نزهة فلسفية في غابة الأدب (9)

* ترجمة وتقديم : لطفية الدليمي

حوارية بين الروائية – الفيلسوفة آيريس مردوح والفيلسوف بريان ماغي

 

    العلاقة بين الفلسفة والأدب علاقة وثقى نشهدها في التضمينات الفلسفية في الكثير من المنتجات الأدبية لبعض أعاظم الكُتّاب ، ونعرف أنّ بعض الكتّاب كانوا أنفسهم فلاسفة محترفين ، والأمثلة في ذلك كثيرة ؛ غير أن طبيعة العلاقة وحدودها بين الأدب والفلسفة ظلّت حقلاً إشكالياً منذ العصر الإغريقي وحتى عصرنا هذا .

  يسرّني  أن أقدّم في هذا القسم – وهو القسم الأخير – ترجمة للحوارية الرائعة عن طبيعة العلاقة بين الأدب والفلسفة والتي عقدها الفيلسوف البريطاني الشهير ( بريان ماغي Bryan Magee ) مع الروائية – الفيلسوفة الراحلة ( آيريس مردوخ Iris Murdoch ) ، وقد سبق لي تناول جوانب من فكر هذه الفيلسوفة المميزة في حوار سابق منشور في المدى ؛ أما بالنسبة إلى  ( بريان ماغي )  فهو فيلسوف ، وسياسي ، وشاعر ، وكاتب ، ومقدّم برامج بريطاني ولِد عام 1930 ويُعرَف عنه مساهماته الكبيرة في ميدان تقديم الفلسفة إلى العامّة وجعلها مادة تحظى بالمتابعة الجماهيرية القوية ، وهو صاحب مؤلفات كثيرة في هذا الميدان .

   أذيعت هذه الحوارية على البرنامج الثقافي للتلفزيون البريطاني عام 1978 .

                                                              المترجمة

ماغي : سبق لي أن تحدّثتُ عن أنواع محدّدة من الوعي الذاتي المستحثّ بواسطة اللغة ؛ لكني أودّ الآن أثارة سؤال بشأن موضوعة أخرى . تنطوي إحدى الخصائص المميزة لفلسفة القرن العشرين ، وبخاصة في العالم الأنغلو- ساكسوني ، على الإنشغال المتمركز حول اللغة والوعي الذاتي بكيفية إستخدامها . ماهو المدى الذي ظهرت فيه مفاعيل هذا الإنشغال الفلسفي باللغة في الرواية ؟ وهل طالتكِ – باعتبارك فيلسوفة إنقلبت روائية فيما بعدُ – شرارة هذا الإنشغال الفلسفي في رواياتك ؟

مردوخ : نعم هذا صحيح ، ثمة أزمة بشأن علاقتنا باللغة ، وقد غدونا أكثر وعياً بها ومن ثمّ لم يكن مفرّ من أن يتأثّر الكتّاب بهذا المبحث الفلسفي .

ماغي : إنّ إحدى المترتّبات الناتجة عن هذا الأمر هو أنّك – مثلاً – ماعدتِ قادرة على الكتابة الروائية بمثل ماكان يفعل روائيو القرن التاسع عشر .

مردوخ : بالطبع ، ونحن لسنا روائيين مُجوّدين في أعمالنا مثل هؤلاء الكتّاب ؛ لكننا في العموم نكتب بطريقة مختلفة عنهم .

ماغي : هل يمكنكِ أن تحدّثينا قليلاً عمّا يصدّك عن الكتابة مثلهم ؟

مردوخ : هذا سؤال تعسر الإجابة عنه . ثمة إختلافات بيّنة تختصّ برؤية الكاتب وعلاقته بشخصياته الروائية ؛ إذ أنّ علاقة المؤلّف بتلك الشخصيات تكشف الكثير عن مقارباته الأخلاقية . ثمّة تغيّر أخلاقي طاغٍ حصل بعد القرن التاسع عشر ، وهو تغيّر يستعصي على الرؤية التحليلية البسيطة ، وبشكل عام يمكن القول أنّ كتاباتنا باتت أكثر سخرية وأقلّ حفزاً للثقة بالنفس ( لدى الكاتب وقرّائه ) ، ونحن نخشى كثيراً – ككُتّابٍ – أن نبدو غُشَماء متسربلين بالسذاجة الفاقعة . الحكاية الروائية باتت اليوم أكثر إلتصاقاً بوعي الكاتب الذي يرويها من خلال وعي شخصياته الروائية ، وفي العادة لن تجد حُكماً أو وصفاً يصدر عن الكاتب بحيث يبدو الكاتب وكأنه يمتلك سطوة خارجية . إنّ الكتابة على طريقة روائيي القرن التاسع عشر في وقتنا هذا تعني أن توظّف أداة أدبية ، وكما ذكرتُ من قبلُ فإنّ الأدب ، وعلى قدر ماأعتقد ، شيء يختصّ بالحالة الصراعية بين الخير والشر ؛ غير أنّ هذا الأمر لاينكشف بوضوح في الكتابات الحديثة التي يكتفي فيها الكاتب جعلنا نتعايش وسط مناخاتٍ متّسمة بالتحدّي الأخلاقي ، وحيث يتمّ عرض شخصيات معتدلة في أمزجتها الأخلاقية . ثمة عوامل كثيرة تدفع نحو التغيّر الأدبي ، والوعي الذاتي للغة قد يكون عَرَضاً بين الأعراض الناشئة عن ذلك الوعي الذاتي أكثر ممّا قد يكون سبباً بين الأسباب الدافعة لحفزه . قد يكون أفول الدين وتراجعه الحادثة الأهمّ التي جرت وقائعها خلال المائة سنة الأخيرة ؛ فقد سلّم الروائيون العِظام في  القرن التاسع عشر بالدين ؛ غير أنّ خسارة المعتقدات الدينية إلى جانب تزعزع التراتبيات الهيكلية الإجتماعية كفيلة بجعل أحكامنا مؤقتة الطابع ، والإهتمام بالتحليل النفسي ، من جانب آخر ، يجعلها أعظم تعقيداً . حصلت لدينا تغيّرات عظيمة مثّلت إنعطافات حاسمة إلى حدّ يوحي بأنّ علينا أن نكون أفضل من أسلافنا ؛ لكن واقع الحال ينبئ بأننا عجزنا أن نبلغ تخوم تلك الأفضلية المتصوّرة .

ماغي : نحن نقترب الآن من خاتمة هذا الحوار ؛ لكن قبل أن نبلغ الخاتمة أتطلّع لأن تشرحي لنا مايعنيه أمر العلاقة بين الكاتب وشخصياته تبعاً إلى خلفيات موقفه الأخلاقي ؟

مردوخ : من الأمور المهمّة دوماً تذكّر أنّ اللغة ذاتها هي وسيط أخلاقي لأنّ معظم إستخدامات اللغة منصبٌّ على التبليغ بالقيم والتبشير بها ، وهذا أحد الأسباب التي توضّح السبب وراء بقائنا نشطين وفاعلين أخلاقياً بصورة دائمة . الحياة منقوعة في الأخلاق ، وكذا الأمر مع الأدب : إذا حاولنا ، مثلاً ، وصف هذه الغرفة التي نجلس فيها فإنّ وصفنا سيتضمّن حتماً مختلف أنواع القيم . إنّ مايجري في الحياة اليومية هو عزل القيم وجعلها تطفو على سطح اللغة لأجل تحقيق مآرب علمية ؛ لذا فإنّ الروائي مُلزَمٌ بالكشف عن القيم التي يوقن بأهميتها من خلال النصوص التي يكتبها ، وهو في خاتمة المطاف مُلزَمٌ بإصدار أحكام أخلاقية طالما كان معنياً بسلوك كائنات بشرية . ثمة أمر آخر : كنتُ إقترحتُ من قبلً أنّ العمل الأدبي ينطوي على جانب محاكاتي وصوريّ في الوقت ذاته ، والطبع قد يحدث تصارع بين هذين الجانبين ؛ فقد يتمظهر هذا التصارع في الرواية بهيئة حالة تصارعية بين الشخصيات والحبكة الحكائية ، وهنا نتساءل : هل ينبغي على الكاتب أن يفرض تحديدات على شخصياته بحيث تلائم الحبكة الحكائية أم يفعل ذلك بطريقة تلائم أفكاره وأحكامه الأخلاقية ؟ أم أنّ من الأفضل له أن يدع كل شيء يتنحّى جانباً ويجعل شخصياته تتطوّر بطريقة مستقلة عنه وعن بعضها دون أي إعتبارات مسبّقة حاكمة بخصوص الحبكة الحكائية أو أية أفكار سائدة ذات سطوة ؟ وكيف يكشف الكاتب ، على وجه التخصيص ، عن إطرائه أو تقزّزه الأخلاقي أزاء شخصياته الروائية ؟ إنّ الكاتب مُلزَمٌ بأن يفعل هذا الأمر بوعي أو من غير وعي : كيف يسوّغ الكاتب ، مثلاً ، الخير ، وكيف يقوم بعرضه والإشارة إلى وجوده ؟ إنّ الأحكام الأخلاقية للكاتب هي الهواء الذي يتنشّقه القارئ ، وفي قدرة المرء هنا أن يمايز بوضوح مقبول بين الفنتازيا العمياء والخيال الرؤيوي . الكاتب السيئ يرضخ تحت سطوة الإستحواذ الشخصي ويصبح رهينة له عندما يقوم بتمجيد بعض شخصياته الروائية وازدراء بعضها الآخر دونما أيّ اعتبار أخلاقي للحقيقة أو العدالة ومن دون تقديم أي مسوّغ جمالي مناسب ، ومن الجليّ هنا أنّ فكرة الواقع تتخلّل الحُكم  الأدبي وتتسلّل في ثناياه . الكاتب الجيد في نهاية المطاف هو مثل القاضي العادل ؛ فهو يسوّغ موضعته للشخصيات الروائية في الأعمال التي ينهض بعبء كتابتها .

   يمكن للكاتب العظيم دوماً أن يناغم بين الشكل الروائي والشخصيات الروائية بطريقة مترعة بالكياسة واللباقة ، مثلما فعل شكسبير ، بحيث يخلق فضاءً فسيحاً تتحرّك فيه الشخصيات بحرية دونما إخفاقٍ في خدمة مبتغيات الحكاية الروائية . العمل الفنّي العظيم يمنح المرء إحساساً بالفضاء الواسع ، ويبدو معها القارئ كمن أستضيف في قاعة شاسعة لأجل التأمّل والتفكّر .

ماغي : هل يعني كلامكِ وجوب توطين الكتابة التخييلية نفسها على قبول الأمور مثلما هي في الواقع ، وكذلك في احترام الأشياء بالوضعية التي خُلِقت بها ؟

مردوخ : الفنانون غالباً مايكونون ثوريين بمعنى أو بآخر ؛ لكنّ الفنّان الجيد ليس ثورياً وحسب بل لديه إحساس فريد بالواقع ويمكن ان يُقال عنه أنّه يفهم كيفية صيرورة الأشياء والعلّة الكامنة وراءها ، ومن الطبيعي أن تكون مفردة ” الواقع ” مكتنفة بالغموض في الفلسفة ، وقد استخدمتها هنا لتأكيد قناعتي بأنّ الفنان الجيد إنّما ينظر إلى العالم ويرى فيه أبعد وأعمق وأكثر ممّا يراه الآخرون . الفنان الجيد يكتشف الروائع الخبيئة التي يحجبها القلق الفرداني عند سواه ويخلع عليها استاراً كثيفة ؛ لكنّ مايراه الفنّان ليس شيئاً معزولاً ولاهو موضوعة ميتافيزيقية مفارقة للواقع . يقحم الفنّان في العادة مساحة كبيرة من شخصيته في عمله ، وهو في العادة يعمل في عالم الفهم المشترك ويتقبّله . الفنّ مرتبط أوثق الإرتباط بكيفية عيشنا ، وأنا إذ أقول هذا لاأسعى للدفاع عن الكتابة الواقعية بل أبتغي الإشارة فحسب إلى حقيقة صعوبة تجنّب الفنان لمتطلبات الحقيقة التي يفرضها الواقع ، وعلى هذا الأساس فإنّ قرار الكاتب بشأن كيفية حكي تلك الحقائق هو أكثر القرارات أهمية بين كلّ القرارات التي يتخذها الكاتب في حياته .

ماغي : هل تعتقدين أنّ هذا القبول بالواقع يستلزم نزعة محافظة معتدلة ؟ أتساءل هنا هل يمكن المحافظة على تلك النزعة المعتدلة أزاء الأشياء والناس عندما تكون علاقتنا بهم منبثقة من الشغف الطاغي ومدفوعة بدافع الحبّ الجارف ؟ ربما حين يختصّ الأمر بالناس قد تكون مفردة النزعة ” المتسامحة ” أفضل من النزعة ” المحافظة ” ؟

مردوخ : أودّ التصريح هنا أنّ كلّ الفنانين العظماء هم متسامحون كبار في فنّهم رغم صعوبة إثبات هذا الأمر . هل كان دانتي متسامحاً ؟ أرى أنّ معظم الكُتّاب العظماء يمتلكون نوعاً من الرؤية الرحيمة لأنّ في مستطاعهم أن يتحسّسوا التخوم التي يختلف حولها الناس ، وقبل ذلك هم اقدر من غيرهم على معرفة الأسباب الكامنة وراء ذلك الإختلاف . التسامح يرتبط بالقدرة على تخيّل وجود  إمكانيات متاحة في الواقع غير تلك الماكثة في الذات المنفردة ( بضمنها ذات الكاتب بالطبع ، المترجمة ) . ثمّة روح طيبة تشعّ بالكرم والتسامح والرحمة نراها في كتابات هوميروس وشكسبير وسواهما من أعاظم الكتّاب ، والفنّان العظيم يتحسّس للإثارة الناشئة عن المغايرة والإختلاف ولايركن إلى الرؤية الساذجة للعالم لتكون على صورته هو ، وانا من جانبي أرى في هذا النوع الفريد من التعاطف الموضوعي فضيلة عليا ، وهذا ماتحاول الدكتاتوريات القضاء عليه واجتثاثه حين تضع الفنّ الجيّد موضع المحاكمة التي تفضي إلى النبذ والعقاب .     

__________
*المدى

 

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *