خاص- ثقافات
د. عمرو كناوي*
على سبيل التقديم:
لقد اقترن التصوف، كما هو معلوم، بظهور حركة فكرية ودينية ميزت القرن الثالث الهجري، حيث اتخذ شكل نزعة فكرية تدعو إلى الزهد والنزوع إلى الله بدل الانغماس في بحابيح الترف الحضاري، والاستمتاع بملذات الحياة الدنيا بكل ما تعرفه من موبقات ودنايا، وانغماس في التعاطي للخمر والمجون والغزل الفاحش إلخ…
ولعل ما حصل ويحصل اليوم في العالم العربي من تراجع حضاري وتفكك اجتماعي وانحلال في القيم الدينية والإسلامية، ما يذكر بمجريات القرن الثالث الهجري وغيره من العقود اللاحقة. أما حدثيا فقد توالت النكبات واشتدت الأزمات (نكبة 1948، ونكسة حزيران 1967)، بكل ما خلفته من انعكاسات سلبية مست الإنسان العربي من المحيط إلى الخليج، وطوحت به في غياهب المجهول، مما أفقده القدرة على التحمل والصمود، وأفقده الثقة بالمؤسسات السياسية والعسكرية والاجتماعية والدينية لعدم قدرتها على حمايته من فداحة المنتظر.
وباعتبار المبدع العربي صاحب رسالة، فقد بات طبيعيا جدا أن يتخذ موقفا مما يجري في الواقع، لا عن طريق وصفه واستهجانه والبكاء على أطلاله، وإنما عن طريق تثويره وتوعية القوى الحية فيه.
ومن أهم المظاهر التي أشرت على ظهور بوادر التغيير في هذا الاتجاه، تلك الصيحات التي دعت إلى تحرير الإنسان العربي هنا وهناك من كل تبعية للغرب، والتبعية الفكرية تحديدا. فوجد في تأصيل الإبداع أمرا ملزما عبر توظيف ما يزخر به التراث العربي من كنوز وذخائر، وهو ما ذهب إليه، في جنس الرواية، مبدعون كثر من أمثال نجيب محظوظ في رواية “الطريق (1964) والميلودي شغموم في رواية “مسالك الزيتون” (1983) وجمال الغيطاني في “كتاب التجليات” (2005) وأحمد عبد المجيد (المصري) في رواية “نار العشق” (2015) وحمود زيادة (السوداني) في رواية “شوق الدرويش” (2015).
كل هؤلاء وغيرهم، لم يكونوا لينزعوا هذا المنزع لولا استساغتهم للتصوف وجدوى حضوره في أعمالهم، باعتباره مخلصا.
ويأتي ضمن هؤلاء الإشراقات الصوفية، الروائي الفلسطيني زياد حميدان في روايته “إشراق العشق” الصادرة عن دار الحلبي بتمارة/المغرب سنة 2017.
تقول الناقدة الدكتورة حورية الظل في معرض حديثها عن تمثل الإبداع الروائي العربي لظاهرة التصوف:
“في خضم التجريب الذي انخرط فيه الروائيون العرب، باحثين فيه عن منافذ جديدة تحررهم من تقليد الغرب، وفي سعيهم الحثيث إلى تأكيد هويتهم وفرادتها، وجدوا أنفسهم وجها لوجه أمام تراث صوفي هائل هم ورثته، فحاولوا تطويعه لرؤاهم، فتمثلوا التجربة الصوفية في أعمالهم الإبداعية واغترفوا من ينابيع التصوف الثرة، ليصبح بذلك البعد الصوفي وجها من وجوه الرواية الجديدة ومن مظاهر شعريتها”1.
تمظهرات الإشراقات العشقية في رواية “إشراق العشق”:
-
على مستوى العنوان:
يطالعنا عنوان رواية “إشراق العشق” بتركيبة إضافية يأتلف فيها إشراق/العشق صدرا وعجزا، فيتثبت للعنوان ما يثبت للوحة الغلاف تماما.
ولارتباط الإشراق والعشق بالتصوف، فقد حملا من التلغيز ما يغري بالتناول والدراسة. إن لفظ إشراق، كما جاء في “لسان العرب”، من أشرق الشيء إشراقا إذا ازداد تألقا وبهاء. والإشراقة التي تجمع على إشراقات تعني النبوغ، وإشراقة الوجه وضاءته وبهاؤه.
أما الإشراق بالمفهوم الفلسفي فمعناه انبعاث نور العالم غير المحسوس إلى الذهن، ذلك أن فلسفة الإشراق تقوم معرفتها على فيض من التصوف الإلهي.
وأما العشق فهو ذلك الحب المفرط الذي يُخاف على صاحبه منه، في الوقت الذي يعد فيه العشق الإلهي أسمى مراتب العشق. ويعود تفاوت الناس في مراتبهم العشقية إلى مدى اختلافهم فيما يريدون من حيث إرادة الدنيا أو إرادة الآخرة، أو أنهم يريدون عشقا إلهيا، عشقا أزليا يستقر في الأعماق، في الحشايا والخلايا والضلوع.
عبر هذه المدارج نلمس في رواية “إشراق العشق” تفاوتا بينا بين العشق الإنساني والعشق الإلهي، ودفقا من الأسئلة اللامتناهية بشكل يجعل من الرواية رواية السؤال عن حقيقة الوجود. ولعل هذا ما حاولت الرواية أن تؤسس له من خلال الطرح الفلسفي حول إشكالية الوجود والعدم، يمكن الاصطلاح عليه بكوجيطو: أنا أعشق إذن أنا أحيا. وهذا ما جعل الروائي يعيد التنصيص على هذا المبدأ في الغلاف الخلفي للرواية من خلال الحوار الذي دار بين المريد والشيخ :
-
من هو الحي؟ سأل المريد .
-
من ذهب بموته عشقا، أجاب الشيخ.
-
من هو الميت؟ قال المريد.
-
من طرق العشق له بابا ولم يجرؤ على أن يفتح، قال الشيخ2.
-
على مستوى عتبات المتن الروائي:
أما على مستوى المتن الروائي فقد استطاع الكاتب في روايته أن ينقلنا إلى عالم روائي جديد، مبتعدا عن أي نزوع إلى المجاراة والتنميط، فجدد في الموضوع كما جدد في تقنية الكتابة الروائية، معتمدا في متنها على مجموعة من العتبات الداخلية، البالغ عددها أربعة عشر عتبة، حددت وظيفتها في إضاءة ما سيلحقها من حيثيات العشق ومغامرات العشاق. ولعل الثلاثة الأولى من هذه العتبات الداخلية هي عبارة عن رسائل توجيهية صادرة عن صفوة من رواد الفلسفة الإسلامية ومتصوفيها من أهل الورع والحكمة، كرسالة إخوان الصفا وخلان الوفا، ورسائل كل من أبي زيد البسطامي، وسلطان العاشقين ابن الفارض وغيرهم ممن اتسمت رسائلهم بالتوجيه والوعظ والإرشاد، والدعوة إلى الاستقامة والارتقاء بالعشق الصوفي إلى أسمى مراقيه.
-
على مستوى الشخوص الروائية:
على هذا المستوى، اعتمد الكاتب أساسا في تبلغ رسائله على مجموعة من الشخوص راهنت على الارتقاء التدريجي إلى مراقي العشق، وصولا إلى معانقة العشق الإلهي المنشود، وكل من أراد أن يسلك هذا السبيل من طريق الحق هذه ، عليه ” أن يكون له مرشد ومرب ليدله على الطريق، ويرفع عنه الأخلاق المذمومة، ويضع مكانها الأخلاق المحمودة”3.
ومن أجل تواصل هذه الشخوص الروائية، فقد تبنى الكاتب تقنية الحوار حسب ما تمليه مواقعها الدينية وحسب درجة وجدها وهيامها، ودرجة تشبعها بالعشق. وقد روعيت في حضورها تحديدا على امتداد الفضاء الروائي التراتبية التالية: القطب والشيخ والمريد فضلا عن المرأة، حسب الوزن العلمي لهذه الشخوص ودرجة وعيها بخطورة ما يجري في الواقع من أحداث.
فالقطب:شيخ مجموعة من الأتقياء وشيخ المشايخ، وينعت لدى بعض المتصوفة مرآة الحق الإلهي، لا تعتريه شبهة دينية. إنه خليفة الله في الأرض، وممثل الحقيقة المحمدية.
والشيخ إنما هو أستاذ المريدين وشيخهم، بلغ درجة عالية من العشق، وهو كما وصفه السارد الشخصية المولهة التي أفنت حياة لا نقصان فيها برفقة القطب العارف، إذ كان أحرق عمرا، شريدا ضائعا من قبل، حتى إذا بلغ ذرى العشق الشاهقة، سربله القطب بلقب الشيخ”4.
ومن أخلاقياته وغيره من الشخوص ما تحث عليه رسالة إخوان الصفا وخلان الوفا “أن يكون أبا شفيقا، وطيبا رفيقا، لا نزقا ولا خرقا ولا منحرفا.. يبرز به المريد بروز النفس الكلية للنفس الجزئية، في جليل هيبته وجميل هيئته”5.
أما المريد الذي كرس حياته في الترحال والسؤال بحثا عن أجوبة لأسئلة لا تنتهي، فلم يفلح أبدا في تلقي أجوبة تشفي غليله.
والمريد أخيرا كما يبدو من نصيحه الشيخ ماء العينين القلقمي “مشتق من الإرادة، وهي لوعة في القلب، يطلقونها ويريدون بها إرادة المنتمي وهي منه، وإرادة الطبع ومتعلقها الحظ النفساني، و إرادة الحق ومتعلقها الإخلاص”6.
وأما شخصية المرأة التي ظهرت في الرواية فعلى ضربين متناقضين: أولاهما تمثله رابعة العدوية7 كصوت عاشق معتكف، مشبع بالعشق الإلهي. وثانيهما يعتبر المرأة غاوية معشوقة لا عاشقة، حيث أخذت بتلابيب المريد حتى كادت تنسيه ما هو مقبل عليه. يقول السارد: “أطلقت شعرها فانساب ليداعب رِدْفَيها، تجلت له تحت ضوء القمر جسدا من رخام أبيض عالجه ضوء القمر بزرقة خفيفة، أمعن في تفاصيل قامتها المصقولة ونهديها المتربصين للوثوب، وخصرها الضامر، فبدأ يشتعل بداخله قبس خمد منذ عصور”8.
وهكذا يصبح المريد شيخا، والشيخ قطبا حين تُفترض التقية في كل منهما عند الاختبار؛ بل وفي كل مراقي العشق التي يُحتمل أن يرتقوا إليها. ولعل في انبهار المريد وتطلعه إلى المرأة/ الجنية تحت طائل عشقه الإنساني ما يؤكد دونية عشقه الديني، وهو ما وقف عنده الشيخ في الليلة السابعة (لقاء) بقوله : مازال أمامك كثير ليكتمل عشقك9 ، ذلك أن العشق – كما يقول الشيخ- يأتي بعد الحب الحسي10.
إذا كان التصوف كتجربة إنسانية، ينشد تحرير النفس البشرية من أسر المادة والشهوات، والانطلاق بها نحو عوالم الغيب ومدارج السمو، فإن التصوف الإسلامي يستمد أصوله وملامحه من القرآن والسنة، حيث كان للناس في رسول الله “أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر”11. فانتحاء رسول الله صل الله عليه وسلم واختلاؤه في غار حراء إنما هو نهج يحتذى في قراءة القرآن ومناجاة الخالق، وحمده وشكره والثناء عليه. تلك ما كان يمارسه النبي المصطفى على امتداد شهر في غار حراء، مراعيا في تعبده مبدأ الوسطية والاعتدال كعماد راهنت الطريقة الصوفية على اتباعه، بعيدا عن الابتداع والمغالاة والمخازي.
على مستوى الزمكان:
اعتمدت رواية “إشراق العشق” مجموعة من التقنيات السردية كتقنية الحوار بنوعيه: الداخلي المتمثل في مناجاة المريد والشيخ أثناء الاعتكاف داخل المغارة والكهف، والخارجي المرتبط بمحاورة المريد والشيخ في موضوعات العشق والعاشق والمعشوق.
كما اعتمدت الرواية تقنية التناص التي تروم توظيف التراث العربي الإسلامي كذخيرة تستوجب البعث والإحياء. وقد حفلت الرواية فضلا عن ذلك، بتقنية الزمان والمكان في علاقتهما بباقي الأنسجة الروائية الأخرى.
ويهمنا من بقية بنى الرواية أن نقارب هذين العنصرين اللذين يعدان بحق أهم ما تحفل به رواية “إشراق العشق”.
إن الحديث عن الزمان في الرواية لن يكون إلا حديثا عن المكان لأنهما عنصرين متلازمين12، وكل فصل بينهما لا يعدو أن يكون عسفا غير محمود، كما يتضح من قول السارد : “قبيل نفس الصباح الأول سعى من المدينة، كان الجبل البعيد بوصلته التي يسير وفقا لها، لم يكترث كم استغرقه المشي”13.
وبالرغم مما تمثله الليالي العشر في الرواية من امتداد على مستوى فضائها(72 صفحة من أصل 102 مجموع صفحات الرواية)، فإن للمكان بدوره حضورا موازيا يخضع لتقنية تقاسم الأدوار، حيث تكتسي هذه “الليالي” مشروعية ارتباطها بتلك الرحلات الطويلة، الشاقة والمضنية التي قطعها المريد والشيخ عبر الصحاري والجبال والأسواق والمدن.. وصولا إلى المغارة والكهف حيث الاعتكاف وممارسة الشعائر الدينية المؤملة للعشق الإلهي. إن امتداد ليالي العشق منذ ليلة الاستهلال (ص:23) حتى الليلة العاشرة (ص: 99) إنما تستمد فرادتها وقداستها من “ليال عشر” وردت في قوله تعالى : ( والفجر وليال عشر) (سورة الفجر.الآية:1) . والتي تعتبر دعوة صريحة من الكاتب إلى اعتماد التصوف الإسلامي أسوة بسيرة النبي صلى الله عليه وسلم وسيرة المسلمين بعده في العشر الأواخر من رمضان، وهي في المقام الثاني دعوة إلى تقويم الممارسات الصوفية والنأي بها عن كل تحريف أو تطرف.
بهذه الطروحات النقدية تكون رواية “إشراق العشق” قد ساهمت في نقد وتعرية الواقع العربي والإسلامي، ورفضت أي تصوف لا يبلغ فيه صاحبه درجة الإحسان ولا يرقى فيه إلى درجة العشق الإلهي.
*الدكتور عمرو كناوي، ناقد وباحث من المغرب .
المراجع :
-
د. حورية الظل ناقدة وأكاديمية مغربية / مكناس – مجلة الفجيرة الثقافية .
-
الرواية ص: 31.
-
الرواية ص: 14.
-
الرواية ص:3.
-
الرواية ص: 3.
-
الرواية ص:11.
-
في ص:81.
-
الرواية ص:7.
-
الرواية ص: 7.
-
الرواية ص: 25.
-
سورة الأحزاب الآية: 12.
-
د. عمرو كناوي ” الفضاء الروائي في أعماق سحر خليفة مطبعة أنفو- برانت. 2011 “.
-
الرواية ص:19.