهقة غارقة في العرق ،فيصبح خارج الصهريج فضاء مفتوحا دالا على الحياة،رغم ارتفاع الحرارة بالصحراء(حرارة داخل الصهريج تصبح اعنف من حرارة الصحراء)..

 تعيش الشخصيات الثلاث تجربة موت محقق..ومع ذلك تعيد الكرة في نقطة الحدود الثانية..حينها يلعب عبث موظفي الجمارك الكويتيين دورا مأساويا في مقتل المتسللين….

 ينقلب هذا المكان  المغلق الضيق (الصهريج)من مكان مساعد إلى مكان معاد..من وسيلة لتحقيق الحلم إلى وسيلة للانتحار/الموت.

5/الكويت : مكان الحلم..مكان المأساة..

 باعتبارها دولة نفطية جديدة حينها ،أصبحت الكويت كمعظم دول الخليج محجا للباحثين عن تحسين وضعياتهم الاجتماعية والمادية ،وقد كانت في رواية “رجال في الشمس” مكان الحلم ،مكان حل جميع مشاكل المكان الأول (المخيم)،مكان يوفر العمل والثروة..

 وكانت نقطة الجمارك الكويتية هي الحد الفاصل بين فضاء غير امن وفضاء الحلم..وكان لابد أن ينتج عن خرق الحد وقائع خطيرة ، فقد كان المتسللون يخافون الرقابة والاعتقال ..ولم يتوقعوا أن الاختباء داخل الصهريج يكون اخطر من الرقابة..لم يقدروا أن الموت اخطر من السجن…وخرقهم للحدود كان سببا في مقتلهم..

 وهكذا تتحول الكويت ،في نهاية الرواية ،من مكان الحلم إلى مكان القبر..وليس أي قبر …انه مزبلة..تصبح الكويت- في الرواية – مزبلة لأحلام الفلسطينيين المتسللين…مكان النهاية المأساوية.. موت الحلم …موت الحلول الفردية….

 كانت رسالة قوية من الكاتب : كل الحلول الفردية – بغض النظر عن سن أو مستوى الشخصية- إلى مزبلة التاريخ…انه حكم قاس جدا ولكنه استشراف لما حدث (ويحدث) بعد ذلك في القضية الفلسطينية.

*المكان والحرية :

          حركة الإنسان داخل المكان تكشف حريته ، بحيث تصبح العلاقة جدلية بين فعل الشخصية الروائية باعتبارها إنسانا،والمكان الروائي . فمن خلال مجموع الأفعال التي تمارسها الشخصيات داخل المكان نكتشف حريتها أو عدم حريتها..فالشخصيات الفلسطينية الثلاث : أبو قيس وأسعد ومروان تعترضها عراقيل كثيرة منها ما هو اجتماعي كما اشرنا سالفا،ومنها ما هو مكاني (الصحراء/الحدود..)،ومنها ما هو سياسي (الاحتلال/الرقابة/الجمارك..)…ولأن “الدولة الحديثة” حولت المكان إلى متاهة بوضعها لحدود داخله (ما يسميه لوتمان بتسييج الحقل)فقد قيدت حرية الإنسان/الفرد/الشخصية.والأماكن التي عاشت داخلها شخصيات رواية “رجال في الشمس” ، واخترقتها فرضت عليها سلوكيات متعددة و متباينة ،سلوكيات غير إرادية ،فحين يكون المكان متسعا كالصحراء ،ومتميزا بالقفر والفراغ والحرارة المفرطة تذوب ذوات الشخصيات وتتلاشى وتتصاغر معرضة للضياع والتيه (مثل حالة اسعد داخل الصحراء حين تخلى عنه المهرب).

 وحين يكون المكان ضيقا (الفندق الرخيص/الصهريج) فانه يدل على الدفء والألفة والحماية …فعبر الصهريج تعارف الفلسطينيون الثلاث ووحدوا وجودهم/مصيرهم ، لكنه مكان انزاح عن معناه الايجابي ليتحول إلى مكان معاد وقاتل.

 و للمكان أثار بارزة على الشخصيات – خصوصا بفعل تقلب دلالاته- فقد تحكم حتى في لباسها(تخلي الشخصيات الثلاث عن ملابسها بسبب الحرارة داخل الصهريج).

  فالمكان في “رجال في الشمس”هو الذي يساعدنا على تمييز الأشياء بوضعها داخله ،كما يساعدنا على تمييز الأحداث ذات الطابع الزمني التاريخي…كما أن الصهريج كمكان يصور لنا تدبدب قيمة الشخصيات وتأرجحها بين قيم التدني والرفعة ،السمو والوضاعة ،الكبر والصغر…فبنزولها إلى قلب الصهريج تفقد حجمها وقيمتها…تتأرجح صورة الصهريج بين الفقاعة /الرحم حين تحس الشخصية بالحماية والأمان…والفقاعة/السجن حين تعيش الشخصية مغامرة المعاناة.

      فهروب الشخصيات الفلسطينية من رقابة السلطة السائدة على الأماكن العامة(الجمارك)دفعها إلى البحث عن مكان شخصي يكون ملكا لها ، ويكون حميما وأليفا(كما يسميه مول و رومير) يضمن لها الوصول إلى مكان الحلم (الكويت)وكان هذا المكان هو الصهريج،والذي بدل أن يكون “مكانا عندي”بالنسبة للفلسطينيين الثلاثة ، أصبح مكانا عند الأخر : أبو الخيزران،ومن يتحكم في مصير أبي الخيزران(الجمارك/السلطة)…أصبح الصهريج مكانا تخضع فيه الشخصيات الثلاث لسلطة الغير(تقدير وقت النجاة/تجاوزه).

 *خاتمة

إن غسان كنفاني ،عبر خبرته النضالية والإنسانية،وعبر شخصيات روايته يبني صورة للعالم عبر نظام لغوي تاريخي ،بطعم خصوصية المكان العربي،عاكسا بذلك مرجعيته الثقافية والسياسية النضالية المنحازة إلى قضية شعبه.

 وحتى المقولات المكانية التي تحدث عنها يوري لوتمان ، والتي لها دلالات سائدة في ثقافة مجتمعات أخرى منحها غسان كنفاني خصوصيتها الفلسطينية العربية،ووظفها بطريقة مميزة تعرف بمعاناة شعبه في البحث عن حريته..

   شعب سرقت منه أرضه ، وهيمن عليه جبروت المحتل ،فشرع في البحث عن حلول فردية مغامرة ..فلم يعد عدوه هو المحتل الغاشم ، بل قسوة الظروف الاجتماعية و جشع المهربين و قسوة الصحراء وعبث الجمارك العربية..

 ولعل رؤية كنفاني إلى ظاهرة الهجرية السرية كانت سباقة  لرصد ظاهرة خطيرة ومأساوية ستعاني منها البشرية لاحقا بشكل مستفحل..إذ أصبحت تمس كل المجتمعات الحديثة …خصوصا التي يعاني فيها الإنسان من عدوانية المكان  لأسباب شتى…حيث تولدت رحلات هروب لا متناهية نحو البحث عن أماكن أمنة…وفي الطريق تحدث أحداث خطيرة تودي بحياة المغامرين الهاربين كما حدث للفلسطينيين الثلاثة..

*المصدر : رواية “رجال في الشمس”/غسان كنفاني /الطبعة 2/1980.(سلسلة الأعمال الكاملة رقم 3)/المركز الثقافي العربي/البيضاء/المغرب.

* مراجع تمت الاستفادة منها :

“- جماليات المكان في النقد الأدبي العربي المعاصر” ، عبد الله أبو هيف(مجلة جامعة تشرين للدراسات والبحوث العلمية /سلسلة الآداب والعلوم الإنسانية/المجلد27/العدد1/2005.

 سيزا قاسم، بناء الرواية،ط:1، دار التنوير، بيروت، 1985.

 غاستون باشلار، جماليات المكان، ترجمة: غالب هلسا، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر، بيروت،ط:2، 1984.

 حسن بحراوي، بنية الشكل الروائي، المركز الثقافي العربي/ بيروت- البيضاء، ط:1، 1990.

 lotman(youri) / la structure du texte artistique,tra.pae anna fournier
et autres, paris , ed. gallimard ,1973.

 weisgerber(jean), l’espace romansque, lausane, ed. l’age d’hmmes,1978.

 littérature(revue), espaces et chemins, n° 65/1987

*ASPECTS DE L’ESPACE DANS LE ROMAN FRANÇAIS MODERNE IVAN SEIDL.

 

 

 

 

شاهد أيضاً

فرويد وصوفيا في جلسة خاصة

(ثقافات) فرويد وصوفيا في جلسة خاصة د. صحر أنور جلس سيجموند فرويد أمامها ينظر إلى …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *