ليس أحدا

خاص- ثقافات

*سيومي خليل

بعد موقعة إيسلي تنبأ أحد الجنود الذين هابتهم الهزيمة أن وزارة البحر ستتغير نهائيا ، وستعمل الاتفاقيات المجحفة في حق المغرب على جعلها أسوأ وزارة عرفها تاريخ الوزارت في البلد . كان الجندي من خريجي الزوايا المعلقة على ذرى الجبال ، لم يكن له اسم بل رقم لم يستطع حفظه كما أنه لم يستطع نسيان الأعداد الثلاثة الأولى المكونة له . بكى للهزيمة كامرأة تتكلم بعينها أكثر من لسانها ، وبدأ يغرس دموعه كأنها سنابل قمح وذرة على طول الطريق من أرض المعركة إلى حيث ترك زوجته وابنته ترعيان حقلا بحجم مقبرة عائلية، ومعزتين هزيلتين ، وبضع دجاجات تسرق بيضاتهن دائما . وهو على الطريق حافيا ، وحاملا لأثر رصاصة كشطت جزء من كتفه ، كان يتذكر أن المحبة فقط هي من جعلته يصير جنديا. هو الفلاح الذي يفهم فقط في عمر تشكل الخضروات ، وموعد طمث الأرض ، وقطرات السماء ، ستصيره المحبة جنديا ؛ كان يحب أن يذود عن مراتع الإخوة ، ويحارب أولائك الذين أتوا من دار الكفر . المحبة تعيده حافيا ، وبأثر رصاصة على كتفه ، وبهزيمة نكراء، ككل رفاقه الجنود الذين نُسيوا إثر الهزيمة . تذكر أن نداء الذود عن الإخوة قام به أشخاص لم يرهم أبدا في الحرب، ولا رأى أيا من معارفهم ، فشيخ القبيلة الذي كان يعتكز على ابنه ، ويلف البيوت الطينية الواطئة في الجبل ، ويأمر ذكورها بالاستعداد لحمل السلاح ، احتفظ بابنه في بيته المنيف على التلة المطلة على البيوت الواطئة . لا أحد كان معه في الوغي غير أولائك الذين كانوا معه في الحقل ، والرعاة الذين كان يسلمون عليه وهم يصدحون بشباباتهم وراء غنمهم ، وقد سمع أن آخرين جيء بهم من مدن كبيرة ، لكنهم عموما لم يختلفوا عمن أتوا من المداشر ، كانت لهم جميعا نفس السحنة ، وتُظهر التجاعيد علىها أن لهم حكايات مضمخة بالألم والقهر .

الجندي الذي كان مجرد رقم ، وهو في طريقه حافيا ، تذكر أنه كان مقتنعا بفوز ساحق ، فكر في سادية مع نفسه أنه سيأتي برأس أحد الجنود، وربما أكثر ، ويجعله فزاعة طيور على حقله ، وكي يذكر به جيرانه أنه بطل حرب. كان يراهن على الفوز ويعود إلى القبيلة مرفوع الرأس ليتم الاعتراف به بين أشرافها . لا شيء مما فكر به وقع ، فالجيش الذي كان امتدادا للجيش الإسماعيلي البخاري العظيم ، الذي أرهب البحر والبر ، أوهم بلدا كاملا بالفوز ، لكن الجيش كانت سرعة العالم تتفوق عليه ، ولم يكن قادرا على تقديم المساعدة حتى لنفسه ، فكيف أخطأ وقدمها لبلد شقيق ؟

الجندي وهو يتذكر كل هذا بدأ يشعر أنه يتغير.

الطريق كانت طويلة ، وقدماه الحافيتان تشققتا ، ولم تعودا قادرتين على المشي ، والدموع التي كان يتركها وراءه توقفت عن التحول إلى رؤوس قمح وذرة، وصارت تسقط كأنها فتات كسرات خبز يابس ، بعدها ستتوقف تماما ، وسينتبه إلى أن عينيه صارتا ثقبين لاغير ، لا تنظران إلا فراغا ممتدا أمامهما وعظيم ، بعدها ستبدأ مجموعة من التغيرات تطرأ على كل جسده ، فاليدان اللتان كان يربت بهما على تربة حقله ، واللتان حمل بهما السلاح ووجهه إلى عدو قوي ،كانتا تتحولان إلى عروق رقيقة جدا ، وطويلة جدا ، ليس بها أي دم ، ولهاثُه الذي كان يخفت مرة ، ويزداد أخرى ، تحول إلى تصدية وصفير لحيوان زاحف يخرج لسانه الطويل ، لكن التحول الخطير وقع في قلبه ، فالنبضات التي كان يشعر بها دائما ، صارت عبارة عن دق مطرقة على مسمار ، تلك النقرة المؤلمة رغم بساطتها صار يسمعها بدل وجيب القلب .

كانت التغيرات تحدث باضطراد ، وتسارع متلاحق ، إلى تلك اللحظة التي بدأ على يقين أنه ليس ذلك الفلاح الذي خرج ملبيا نداء الإخوة ، والذي ترك ابنة لها عينين تشبهان نجمتين متحاذيتن ، وزوجة تنتظره كل مساء على باب الحقل المتهالك ، وليس أيضا ذلك الجندي الذي أعطيت له كرفاقه وجبة واحدة في اليوم تتكون دائما من القطاني ، والذين طلب منهم دحر العدو الذي صاحبته آلات حربية لم يسبق له أن رآه. لقد صار الفلاح والجندي والأب والزوج شخصا آخر وهو في طريقه إلى حقله .

فجأة عنَّ لهذا الغريب الذي ليس أحدا مما كان سؤال محرج :

– كيف ستعرفني زوجتي وابنتي وأنا لم أعد أعرفني ؟

سيتوقف مباشرة بعد التفكير في هذا السؤال وسيلتف عائدا إلى أرض المعركة التي لم يعد فيها إلا الجوارح تأكل ما لم يتم سحبه من جثث الجنود . هذه المرة وهو في طريق عودته كان خاليا من أي ذاكرة ، لا صورة عادت إليه ، وهذا ما فسره بكونه صار آخرا لا يعرفه . لم يصل إلى أرض المعركة ، فقد نساها هي الأخرى ، بل تاه لأكثر من عشرين سنة في قرى ، ومداشر ، وفجاج غريبة . عرف عند الكثيرين بالجندي الذي جننته الحرب ، لا أحد عرف طريق عائلته ، أو قبيلته ، فلم يكن يتحدث ، كان سابلا عابرا حافيا تدروش أكثر من كل الدراويش الذين خرجوا من الزويا . الكثير ممن باتوا يرونه في طريقهم اعتبروه ولي حرب مقدس ، أخطأ حين حمل السلاح ، لكنه حين رأى أن الحرب تفوز فيها الجوارح فقط التي تأكل من جثث الجميع مهزومين وفائزين ، لم يستطع أن يتعايش مع كل هذا الخراب ، فهام دون بوصلة ، أو وجهة .

عشرون سنة لم تتوصل عائلته بأي شيء يثبت أن معيلها ليس مجرد رقم ، فلم يسأل من جندوه عنه ، ولا استغربوا عدم عودته رغم أن إرسالية جاءت من إدراة تابعة لوزارة الحرب قالت أن الجنود شاهدوا رفيقهم الخائن هاربا هو وجنود آخرين . حين سمع أعيان القبيلة بما فعل مجندهم لعنوا أجداده ، وأقصوا عائلته ، وكانوا يكررون دائما في سخرية :

– هو سبب الهزيمة لذا لم يعد .

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *