خاص- ثقافات
*هشام ناجي
هل المسرحي المثقف قادر على حمل لواء التغيير والتبشير بمجتمع ممكن ومتخيل تسوده قيم العدالة والإنسانية والإخاء والتعايش مع الآخر؟وألا تعتبر نداءات بعض المسرحيين في وطننا العربي بالحرية والمساواة والكرامة شعارات مؤقتة فارغة من حمولة إنسانية في ظل ما يعيشونه من صراع داخلي بين الرغبة في التحرر من سطوة الكلمة التي تخنق صدورهم وبين حالة النفاق التي يمارسونها اتجاه الآخر (السلطوي) ؟ربما هي أسئلة مشروعة تستفزك بمجرد ملامسة طبيعة العلاقة بين الأنا المبدعة والآخر الممتلك للسلطة .
إن البحث في طبيعة هذه العلاقة المعقدة نوعا ما ،لهو محاولة لاستكشاف اللاوعي العميق للذوات المبدعة الطامحة لعالم متغير ،وبالتالي فان تلمس ماهية هذه العلاقة كفيل بأن يكشف طبيعة الشعارات التي يرفعها المسرحي على الخشبة حتى لا تكون مجرد شعارات جوفاء بلا قيمة .وهي أيضا محاولة لكي نستكشف احد أهم الأبعاد التفاعلية والثقافية لنماذج من الأمة ، حيث العلاقات تضطرب أحيانا بين رجل السلطة المحكوم بقواعد المنصب المختلفة كليا عن ضوابط وقواعد الإبداع ،مما يجعل التناغم والانسجام بين الرجلين أمرا مستحيلا لأن سؤال الثقافة بما يحمله من هواجس وأرق معرفي مختلف تماما عن سؤال السلطة والحكم .
قبل محاولة تلمس طبيعة هذه العلاقة لابد أولا من أن نعرج إلى ماهية المثقف ككيان مجتمعي حي إذ ميز الفيلسوف الايطالي انطونيو جرامشي “في كتابه”دفاتر السجن”هذا الكائن وصنفه إلى نوعين من المثقفين”المثقف التقليدي وهو الذي يواصل فعل الأشياء نفسها جيلا بعد جيل مثل المدرس والكاهن والموظف،والمثقف العضوي وهو صاحب العقل والمفكر المرتبط بصورة مباشرة بالطبقات آو المشاريع ذات المصالح المحددة .وقد امن جرامشي أن المثقف العضوي متورط بصورة فاعلة في المجتمع أي انه يكافح لتغيير العقول والأفكار وكل إنسان مثقف في نظر جرامشي بما انه يملك رؤية إلى العالم وبما انه يملك فلسفة خاصة به”(1)
ترى هل مسرحيينا المثقفين في العالم العربي يحق أن نصفهم بالمثقفين العضويين بالتعبير الجرامشي أم أنهم منعزلين عن هاجس التغيير الثقافي والاجتماعي، متشبثين بمقولة الفن للفن حيث لا التزام بقضايا الجماهير .والالتزام الوحيد هو العرض والإمتاع ؟
إن هذا التصنيف لهو قادر على أن يعكس لنا طبيعة الخطاب الصادر من مثقفينا رجالات المسرح في الوطن العربي، ليوضح لنا مدى صدقهم في التعبير عن القضايا ،ومدى خضوعهم للآخر من عدمه حتى لا يكونوا مجرد أبواق تنشر إيديولوجية الآخر وتبرر مواقفه بعيدا عن مصلحة الجماهير. وبذلك فان كشف طبيعة هذه العلاقة كفيل بأن يعطي المشروعية للمسرحي(المثقف) لكي يكون لسان المجتمع كما يمكن أن يسحب منه البساط إذا كان مجرد تابع .
عبر تاريخ المسرح الممتد تبلورت علاقة أزلية بين رجل الإبداع ورجل السلطة ،أحيانا يحفزها فعل الترويض والاستقطاب بالمال والجاه والنفوذ،ليكون هذا المثقف رجلا من رجالات البلاط ناطقا باسمه ومعبرا عن أفكاره ومبررا لأخطائه دون المبالاة بهموم الجماهير والعوام ،إلا أن التاريخ أيضا يسجل للمثقف أحيانا تمرده ورفضه واحتجاجه، لتلج أناه حلبة صراع غير متكافئ مع آخر يمتلك السلطة والقوة والأشخاص والذمم بينما هو لا يمتلك إلا كلمة فقدت سطوتها في بعض المراحل التاريخية للإنسانية ليظل قائلها معزولا ومهمشا في انتظار موت مادي بعد أن قتلت فيه كل مشاعر الإحساس بالحياة .
العلاقة بين المبدع ورجال السلطة والحكم هي علاقة أبدية أزلية نجد لها جذورا حتى في الفكر اليوناني القديم حيث يرى أرسطو في كتابه السياسة : ” أن الدولة سابقة على الفرد وأن الإنسان في حاجة إلى الدولة وأن الوحيد القادر على الاستغناء عن هذه الدولة لابد أن يكون وحشا آو إلها ” (2) رؤية لا يتفق معه فيها فيلسوف فرنسا المعاصر جون بول سارتر الذي يرى إمكانية اضطراب هذه العلاقة بين الفرد والدولة ممثلة في رجال السلطة مشيرا إلى أن “أولى مهام المثقف هي إزعاج السلطات” .
إن غالبية المثقفين في تاريخ الإنسانية قد ساروا على هذا النهج بما فيهم بعض رجال المسرح الذين اضطربت علاقتهم بالأخر لاختلاف الرؤى والتوجهات الفكرية للطرفين، والأمثلة عديدة لنماذج مسرحية غربية انبثقت في عصر النهضة الأوربية لتتبلور في مسرح الالتزام ومسرح بريخت الذي اتخذ من الفكر السياسي وقضية الصراع مع السلطة أطروحة أساسية لقضايا مسرحه.
عربيا لم تختلف صورة المثقف عن سابقيه في الثقافات والحضارات الأخرى ، فقد كان إما مستقطبا أو مغضوبا عليه ،ولعل مجالس الخلفاء في الحضارة العباسية والأندلسية وقبلهما عادات وأعراف القبيلة العربية قبل الإسلام تعكس مدى الحضور الطاغي للمثقف شاعرا وخطيبا في حاشية البلاط وكذا الاحترام والتقدير اللذان حظي بهما من العامة والخاصة نتيجة لهذا التقارب.لكن هذه العلاقة بين مثقفينا وبعض رجال السلطة في الوطن العربي قد اتخذت في العهود الأخيرة مسارات مختلفة إذ أن المثقف “أصبح يعكس حالة التفرقة الموجودة في المجتمع ويتهم بأنه فقد فاعليته لأنه لم يقم بالدور المنتظر منه وهو إنتاج المعرفة مما جعله في مؤخرة المجتمع وفي عزلة عن الناس ينضاف إلى ذلك سعي بعض النظم العربية جاهدة إلى الهيمنة والسيطرة وتدجين هذا المثقف وتهميش دوره .”( 3)
لقد فقد المثقف العربي (والمسرحي أيضا) صورته التي اهتزت “سواء في نظر نفسه أوفي نظر غيره ،انه لم يعد يثق في قدرته على تنوير العقول والتأثير في الرأي العام حيث شكلت هزيمة 1967 أهم دعائم هذا الاهتزاز للمثقف الذي كان يقود الجماهير في زمن سابق، ليجد نفسه اليوم محاصرا في المؤخرة وهو الذي اعتقد انه يقود الأمة ويحرر المجتمع من الجهل والتخلف. “(4)
أمام هذا التراجع نجد انه من المشروع أن نتساءل :كيف يمكن أن يبشر المثقف بعلاقة بين الأنا والآخر يسودها الاحترام والحميمية وهو يفتقد لدوره الحضاري ؟ وكيف يستطيع أن يعيد مكانته ليكون في المقدمة ويحرك الجماهير بعد أن انزاح إلى الخلف أو يحضر كضيف شرف في المهرجانات والندوات واللقاءات الفكرية ليتراجع بعد لحظات إضاءة إلى الوراء والهامش .
إن المثقف العربي لم يستطع أن يتخلص من سطوة السلطة ولعنتها سواء كانت هذه السطوة تتم بشكل مباشر ممثلة في القمع والسجن أو غير مباشر كالمصادرة والمنع والتركيع حتى يكون بوقا إيديولوجيا للنظام .
في سؤال طرح على الكاتب المسرحي المصري علي سالم أثناء لقاء مع أساتذة الأدب العربي والمسرح وطلبة الدراسات العليا بجامعة تل أبيب في زيارة تطبيع ثقافي مع الكيان الصهيوني بعد توقيع اتفاقية أوسلو بين هذا الكيان والسلطة الفلسطينية سجلت تفاصيلها في كتاب حمل عنوان “رحلة إلى اسرائيل” سئل الكاتب :هل توجد عندكم علاقات شخصية بين رجال السلطة والأدباء؟ فأجاب : “لا اصدق انه توجد على الأرض علاقات شخصية بين رجال السلطة والأدباء لكنني لا أتصور علاقة ود بين رجل السلطة ورجل الحرف ،العلاقة بينهما هي علاقة صراع ينتهي عادة بإسكات الأخير ونفيه أو سجنه ،حدث هذا للكثيرين في العالم كله المرة الوحيدة في التاريخ الذي خرج فيها رجل المسرح من السجن ليصبح هو نفسه رجل الدولة كانت في حالة “فانسلاف هافيل “في تشيكوسلوفاكيا ،هو الاستثناء الوحيد الذي يثبت القاعدة .هناك قدر كبير من الغيرة بين رجل السياسة والمبدع .أنت تكتب شيئا فتخرج الناس المال من جيوبها لتقراه وتشاهده بينما أنا أفعل المستحيل لكي أجد من يسمعني .”(5)
هذا التوتر على ما نظن هو أحد ملامح تقليص جرعات الحرية في الوطن العربي وضعف الديمقراطية في هذه المجتمعات حيث برز إلى السطح الجهل المتعمد للأخر (السلطوي)بماهية فن المسرح كمشعل للحضارة والرقي والتغيير والتبشير بعالم تسوده الإنسانية والرحمة والعدالة.ولأن المبدع شكل للآخر ضميره الذي ينام، حيث غالبا ما يذكره بفشله في تأسيس كيان مجتمعي قائم على أسس إنسانية فان العداء أضحى قاعدة منطقية لهذه العلاقة.
لقد أشار المفكر المغربي عبد الله العروي “في كتابه “بؤس المثقف” إلى أن أزمة المثقف العربي أزمتين ،أزمة بلده وأزمة وطنه العربي حيث يتراوح موقفه بين المخفف من خلال دراسة أسباب هذه الأزمة وسبل الخروج منها وبين المضاعف لها بأزمة نفسية ذاتية يلهي بها ذهنه وأذهان قرائه إضافة إلى ركونه إلى يقينيات معتقدا أنها المدخل الحقيقي للتغيير ينضاف إلى ذلك تخليه عن النقد.”(6)
البحث إذن في ماهية العلاقة بين الأنا والأخر السلطوي ليس عبثا أو من الكماليات ،بل هو ضرورة حتمية لان قناعات المبدع لا يمكن آن تتبلور وتكتمل بمعزل عن سخط أو مباركة هذا الآخر ،وأن الأنا يتقلص حضورها وتأثيرها بحسب نأيها أو اقترابها من رجال السلطة كما يمكن أن تتضخم هذه الأنا رغم تواضع خبرتها ووعيها الإبداعي بمجرد تأشيرة رضا وغفران من رجل قادر على فتح جميع الأبواب المغلقة والمستحيلة.
المسألة إذن أكبر وأعمق من أن يعبر مسرحي بعمل إبداعي عن قضية أو موقف.لأن من القضايا والمواقف ما سيخلد عبر التاريخ إذا لامس وعي الجمهور وذائقته الفنية وعبر عن واقعه ومتطلبات اللحظة التاريخية.
إن المسرحي العربي في حاجة ملحة إلى أن يعيد تشكيل وعيه ليتماشى مع متطلبات المرحلة الحضارية للأمة وان يتحرر من أوهام الفكر ومن تبعيته النسبية للأخر حتى يستطيع أن يعيش في وعي المشاهد العربي وحتى تستطيع شعاراته أن تجد لها منفذا إلى العقل والروح والإحساس .
قائمة المراجع والمصادر :
(1)د هويدا صالح ،صورة المثقف في الرواية الجديدة،سلسلة النقد الأدبي،رؤية للنشر والتوزيع،ط1،2013،ص21-22.(2)علي سالم،رحلة إلى اسرائيل،الناشر مكتبة مدبولي الصغير،ط1،1416-1996.ص202.(3)د .هويدا صالح ،صورة المثقف،ص49.(4)نفس المرجع،ص45-46.(5)علي سالم ،رحلة إلى اسرائيل،ص113-114.(6)د محمد أبو العلا،المسرح المغربي،سؤال التنظير وأسئلة المنجز،منشورات المركز الدولي لدراسات الفرجة،سلسلة رقم 24،ط1،2014،ص16-17.