جفاف

خاص- ثقافات

*محمد مراد أباظة

توقظه الساعة المنبهة في السادسة والنصف صباحاً. يعتدل جالساً في الفراش للحظات وهو يدلك عينيه، يتثاءب، ينزل عن السرير، يدسّ قدميه في فردتي شحاطته البلاستيكية، يمضى إلى الحمام. يقف قبالة المغسلة، محدقاً لثوانٍ بوجهه في مرآتها، يدقق النظر في الأخاديد الخفيفة التي ظهرت مؤخراً على جبينه، ترتسم على شفتيه ابتسامة باهتة. يشرع في غسل يديه ثم وجهه ببضع رشقات سريعة من الماء البارد براحتي كفّيه، يحسّ بالانتعاش، يستمر في رشق وجهه مرات عدّة، ثم يضع رأسه تحت ماء الصنبور المتدفق للحظات. يتناول المنشفة الصغيرة المعلقة إلى جانب المرآة، يجفف رأسه ووجهه، يعود إلى غرفة النوم، يرتدي ملابس الخروج، ويقصد المطبخ في اللحظة التي يسمع فيها شارة برنامج (مرحباً يا صباح) الموسيقية.
أما هي فتكون قد استيقظت قبله بنصف ساعة تقريباً، لتخرج إلى الشرفة، وتجمع قطع الملابس الجافة التي قامت بغسلها ونشرها الليلة الماضية، ثم تمضي بها إلى غرفة النوم، ودون أن توقظه تكوِّمها على طرف السرير، فتفوح رائحة النظافة. ترتدي ملابس الخروج، تتوجه إلى المطبخ، تعدّ طعام الفطور، تنظر إلى ساعتها، تفتح المذياع، فتعمّ البيت موسيقا (بقطف لك بَسْ هالمرة..) معلنةً بدء البرنامج الصباحي، ثم تشرع في إعداد القهوة.
يبعد أوعية الطعام جانباً وينتظر القهوة، تنظر إليه بحيادية باردة. تضع فنجاني القهوة على الطاولة. إنها تعرف أنه لن يتناول الطعام كعادته ومع ذلك فهي تعدّه له كل صباح، أما هي فتكتفي بلقمتين وتعيد الأوعية إلى الثلاجة.
يشربان القهوة معاً لصق نافذة المطبخ صامتين. هو يدخِّن متأملاً، عبر زجاج النافذة، عامل تنظيفات كهل وهو يلتقط أكياس القمامة البلاستيكية، ويلقي بها الواحد تلو الآخر في حاوية العربة ذات العجلتين واقفاً على بعد نحو ثلاثة أمتار، وقد بدا مستمتعاً بعمله ذاك كلاعب كرة سلة محترف. يقترب من العامل طفل في نحو التاسعة حاملاً مقلاةً صغيرة مستهلكة من الألمينيوم، يتناولها منه الكهل مع هزة شكر من رأسه، يبتعد الصغير راكضاً في حين يضع هو المقلاة في كيس من الخيش متدلٍّ من مقبض العربة.
أما هي فبعد كل رشفة، ترسم  بأنملة سبّابتها أشكالاً وهمية على سطح الطاولة دون أن يرفّ لها جفن مصغية إلى (ما في حدا لا تندهي.. مافي حدا).
– عليك الإقلال من التدخين إن كان من الصعب عليك الإقلاع عنه نهائياً.
يتمتم وهو يشعل سيجارة أخرى: (بدأ برنامج النصائح اليومية).
تحدق به للحظة، وتشير إلى سلة مهملات في الركن:
– تفحَّصْ ما في داخلها، لا شيء فيها سوى علب التبغ الفارغة وأعقاب السجائر.
– ألم تحصي الأعقاب أيضاً؟.
تستمر في التحديق به. تشيح بوجهها عنه.
– سنوات وأنت تثيرين موضوع التدخين هذا، ألا يصيبك تكراره بالملل؟.
– اعتدت الملل من سنوات حتى أدمنته.
تتابع وهي تغسل ركوة القهوة والفنجانين: (تعرف أضراره وتصر على استهلاك صحتك وتبذير النقود).
وهو يطفئ المذياع يخاطبها بينه وبين نفسه: (لستِ خائفة على صحتي بقدر خوفك على النقود). وهو يخرج من المطبخ يسألها: (ماذا ستطبخين للغداء؟).
– بات من الضروري البحث عن بيت آخر للإيجار.
يخرجان إلى الشارع. يتوقفان على الرصيف.
تقول: (إذا زدنا الأجرة قليلاً قد يغيِّر صاحب البيت رأيه).
– إنه يطلب مضاعفة الأجرة، أي راتبي الشهري بكامله.
– طلبت إليك مراراً أن تبحث عن عمل إضافي بعد دوامك في الوظيفة.
ينظر صامتاً نحو الجهة التي من المفترَض أن يأتي منها باص النقل العام، في حين تخبره بأنها ستطلب إجازة ساعية لتسديد فاتورتي الماء والكهرباء. تتابع سيرها مشياً لقرب مكان عملها في مدرسة الحيّ.
يمرّ به بائع الذرة المسلوقة بعربته ذات الدست الكبير الممتلئ بالعرانيس صارخاً بصوته الأجشّ معلناً عن بضاعته، وموقظاً كالعادة مَن لم يستيقظ بعد من سكان الحيّ.
يدهمه النعاس في الباص، يغفو للحظة كافية لرؤية طفل بلا ملامح واضحة يركض نحو قائلاً: (بابا). يوقظه صوت السائق معلناً وصوله إلى الموقف الأخير. ينهض بتثاقل، ينزل، ينظر إلى ساعته، يتابع سيره إلى مقر عمله وهو يحاول استعادة ملامح الطفل. وهناك يمضي ثماني ساعات حبيس غرفة الديوان مع ثلاث سجناء آخرين مثله وهو يدوِّن في حقول السجل السميك شبه المهترئ تفاصيل كتب صادرة وواردة وبلاغات وأوامر رسمية وطلبات مراجعين، ويفرزها حسب موضوعاتها، في انتظار عرضها على المدير. تضطهده كالعادة ثرثرات شركائه المملة حول أحداث العالم الساخنة وغلاء الأسعار وأزمة السكن والمواصلات ومشاكلهم الخاصة وأنواع الأطعمة المفضلة لدى كل منهم.
تباشر هي رحلتها اليومية برفقة التلاميذ الصغار وهي تشرد بين الحين والآخر أثناء شرحها الدروس، فتسأل الصغار: (ماذا كنا نقول؟)، فيذكّرونها. وفي غرفة المعلمات تسهو عن حواراتهن  المتداخلة دون انقطاع، وتتذكر أن عليها طلب إجازة ساعية.
في غرفة الديوان يدهمه الضجر، يمد يده إلى علبة التبغ، وحين يتذكر الكتاب الأخير بمنع التدخين في أماكن العمل، يتراجع عن إشعال سيجارة، ويؤكد لنفسه أن مكتبَي المدير ونائبه، في مثل هذا الوقت، يكونان عابقين بدخان سجائرهما وسجائر الضيوف، ويشتم بينه وبين نفسه. يتذكر التشخيصَ الأخير للطبيب وتأكيدَه أن التحاليل الأخيرة سالبة، وقولَه إن الله قادر على تحقيق أمنيته بالإنجاب، فيكتئب. ويغمغم: (أربع عشرة سنة، ولا فائدة).
وفي تمام الساعة الثانية يتم الإفراج عنهم، ودون أن يودّع بعضهم بعضاً يتراكضون خارجين، وكأنهم معتقَلون تم إطلاق سراحهم. ويمضي كل في طريقه.
يعود من عمله في نحو الساعة الثالثة بعد الظهر، تكون هي قد عادت قبله بأكثر من ساعة ودخلت المطبخ. وكالعادة يخلع الحذاء قرب الباب، يدسّ قدميه، الواحد تلو الأخرى، داخل فردتي شحاطة بلاستيكية، يمضي إلى غرفة النوم ماراً من أمام باب المطبخ. وحين تسمع احتكاك شحاطتيه ببلاط الصالة تسأله بصوت عالٍ ودون أن تستدير نحو الباب: (هل عدت؟). يردّ بحيادية: (لا). في غرفة النوم يخلع البنطال والقميص، يرتدي بيجامته، يمضي إلى الحمام، يخرج بعد دقائق وهو يجفف يديه ووجهه، يجدها جالسة إلى طاولة في الصالة، وأمامها طبق فيه كمية من البرغل تلتقط بأناملها الشوائب منها وتلقيها في صحن صغير، تسأله دون أن ترفع وجهها:
(هل أوصلك صديقك؟).
ودون أن يجيبها يلقي بالمنشفة على مسند أحد الكراسي:
(شو؟ مجدرة؟). ووجهها في الطبق:
– برغل بشعيرية. اذهب واجلب سطل لبن صغير.
– بالبيجاما؟.
– هذه بيجاما رياضية، والناس يسافرون بمثلها من بلد إلى بلد، وليست كالتي كانت تخيطها لك أمك من قماش مزخرف أو مخطط كملابس المساجين.
يتمتم: المساجين. لا فرق.
– ماذا تقصد بــ”لا فرق”؟.
– لا أقصد شيئاً.
يدخل إلى غرفة النوم، يدسّ يده داخل جيب البنطال المعلّق خلف الباب، يلتقط بضع قطع نقدية معدنية، يضعها في جيب بنطال البيجاما، يخرج إلى الصالة، وحين يصل إلى باب الشقة الخارجي تستوقفه:
– لحظة. واشترِ أيضاً عبوة سائل للجلي وإسفنجة ولا تنسَ الخبز.
تمتم: كالعادة.
متحفزةً وهي على أهبة الشجار:
– وما هو الذي كالعادة؟.
يقول بحيادية وهو في طريقه ثانية إلى غرفة النوم: لا شيء.
تلاحقه بنظراتها مستنكرة طريقة ردّه. يخرج بعد ثوانٍ وهو يعدّ عدداً من الأوراق النقدية. يتوقف قبالتها: -هل من أوامر أخرى؟.
تتأمله برهة بصمت، ثم تتساءل: أوامر؟!.
– طبعاً. اذهبْ، اجلبْ، أحضرْ، اشترِ.. أليست كلها أفعال أمر؟.
تستمر في تأمله، في حين يمضي هو إلى الباب الخارجي. بعد خروجه تغمغم: أفعال أمر!.
بعد تناولهما طعام الغداء بصمت يحسّ بخمول بعدما تحجرت وجبة البرغل في معدته، يقصد غرفة النوم، يستلقي على السرير. تغسل هي الأطباق، تقف للحظات قبالة نافذة المطبخ تنظر عبر الزجاج إلى لا شيء وهي على وشك البكاء، تأخذ نفساً عميقاً، وتمضي إلى غرفة النوم فتجده قد غفا، تستلقي على الطرف الآخر للسرير، تدير ظهرها له، تحدق بالجدار المقابل لثوانٍ، ثم تبكي بصمت.

شاهد أيضاً

يَنبثُ لِي شارِبٌ.. منَ الصَّمت

(ثقافات) يَنبثُ لِي شارِبٌ.. منَ الصَّمت حسن حصاري منْ يمُدُّ لي صوْتا غيرَ صوْتي الغائِب؟ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *