أهل الكهف: التائهون بين الحلم والحقيقة

خاص- ثقافات

شيماء يمني[1]

تمهيد: الحكيم توفيق الحكيم ورائعته “أهل الكهف”.

ما أن نسمع عن الأديب المصري توفيق الحكيم المولود سنة 1898 والمتوفى سنة 1987، حتى يتبادر إلى أذهاننا رائعته أهل الكهف، هاته المسرحية الذهنية ذات الحجم الصغير والمحتوى العظيم، تمتاز بشهرتها العالمية لكونها في الأساس نسجت في خيال الأستاذ توفيق الحكيم، ذاك الخيال الخلاق الذي يلبس رداء الحياد، مازجا بين مجاز فياض واختصار جميل، فيجعل حينئذ أرضيته خصبة، ما أن تلجه فكرة ما حتى يصورها على شكل موضوع روائي يمتاز بذوق سليم وأسلوب سهل ممتع يحمل بين طياته الكثير…

من منا لا يعرف قصة أهل الكهف، هاته القصة ذات الصبغة الدينية التي كثر عنها القيل والقال، إلى أن ولجت خيال مبدعنا ليجعلها تأخذ مسارا مغايرا لما هو شائع، تجعل القارئ بين أحضان مسرحية ذهنية يتلهف لإتمامها دون دراية بمرور الوقت كما هو حال أهل الكهف مع الزمن، وبمجرد أن يحصل ذلك تبدأ قراءة أخرى، وتبدأ معها رحلة اكتشاف جديدة، قد تكون مغايرة تماما لمكتشفات القراءات السابقة.

بداية الأحداث: من الحقيقة إلى الحلم.

يحدثنا توفيق الحكيم في روايته هاته عن الفتية الثلاث: مرنوش، مشلينيا ويمليخا، الذين جعلوا من التدبر واستخدام العقل وسيلة للوصول إلى حقيقة خالقهم مبتعدين عن أهواء ما يعبده أهل القرية والملك دقيانوس من أوثان، ليجعلوا من ديانتهم سرا بينهم وبين ربهم الذي بث الأمان في قلوبهم عبر الإيمان وهداهم إلى طريق الرشاد.

 فر الفتيان الثلاثة بدينهم إلى كهف الرقيم طمعا في رضى الله وتفرغا لعبادته دون خوف ولا فزع، بعد أن تمزقت حدود السر والعلن في ديانتهم. وفي هذا الكهف أنزل الله معجزته عليهم، إذ جعلهم نياما لمدة ثلاثمائة وتسع سنين دون أن يحسوا أو يدركوا ذلك، وكيف لا والله يجعل الشمس تشرق وتغرب دون أن تصل أشعتها إلى موضع بصرهم داخل الكهف، إذ يتقلبون يمينا ويسارا.

تطور الأحداث: من الحلم إلى حقيقة مغايرة.

بعد انصرام المدة الطويلة، بعث الله الفتية مرة أخرى، فقد استيقظوا من سباتهم الطويل، رافقت ذلك الشكوى من وهن أجسادهم وجدال حول مدة نومهم. أرسل الأخوان مشلينيا ومرنوش الراعي يمليخا ليأتي لهم ببعض الطعام خلسة وخفية من رجال الطاغية ديقيانوس.

 هذا ما فعله الراعي على الفور، وما أن رأى أحد أهل القرية نقوده حتى فر فزعا وجعل خبر ظهور غرباء في البلدة على أجنحة الطيور يتساقط هنا وهناك، فيصل إلى الملك نبأهم، حيث أبلغه خادمه غالياس أنهم القديسون الذين فروا بدينهم من دقيانوس لترتسم على شفاه الملك ابتسامة فرح ممزوجة بفخر لظهور أصحاب الكهف في عهده.

 استقبلهم الملك بحفاوة وهم لازالوا في غياهب الدهشة والتعجب من التغيرات الحاصلة في بلدتهم دون أن يدركوا بعد حقيقة ما لبثوا في الكهف، فما أن قضى كل من مرنوش ويمليخا بضع دقائق في القصر حتى بلغوا الملك برغبتهم في الذهاب مقصد غايتهم.

فمرنوش الذي سعى للقاء زوجته وابنه وجد بيته قد تحول إلى سوق، وزوجته قد ماتت منذ زمن غابر، أما عن ابنه فأدرك أنه توفي في عمر الستين في إحدى المعارك مشرفا روما بانتصاراته العظيمة.

طار عقل مرنوش من الفزع، هو الذي كان يرفض كل ما يتجاوز حدود العقل ها هو ذا الآن  يصدق الراعي يمليخا، الذي أخبره أنهم لم يناموا بضع أيام كما يخيل لهم وإنما لبثوا سنينا عديدة وهم نيام.

مازال مرنوش في حيرة وحسرة تواجده في زمان غير زمانه، ليهرول مسرعا إلى القصر قصد إخبار أخيه مشلينيا، هذا الأخير الذي مابرح يتخبط في حلم زائل بعد حين، إذ هو جالس في البهو ينتظر وصول حبيبته بريسيكا، وما أن أفرغ مرنوش ما في جعبته أمامه حتى اتهمه بالخرف والجنون، ليجر المشدوه أذيال الخيبة نحو الكهف حيث الراعي الذي يسلم الأحداث للقدر يجلس وحيدا .

أما عن مشلينيا، فها هو ذا ينتظر تلك التي يظن أنها حبيبته، وقد حدث أن  مرت ببهو القصر فاستوقفها مسرعا وسائلا إياها عن عهدهم والحب الذي يجمعهم، فتخبره على مضض أنها ليست بالتي يظنها وإنما هي حفيدة حبيبته التي تشبهها وتحمل نفس اسمها، لم يتقبل العاشق ذو الحس المرهف ما تلفظت به بريسيكا إلا بصعوبة، هو الذي كان يخطط ويرسم مستقبلهم، قبل أن تأتي رياح الحقيقة لتعصف بأحلامه وتحطمها، فيلتحق هو الآخر بأخيه والراعي في الكهف مقررين انتظار الموت بعد أن حرموا أنفسهم من الأكل والشراب…

النهاية: صراع الحقيقة والحلم، حلم حقيقي أم حقيقة حالمة؟

تمر الأيام كمر السحاب، فيستيقظ الفتية مرة أخرى من نومهم والشك يساورهم حول صحة ما حدث لهم، فهم التائهون بين واقع مزري وحلم يمضي، وما لبثت الحيرة أن غادرت كل من مرنوش ويمليخا حتى لفظوا أنفاسهم الأخيرة.

 أما مشلينيا فمازال متشبثا بحبل الحياة عبر بصيص أمل يلوح له في الأفق، وللطافة القدر لم يجعل أمله هذه المرة عن فراغ، فها هي ذي بريسيكا تأتي إليه واضعة كبرياءها جانبا وتاركة مشاعرها تحدث مشلينيا عن حبها له وعن أن الزمان لا قوة له أمام مكان يعم بالحب الصادق النبيل، وما أن تلتقط أسماع عاشقنا هاته الكلمات حتى تخالجه مشاعر سعادة وفرح لم يترك لها الموت سبيلا لتعبر عن نفسها، إذ انتقلت روحه إلى خالقها وهو بين أحضان من يحب.

أما بريسيكا فقد قررت أن تمكث في الكهف إلى حين موتها تحقيقا لحلمها الذي أخبرت به معلمها غالياس ذات يوم قائلة: “رأيت كأني دفنت حية”[2]، فها هو ذا القدر يستجيب للحلم/ الحقيقة لاعبا دور البطل في القصة. ودعت معلمها العجوز موصية إياه أن يخبر كل من يسأل عنها أنها ليست بقديسة وإنما هي فقط امرأة طرق الحب باب قلبها. انتهت القصة بقرار الملك بعدئذ إغلاق باب الكهف بعد أن أخبره غالياس بوفاة الفتية، هذا الذي فعله الملك دون تفكير، جاهلا أن فلذة كبده هربت لتنتظر أجلها في الكهف رفقة من تحب…

نافلة القول: الحياة حلم وحقيقة، حب وحرب.

من خلال سبرنا لأغوار الرواية يتضح أنها مأساوية بامتياز، علاوة على كونها تسلط الضوء على ركن من أركان الفلسفة الوجودية. فالقصة بأكملها تجسد صراع الإنسان مع الزمن رغبة في مواصلة الحياة عبر تحدي القدر، لنجد أن غريزة البقاء على قيد الحياة لا توقفها عجلة الزمن. غير أن ما يعيق سيرورة هذا الصراع هي غياب أسباب الوجود، فالحياة تتجرد من كل ما يربطها بالإنسان -الذي حل في زمن غير زمانه-  تاركة إياه في بؤر التيه يرتمي والقلق، وأمام الزمن، والقدر يندحر…

[1]  شيماء يمني: كاتبة وناقدة روائية، من منطقة ماسة- المغرب، نشر لها سابقا بموقع ثقافات مقال “لا تخبري ماما: رثاء واقع خط على شكل رواية”.

[2]  أهل الكهف، الفصل الثاني، ص: 48.

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *