مهرجان الأرض… عبقرية التقشف والفهم الجوهري لمعنى الجوائز

*إبراهيم نصر الله

كانت الطرفة التي قالها أحد الفنانين الأردنيين في سهرة جمعتنا، تعقيبا على مشاركته في أحد المهرجانات الثقافية العربية مضحكة: أظن أن نفقات الألعاب النارية التي أطلقت يوم افتتاح المهرجان العربي الذي شاركت فيه كافية لإقامة مهرجانين ثقافيين كبيرين عندنا.
بعد قليل، راحت ابتساماتنا تنكمش، فالأمر، في جوهره، لم يكن طرفة، بل كان مأساة حقيقية بالنسبة لي، على الأقل، حين تذكرت ذلك المهرجان الذي شاركت في لجنه تحكيمه قبل أسبوعين، وأعني (مهرجان الأرض للأفلام الوثائقية) الذي يقام في سردينيا، في دورته الخامسة عشرة.
ثمة شيء نادر، ربما لفرط الشفافية التي يتمتع بها المهرجان، هذه الشفافية التي أنجبت ذلك المخلوق الجميل الرائع الذي أدعوه هنا عبقرية التقشف.
في ظروف صعبة، يقاتل القائمون على المهرجان كل عام للحصول على تمويل له، وتتحمل مقاطعة سردينيا الجزء الأكبر، إضافة لبلدية عاصمتها، مدينة كاليري. لكن الآلاف القليلة من اليوروهات التي يحصل عليها منظموه، تصرف بتدبير، مثل ذلك الذي كانت تتمتّع به جداتنا، وأمهاتنا، فمن هذه النقود القليلة تكون مصاريف تذاكر السفر لعشرة ضيوف على الأقل، من مخرجين ومنتجين ولجان تحكيم، ومنها تكون الإقامة في الفندق، وكذلك نفقات الطعام طيلة أيام المهرجان، وقبل هذا وبعده، تكون قيمة الجوائز الثلاث التي تمنح للفائزين.
ونعود لعبقرية التقشف مرة أخرى، لنرى أنها تجلت هذا العام، مثلا، في عرض ستة وثلاثين فيلما داخل المسابقة الرسمية، من فلسطين ولبنان والأردن ومصر وتونس والجزائر والعراق واسبانيا وبلجيكا وإيطاليا وإستونيا وإنجلترا. وقد اختيرت من بين ستة وستين فيلما قُدِّمت للمهرجان، ما يعني أن لجنة فرزٍ عملت أيضا على اختيار الأفلام، إلى جانب لجنة التحكيم التي تعمل على مشاهدة الأفلام داخل المسابقة واختيار الأفلام الفائزة من بينها.
وإلى جانب الأفلام التي يشاهدها الجمهور الإيطالي، شهد هذا العام عرض مسرحيتين بالإيطالية (أرض البرتقال الحزين) عن نص لغسان كنفاني قدمه الممثل عمر سليمان، و(مأساة جيفارا) عن نص لمعين بسيسو للمخرجة مونيكا زونكيدو، وإلى ذلك المعرض الفوتوغرافي الذي حقق حضورا كبيرا، بعنوان (فلسطين: مدن تقاوم) للفنان المصور أحمد المحسيري، وأمسية شعرية بالإيطالية والعربية، بمشاركة الموسيقي ماركو عمار والممثلة الإيطالية فالنتينا سولاس.
ومن الجميل في هذا المهرجان للسينما الوثائقية الذي افتتح بالفيلم الروائي (3000 ليلة) للمخرجة مي المصري، قد آخى بين المسرح والموسيقى والشعر والتصوير، لكنه لم يكتف بهذا، فقد نظّم ثلاث ورشات عمل مع الطلاب الجامعيين، خلال المعرض، منها ورش «الحصار مستمر»، عن قطاع غزّة، و«المياه المسروقة»، عن استيلاء الاحتلال على المياه، و«التطهير العرقي في فلسطين»، حول النكبة الفلسطينيّة. أما أطفال المدارس، وأعود وأقول الإيطاليين، فقد كان لهم لقاء عن تاريخ القضية الفلسطينية، للمدارس الثانوية، وعرض خاص لأحد أفلام المهرجان، كما أن المهرجان الذي يعي جيدا دور مدرّسي المدارس، نظّم لهؤلاء دورة حول «نظام الفصل العنصري» في فلسطين، ولقاء آخر حول «النظام التعليمي في فلسطين». كما تركزت لقاءاتٌ أخرى عن «فلسطين والاحتلال»، و«الاستعمار والمقاومة»، و«الأبارتايد كنظام استعماري – تجربة جنوب إفريقيا»، و«الأبارتايد في فلسطين».
في حقيقة الأمر، تبرز هنا البطولة الاستثنائية للجمهور الإيطالي الذي تابع العروض والنشاطات بكثافة متواصلة طيلة أيام المهرجان.
وإن كانت عبقرية التقشف هي السمة الكبرى هنا، إلا أن التفتّح المذهل لدى أعضاء لجنة التحكيم كان سمة أساسية لا نعرفها أبدا في حياتنا الثقافية العربية، للأسف!
من بين الأفلام المشاركة كان فيلم «أحلام منكسرة» للمخرج الفلسطيني الشاب محمد حرب، وهو فيلم آسر عن فتاة من غزة، لم يعد والدها قادرا على الصيد في البحر، بسبب حالته الصحية، فقررت أن تكون صيادة سمك، رافضة منطق: أن هذه المهنة للرجال، ورافضة نظرة المجتمع القاسية في البداية، المُقدِّرة لها في النهاية، رافضة أن تجوع أسرتها. كان الاتفاق على الفيلم الذي فاز بجائزة (فلسطين) كاملا، لكن الملاحظة المهمة هنا، أن أحدا من أعضاء لجنة التحكيم لم يقل: ولكن محمد حرب فاز في دورة العام الماضي بالجائزة أيضا عن فيلمه عن أنفاق غزة. وهذا أمر لا نراه مطلقا في كل الجوائز الثقافية العربية، التي كلما قدّم فائز بجائزة، عملا رائعا، قد يكون أفضل من العمل الذي منح جائزة عنه، عاقبوه، بإبعاد عمله الجديد، كما لو أن عليه كما نقول شعبيا: «إحمد ربك أنك فزت بالجائزة مرة!» أو كما لو أن لجان التحكيم تقول له: «خذ الجائزة ولا ترنا وجهك مرة أخرى!».
في عالمنا العربي عوقب كثيرون من هذا المنطلق الضحل، الذي لا يفقه أن الجوائز ليست لتأبين المبدعين، بل لدفعهم لإنتاج أعمال أفضل، والتفرغ لأعمال أكبر.
كانت لجنة التحكيم مكونة من سبعة أعضاء من بينهم: مخرجة سينمائية، كاتب، مدير مكتبة السينما في سردينيا، ثلاثة أساتذة جامعيين من بينهم أستاذ تاريخ التصوير والسينما والتلفزيون في جامعة كاليَري، وأستاذ فقه اللغة العربية وآدابها في الجامعة الدولية للإعلام واللغات في روما.
.. إلى جانب محمد حرب، فازت الجزائرية بهية بنشيخ الفقون بجائزة «الأرض» عن فيلمها «شظايا أحلام»، وفاز فيلم البيت للمخرج البلجيكي بربر فيربست بجائزة العمل الأول، وفيلم «الحقيقة.. ابتلعها البحر» للمخرج رفعت عودة بجائزة الجمهور، وذهبت جائزة جمعية سردينيا- فلسطين، إلى فيلم «اصطياد الأشباح» للمخرج رائد أنضوني.
كل تلك الحياة، وكل هذا الجمال، وكل هذه الكثافة المبدعة، كانت إبنة عبقرية التقشف التي وضعتها أساسا لعملها جمعية «سردينيا ـ فلسطين»، بمشاركة 40 متطوعا من مصممين ومنظمي عروض ومستقبلين ومقدمين ومديرين للحوارات التي تعقب الأفلام، ومترجمين للأفلام المشاركة، وفنيي إضاءة ومشرفين على ترتيب المسرح…
مهرجان كهذا يثبت لنا أن المستحيل ممكن.
___________
*القدس العربي

شاهد أيضاً

أول رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي

(ثقافات) أوَّل رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي: أركيولوجيا الصورة في رحلة ابن بطوطة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *