طاء الطريق راء النذير سين السؤال في “أطراس الكلام ” للركابي
أبريل 17, 2018
خاص- ثقافات
*قراءة خلود البدري
” التنازل عن حفنة من أجمل سنوات العمر سعيا لتحقيق الهدف المنشود قبل التمتع بلحظات الفوز “
هذا ما كتبه الروائي عبد الخالق الركابي في روايته ” أطراس الكلام ” نعيد نشره اليوم ونحن نبارك له التكريم من قبل مؤسسة العويس الثقافية في دبي ، وذلك لنيله جائزة الرواية .
كانت هذه كلمات الأب لأبنه ، يوصيه فيها بأن يكون جديرا بأن يعلق على الحائط صورته الشخصية ، بجانب كلا من صورتي الأب والجد .
أن الدخول لعوالم رواية ما ، لا بد لنا من قراءة متأنية لتلك الرواية ، لمعرفة إلى إي نوع من الأنواع تنتمي ، لكننا بقراءتنا لرواية الركابي ، تساءلنا هل نضعها كأدب الحرب ، أم أدب السير الذاتية ، فقد مازج الكاتب بينهما فكانت البداية مع الحرب والدمار الذي طالّ كل شيء ، المباني ، البشر ، كذلك النهاية كانت بفقدان البطل والده، يستشهد ، هكذا كانت الخاتمة استشهاد الأب أثر قصف المدينه التي هجرها الابن ، هي رحلة للبطل منذ التكوين الأول في بطن أمه ” جنين ” إلى رحلاته مع جده عندما أشتد عوده وأصبح صبيا ، على روح البطولة والمغامرة في ذلك الجد الذي أحبه بقوة ، دربه على أن يتحمل الكثير من المغامرات التي كان الجد مغرما بها ، وقبل أن نُقدم على قراءة الرواية ، لنعرف أولا : العمليّة النقديّة ولماذا نقوم بذلك ” أنّ العمليّة النقديّة تفترض ، أساسا ، أنّ الأثر الأدبيّ ، إذا ما تمّ نشره ، لا يكون له من وجود إلاّ بقارئه ومن أجل قارئه وهو الذي يعطيه حياته ومعناه . غير أنّ ” جان . بلمان _ نوال” يذّكرنا في مقال نُشر في ديسمبر 1995 أنّ النّاقد ليس قارئا مثل سائر القرّاء . قال : ” أنّ النّاقد هو ذلك القارئ الذي يدوّن نتائج قراءته حتى يتسنّى لغيره من القرّاء ممّن يكونون متعجّلين أو غير متفرّغين تفرّغه في دراسة النّصّ أن يجدوا فرصة لقراءته قراءة مغايرة ، أي ، بعبارة أوضح : أن يقرؤوه قراءة أفضل وأثرى .” النقد الأدبي فابريس تومريل.
أولا: الإهداء إلى عبد الله إبراهيم … إمتنانا لتلك اليد التي حررت قلمي من قيد الحاجة . ما أجمله من إهداء .. كم هي عظيمة وتمتلك من إيثار من تمدنا بالحياة. بعدها يعرج بنا بمقطع ل ألبير كامو ” إنني أؤمن بالعدالة ، ولكن عليّ أن أدافع عن أميّ قبل العدالة ” بعدها الآية 35 من سورة النور ” الله نور السماوات والأرض …” القرآن الكريم. تلك الضربات الأولى ، المفتتح الأول للرواية ، كمقدمة موسيقية يعزف من خلالها الركابي” 1 طاء الطريق ، عبثا بقيت متشبّثا بسمّاعة الهاتف أستنطقها المزيد ، فقد انقطع الاتصال قبل أن أفهم حقيقة ما حصل ، بيد أنّ الكلمات التي حملتها لي الأسلاك من بُعد مئات الكيلومترات كانت كافية لكي نعقد خيط ما انقطع : فإذا بتينك العينين _ عيني إبي وقد علتهما غمامة الشيخوخة _ ترمقانني بنظرة إدانة لا ترحم ، غامرتين أياي بشعور قديم بالأثم كنتُ أحسبه قد ذاب وتلاشى منذ اليوم الذي أوليت البيت ظهري قبل سنوات وقد عزمت على هجره إلى الابد ، لكن .. شدّ ما كنت مخطئا، فها أنذا أكتشف أنّ الماضي لن يموت بتلك البساطة التي تصورتها ، وأنّ الأوجاع القديمة تظل تنبض في موضع ما من الروح _ لا الجسد _ في انتظار الظفر الذي ينكأ مصادفة الجرح لتبدأ الذكريات بالنزيف ” ص11
بهذه اللغة الرشيقة أخذنا الركابي معه برحله لاسترداد صحيفة الماضي، العودة إلى حيث الجذور ، الرحلة التي فرضتها عليه ظروف الحرب فجعلته يعود لمدينته التي هجرها ليحط بها الرحال ، رحلة لاسترداد الحياة الغاربة ، حياة الطفولة والمعاناة ، الولادة العسيرة ، الأب المتسلط والقاسي ، الأم المغلوب على أمرها وهي تحمل وزر ولادتها للبنات ، الحمل في الكبر ومحاولة الأب أرغام الأم على التخلص من الجنين ، مأساة الأم وهي تحتفظ بقطعة من كبدها ، يدمج هذا بذكرياته تلك أثناء رحلته من بغداد إلى مدينته، السيارة والسائق مع مفارقات ” ابو خضر ” الرجل الساذج ، الطرائف التي يمر بها ، وحكايات الرجل المسؤول عنه ، اللازمة التي ما فتأ يكررها كلما مر به موقف من المواقف ، كل ذلك وأكثر ، هي رحلة الهروب من آثار الحرب ، لتفقد أثار تلك الحرب في مكان آخر . ولنشهد من خلال سطور هذه الرواية ، مأساة العراق وتدميره الممنهج بآلة الحرب الأمريكية ، لهذا كان دخولنا إلى عالم الركابي الروائي من باب ربما نكره أن نطرقه ، لكننا لا زلنا نعيش في خضم تداعياته ، وما تركته فينا آلة الحرب ، مدى الدمار الذي طالّ الجميع . يكتب لنا الروائي عبد الخالق الركابي ” .. عقب انتهاء ( عاصفة الصحراء ) وإعلان وقف إطلاق النار ، بأدق تفاصيلها ، كنت كمن يتلمس بأنامل راجفة جسده بعد نجاته من زلزال مدمر قلب الدنيا رأسا على عقب ، بحثا عن أي جرح أو نزف فاته التنبه إليه في ذروة الفاجعة . كانت كل عمارة مصابة بقذيفة … وكل نصب تذكاري شوهته الشظايا … كل جدار مال على جنبه متهدما … كل سقف انبطح ملتصقا بالأرض ، كل منشأة عطلت عن أداء مهمتها … كان كل ما خلّفته الحرب وراءها من دمار في كل حيّ من أحياء بغداد _ سواء في ( الكاظمية ) أم (الأعظمية) أم (الوزيرية ) أم (باب المعظم) أم (السنك) أم (الباب الشرقي) .. كان جرحا ينزف ملء روحي … لم أكن أبكي بطبيعة الحال ، إنما أشعر بأن ما يجري في عروقي محض دموع لا دماء .. ” ص21 في هذه السطور يصف لنا الكاتب الدمار ليس في بغداد وحدها بل في كل محافظة من محافظات العراق ، جعلت الحرب من أرضه أرضا محترقة ، مرتعا للموت والخراب ، ما نفثته تلك الآلة على أرضه وما ابتلعته أنهاره ، الجسور التي تهاوت فيها ، كان هدف هذه الحروب تدمير الإنسان . يتذكر الجسر ، ذاك الذي طلبت منه حبيبته أن يلتقط لها صورة بقربه رغم الخراب الذي طاله ، كعلاقته بحبيبته تلك ، نعود للرحلة التي يسترجع فيها الكاتب طفولة قديمة بكل ما فيها من ألم وفرح ، رحلة حملت في الساعات التي تقطعها السيارة فكاهة ( ابو خضر ) فكان الضحك بعينين دامعتين .
يسرد لنا خلالها ما مر به ، واصفا الشارع المؤدي إلى الكراج، وما يحدث فيه من مفارقات من قبل السائق، والركاب ، كل التفاصيل التي تبدأ بمناوشات السائق مع الركاب. هي رحلة في البحث عن الذات في الذات ، ” ها هي حكمة العمر يحملها لي هذا الدرب على شكل بستان غرسه جدي بالفسائل ليلا فحباه الله بقبس من نوره شحذ خيالي في طفولتي ، وجبل جعله الإنسان مكمنا للشر شغلني في مراهقتي ، وقلب نبض بالحب عمر لي شبابي ” ص185لهذا كانت رحلتنا مع الرواية لنستشف من خلال سطورها الحياة أثناء الحرب ، المعاناة ، ومقدار الدمار الذي يطال البشر . هذه الرواية التي كُتبت قبل عدة سنوات نتذكرها اليوم ، ونحن نستذكر حربا أخرى تهاوت بها مدنا وخربت أكثر من قبل ،” وهكذا فأن النّاقد هو ذلك الذي لا ينشئ الأثر إنمّا يعيد إنشاءه دون أن يدّعي القيام مقام الكاتب أو القارئ. وهو بهذه الصّورة يُنشىء نفسه . فإذا تمثلت مهمة النّاقد في رفع درجة اليقظة عند القّراء وتعليمهم ان يحسّنوا قراءتهم فإنّ مهمة النّقد ، مثلما أقره ” شيجاهيكو حاسومي” وهو ناقد من أشهر النّقّاد اليابانيّين ، إنّما هي في إيقاظ علاقة نائمة وإحيائها وذلك بخلخلة هذا العالم من البديهيات الخاطئة ” ص25 ونحن هنا نضع يدنا على النصوص الكبيرة ليصل لها القارىء بسهولة و أيضا ننقد لا لنجد العيوب في النصوص بل لنجد الجمال . وقد رغب شاتو بريان أن يقع تعويض ” نقد العيوب وهو نقد صغير ويسير ب نقد الجمال وهو نقد عظيم وعسير ” وقد ردد بروست صداه … ” معتبرا أنّ هدف النّاقد الماهر أن ينقّي النصوص تنقية صحيحة وأن يبعث في القارئ الإعجاب بعبقرية الكتّاب الكبار. ص30 _ 31 نفس المصدر. فلأدب الحرب كتاب كبار دونوا بروايات عظيمة ما حصل بهذا القرن من الزمان من حروب ، فخرجت من بين أيديهم روائع الأدب العالمي ، والتي حاز قسم منها على جائزة نوبل . من تلك الروائع ، رواية ” الحرب والسلام “للروائي الروسي ليو تولستوي وزميله الروسي ميخائيل شولوخوف في ” الدون الهادىء ” ثالثهم يوري بونداريف في روايته ” الثلج الحار” وسلافيدين أفيدتشن في ” مخاوفي السبعة ” للأمريكي إرنست همنغواي ” لمن تقرع الأجراس ” و” وداعا للسلاح “، وكذلك رواية البريطاني جورج أوريل ” الحنين إلى كتالونيا ” و” لحن ماثوركا على ميتين ” للإسباني كاميلو خوسيه ثيلا . تلك الروايات نالت شهرة عالمية لأنها صورت لنا الهم الإنساني والقيم العليا ، السلم والخير والمحبة، بدلا من الدمار والخراب الذي تخلفه الحروب وراءها . فتكون طاء الطريق الرحلة بما فيها من أحداث ، وراء النذير ، مقتل البومة باصطدامها بزجاج السيارة أثناء الرحلة ، المرأة النادبة أم الشهيد ” الباحثة عن أبنها ، الغير مصدقة موته ، التابوت الذي تحمله سيارة ، يمر بهم خلال رحلتهم تلك ،أما سين السؤال ، لماذا ضيعت الحب ؟ لِمَ لم تُقاتل في سبيل الحفاظ عليه ، قال البطل لرؤى بعدما عاتبته على التخلي عنها : “… وأردفت وهي تريني أثر حرق طويل أمتد على أحد ساعديها :
_ أنظر … إلاّ يسوّغ هذا لي الحق في أن أكون قاسية معك ؟
أجبتها بحرقة وقد تجسدت في ذهني دقائق ذلك اليوم المشؤوم الذي بدا أطول من دهر:
_ لعلني أحمل في روحي مثلما تحملين على جسدك أكثر من أثر وندب ” ص203