إنَّها الغربة

خاص- ثقافات

*د.فراس ميهوب

 

جاب أجدادي الرُّبعَ الخالي على الجمال، بحثاً عن قطرة ماء، قلت لنفسي، وأنا في طريقي إلى مطار دمشق للمرة الأولى، فما المشكلة بسفرٍ قصيرٍ، في عصر الطائرة.

أسيراً، بين لهفةٍ مُغريةٍ لبلوغِ وطنٍ بديلٍ، حيث وعودُ النَّجاحِ المضمونِ بلا ثمنٍ، العلمُ، الثَّراءُ، وانتهاءُ المشاكلِ إلى الأبد.

وبين قلبي يرجو التَّشبثَ بما انتهى إليه النظرُ، عيونَ أهلي، بيتَنا، كُلَّ شجرةٍ، و كُلَّ تضريسٍ أرضيٍّ، وأفقٍ سماويٍّ، بل حتَّى كل شارعٍ محفَّرٍ كان حتَّى الأمسِ مبعث إيذاء عميقٍ.

وصلْتُ إلى نقطةِ البرزخ، بين بلدين، أربعُ ساعاتِ طيرانٍ، وأربعمائة عامٍ من الفرقِ الحضاريِّ المُذهلِ، هنا عرفْتُ بحقيقةِ وجود آلةِ الزَّمنِ، وأنَّ الأمرَ ليسَ أسطوريَّاً.

في طائرة لا تنتمي لأيِّ أرضٍ، سابحةً في السَّماءِ الفسيحةِ، أرى البؤس في البيوتِ المُتناثرةِ، لِوطنِ الحياةِ البسيطةِ، و الصحراءِ شبهِ الفارغةِ .

قبلَ الهُبوطِ بقليلٍ، المشهدُ معكوسٌ، قرميدُ ضواحي باريس الأحمرِ، تقطعُه خضرةٌ مزرقَّةٌ، يشي بقربِ الوصولِ إلى أرضِ الوعودِ والأحلام.

لم أخرجْ من مطارِ أورلي، حتّى أدركْتُ المقارناتِ الخاسرةِ ، موظفُ الجماركِ، يبحثُ عن البضائعِ المُقلَّدةِ ، لم أقلقْ على شخصي، فخلفي آلافُ الأعوامِ من الأصالةِ ، أمَّا ماركات أديداس، أو شانيل، فكانت آخر همِّي أصليَّة أو مزورة.

لم تتأخرِ الحقائقُ المرَّةُ كثيراً بمداهمةِ القلبِ والعقلِ، وأولها شعوري في الغربِ بأنِّي لستُ إلَّا رقماً زائداً، بل صفراً، يُضافُ إلى أصفار.

حفيفُ الشجرِ يحذرني:

يا أيُّها التائه، الآبق، ما يأتي بك هاهنا، أهارباً من تحت قُطيرات الوجدِ، لِتغرق في بحر الأحزان؟

أدركْتُ أنَّ ارتباط الغرب بألباب العرب، لتدورَ جامعاتِه، مراكزَه البحثيَّةِ، وَ مشافيه، كضرورةِ النفطِ  لعجلةِ اقتصادِه، أليس النفطُ عربيَّاً أيضاً؟

إنَّها صلة الضَّرورة، وملء الثقوب الآدميَّة، وليست أيّ شيءٍ آخر.

وكما يحكمُ أهلُ هذهِ البلادِ على كل والٍ جديد، بعد مئةِ يومٍ، لم تمضِ هذه الفترةُ، حتّى لمستُ عُمقَ مأزقي .

مع برودة الطقس، تكتشف صعوبة البعد عن الشمس المشرقة في بلادنا، مع دفء، وبساطة العلاقات الإنسانية.

كم أنا غريبٌ، كأنِّي خُلِقْتُ بعد كلِّ هؤلاء  النَّاس هنا،  نظرتُ في عيونهم،  فلمْ أجد صورة وجهي فيها، أصغيت إلى شفاههم، فلم أسمع نبرةً تشبهُ صوت أبي، تحسّست نبض قلوبهم، فما لمست حنان أُمِّي!

تغيَّرَ الأهلُ من جُمعةٍ حارّةٍ، إلى صوتٍ دافىءٍ، ولكن على بعد آلاف الأميال، وما أن يُغلَق الهاتفُ، حتى يُطفَأ صوتُهم، ويُهمَّد معهم قلبي.

شعرْتُ كأنَّي طيرٌغريبٌ، لا أتقنُ الأغنيَّةَ الشَّهيرةَ، فخفضْتُ الصَّوتَ، لأخفي النَّشاز.

ويطولُ الانتظارُ، كأنَّي جئْتُ إلى الغرب بسفن طارق بن زياد، اشتعلَتْ، وأنا أتأمَّلُ رمادَها بحُرقة.

بلغْتُ قمَّةَ الجبل، العمر ضاع، والنبعُ الذي ظننته هنالك، لم يكن إلَّا سراباً خادعاً.

فهل من طريقٍ مُنجٍ قدَّامي، وأيُّ مهربٍ خلفي، وهل أتقدَّمُ للوراء، أو أهربُ للأمام؟

رنوت إلى مشرق الشَّمس في الوطن، البعيد عن العين، السَّاكن للقلب لا يبرحه، كيف صار جمرا، شعرت به  في حلقي.

وإلى الغرب، كيف أضحى الأفقُ بعيدا لا يُدرك، نهارُه بطيءٌ، وليلُه بارد.

عِشْتُ في منفىً شبه اختياريٍّ، سجناً بحجم قارَّة، من قال أنَّ المساحةَ الصغيرةَ، ورؤيةَ السَّجَّان خلف قُضبانٍ صدئةٍ، شروطٌ لا غنى عنها ليُسمَى المكانُ سجنا؟

إنَّها لعبةٌ جهنميَّةٌ تذهَلُ العقلَ، وتأخذُ منك الرُّوح، وتُدمي لك القلبَ، ولا تُعطيك قبل فَناء العُمرِ قطرة ماء، إلَّا ما يشبه ندى نيسان، لا يكفي إلَّا للبُقيا.

أحاطَتْ بي أمكنةٌ، جَميلة الظَّاهر، خَضراءُ، كغابةٍ صناعيِّةٍ، أزهارُها بلا رائحةٍ، وثمارُها بلا طعم.

عانيت الحصارَ، كأنِّي مدينةٌ، القدسُ، بيروتُ، أو بغداد، بين وطنٍ يَشغلُ خاطري، بسنوات طفولتي، وشبابي الباكر، وبلدٍ أظلُّ فيه غريباً، ولا أصيرُ فيه أصيلاً، ولو بعد ألف عام.

وأكثر ما أثار حنقي، بعض بني قومي، فاقموا غربتي، (ليثبتوا نبوغهم)، تنكروا لأصولهم، فغدَوا أشلاءَ إنسانٍ، لاعربيَّاً كما كان، ولا غربيَّاً دون تَصنُّع، وغَلبَتْهم (أخلاقُ اللاجئ).

إنَّه المظهر الحديث  للبداوة، فبعد أنْ كان العربي فارساً يتيه في الهيماءِ، يميل كيفما تأخذه لُجُمُ الخيل، أصبح يصعد إلى الهواء، أو يركب البحر، قاصداً الغرب، أو غرب الغرب.

هل هناك حلٌّ لأقدارنا البدويَّة، وتيهنا الأبديِّ، أم أننا عاجزون، ندور بلا توقف، على غيرهُدىً، كطواحين الهواء في هولندا، أو شمال فرنسا ؟

ما هو النَّجاح  في الحياة، و ما ثمنه المناسب، وأيُّ المعارك أقل خسارةً، غربة الوطن الحارّة مع الفقر والقهر والفساد في كُلِّ شيءٍ، أم النُّزوحُ القَسريُّ إلى البلاد الباردة ؟

 رجوتُ الأجوبة لأسئلتي، فنزف وجداني مسائلَ أدهى و أمرَّ.

هل هو موت الأمل في الوطن، ووجود بعض الضوء الخافت في الغرب، يجذبنا إليه ليحرقنا كفراشاتٍ; تطير إلى مقتلها؟

أم أنَّ تواطؤاً ما حدث، مكتوباً، أو شفهياً، بحيث يُخنقُ العربيُّ في بلده، ولا يسمح له حتى بالصراخ ألماً، بل بالهرب فقط، فتفتح له كوةٌ هنا، أو هناك، ليقبل بأيِّ شيءٍ، مقابل اللا شيء في الوطن؟

فلا هو يأخذُ حقَّه كاملاً في المغترب، ولا يستطيع الاعتراض لانعدام الخيارات الأُخرى ، ومع القليل القليل من التعويض النَازِّ يبقى منجذباً إلى الغرب الأوربِّي أو الأمريكي الشمالي.

ثمَّ يجدُ نفسه في دائرة الدفاع عن حضارة الغرب، اقتناعاً، أو لئلا يتعرض لسياط النقد والاستصغار عند عودته  للوطن.

كأنَّنا في صالة بلياردو عالميَّة َّمجنونة، نحنُ فيها كراتٌ مختلفةُ الأحجام والألوان، تذهب كُلُّ كرةٍ إلى حفرتِها، فمهما كان نجاحُنا في الغرب، إلَّا أنَّنا نبقى كُراتٍ تسقطُ في حفر; يقرَّرُ مصير اللعبة دوماً من بيده عصا اللَّعب.

لا أنسى أبداً، كيف تمتزج المواقف المبكية – المضحكة معا ، لتعطي للحدث لونَه الرماديَّ الأنسب، حين أعود للوطن بين غربتين، أستمعُ صامتاً، إلى أهالي بعض المغتربين، في مجالس الفرح النادر، وحتَّى العزاء، وهم يتحدثون عن نجاح أبنائهم الدائم، الصافي، و الرَّائعِ، في الغربة، وعن حصولهم على الجنسيِّة كأنَّها انتصارٌ على كُلِّ فشلٍ، وعن، وعن، فأسألُ نفسي عن أيِّ عبادٍ يتحدثون، وأيِّ بلادٍ يقصدون؟

أُوشكُ أن أصدِّقَ وصف هذه الجنَّة المزعومة، الَّتي يُقطَفُ فيها المالُ، والنجاح غير المشروط قطفاً سهلاً، ثم أذكرُ بصعوبةٍ قبل الفوت، أَنّي أحدُ أبطال القصّة، وربَّما من تقمَّصَ دورَ الكئيبِ الوحيد فيها، يرويها حكواتي في مقهى، هو لم يكتب حرفاً فيها، ولم يقرأها أصلاً، بل ينظر إلى كتابٍ سميكٍ يكسوه الغبارُ منذ دهورٍ، من خلف نظارةٍ مُلونةٍ ، يُوهِمُ الحَضورَ بالقراءة الدَّقيقة، ويُطلقُ العِنانَ لخياله المريض، و فكرِه التعويضيِّ المهزوم، بينما الجُمهورُ يدخنُ النرجيلة، ويشرب القهوة الحلوة.

أقفُ مُحتاراً بين الصمتِ شبه المُتواطئ، و واجبِ الصدقِ والشرح لأناسٍ، ستكون ردَّة فعلهم، إحدى اثنتين إمَّا الشَّفقة، أو الشَّماتة، بالاعتقاد أنَّك الفاشل الوحيد، الاستثناء الَّذي يؤكِّدُ القاعدة، أمام عظمة  ابن المُدَّعي، الَّذي لا أشكُّ للحظةٍ أنَّه قاسى ما قاسيته، وكابد مثلما كابدت، أنا وغيري من المتعلِّمين العرب المُغتربين.

تأخذُني شَطحاتُ خيالي، لأرى البطلَ المقصودَ في لندن، أو باريس، مُلتفاً بشاله الصُّوفيِّ، وسُترته الطويلة، مُنحشِراً بين جَمْعِ الأجناسِ البائسة في مترو الأنفاق، أو يركض تحت المطر في جامعته، أو مُنتظراً في دائرة الهجرة، ليسألَ عن طلب إقامة، أو جنسيَّةً تأخر بتّها لأشهرٍ.

تُقفَلُ حَولي من جديدٍ دائرةُ الحصار، شَكلَتْها كِذبةٌ جماعيِّةٌ، أَخذَتْ طابعاً صعبَ الكسرِ، وهي ليست أمراً طارئاً، فحتَّى قبل سفري الأوَّل، سمعت الكثيرَ عن النَّجاح الكاسح للسورييِّن في أمريكا، وعن الوضعِ المميَّز للبنانيِّ في فرنسا، أمّه الحنون، وكيف تفوقَ المِصريُّ في لندن، والمغربيُّ في هولندا…

لا أبالغُ كثيراً، بالقول أنَّ حالنا نحن العرب المغتربين، تشبه حِصاناً مغطى أطراف العيون، في مضمارِ سباقٍ، يطارد أرنباً من خشبٍ، وإذا قسا الفكر، لصرنا كَ (عنزةِ ايتمانوف)، نصعدُ ونصعدُ، صخرةً فوق أخرى، حتى نصل إلى الأخيرة، تلك الَّتي ما بعدها رجوع.

فهل من حلٍّ ثالثٍ، في خيمةٍ ما بين جنِّةٍ ونار، أو نسكن أرضاً ثالثةً ما بين الوطن والمنفى؟

حتَّى هذا الحلّ الأخير يشبه تاريخنا، عربيٌّ يصعد قبل الفجر، على صهوة جواده، يبحث عن رزقه، يجده مرَّةً، ويعثر بالوهمِ الموهومِ مرَّاتٍ.

بذلت وسعي لأفهمَ سبب نقل خلافاتنا العربيَّة إلى مغترباتنا، وسرُّ انتشار (أخلاق اللجوء) بيننا كعرب.

ما سرُّ هذه القوقعة التي نحيط أنفسنا بها يوماً بعد آخر، تغلفنا الهُمومُ، وتعيقُ انطلاقتَنا الرغباتُ الفرديَّةُ للخلاص، والتشظِّي مازال يتضاعف دون توقف ؟

إنَّها الغربةُ، كاملةُ الأوصاف، غريباً برطانتك، تجهد على إخفائها، كعارٍّ قديمٍ، كي لا تزعج أسياد هذي الأرض، مُبتسِماً في طقسٍ أخرقَ، محكوماً عليك أنْ تكون لطيفاً، هل نحن فعلاً المُهذبون الحمقى؟

إنَّها الغربة، أنتَ هنا لتعمل دون توانٍ، أعربيٌّ وتتقاعس؟

إنَّها الغربةُ، هل يمكن أن تعيشَ النعاجُ والذئابُ في سلام دائمٍ هشٍّ؟

إنَّها الغربة، لم يبقَ لك إلَّا اللحاق بالقومِ، فقد خرجوا لاصطياد الفُتات، اركض خلفهم، لِتقتاتَ على فُتات الفُتات.

إنَّها الغربة، الأسماء والنعوت، غير ما تعرف، ريحٌ غير الرِّيحِ، و أرضٌ غير الأرضِ، وسماءٌ ليست كالسماء!

إنَّها الغربة، تهرب من الفقر إلى القفر، ومن الضياع إلى الضباع، الرسم نفسه، واختلاف النقاط.

ما أقسى خيبتي من الحياة في وطني، وما أكبرَ خوفي من الموت في الغربة، فأيُّ حيرةٍ تلك؟

آه، أيُّها الهاربون من أنفسكم، ما أقسى غربتكم، وما أبشع وحدتكم!

وطني أجمل ما في قلبي، وأصعب مكانٍ على عقلي، لا قلبي يكتفي بالحبِّ، ولا عقلي يرضخ للواقع.

13/03/2018

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *