خاص- ثقافات
*عبد الجليل لعميري
*استهلال :
محمد أشويكة مبدع و باحث متعدد الاهتمامات ، ومشتغل ذكي بالتجديد وتجريب لا يهاب المغامرة المراهنة على التجدد.
يجمع أشويكة بين رصانة الفيلسوف وشفافية المبدع وحذق الإعلامي …كل هذا يتساكن داخل شخصية إنسانية حالمة وشغوفة بالمحبة وروح المرح المنقذ من الغمة.
*سيرة مبدع :
محمد أشويكة أستاذ الفلسفة بالتعليم الثانوي التأهيلي ،يحضر دكتوراه (موضوعها السينما)،حقق تراكما مهما على مستوى إنتاجه الأدبي والفكري المتنوع ،فقد اصدر حوالي 33كتابا (وهو الشاب الأربعيني)،موزعة بين :19 مؤلفا في مجالات مختلفة أهمها السينما والنقد الأدبي ، وساهم في 5 كتب مشتركة ،و كتب 6 سيناريوهات ، وحوالي 29 مقالة منشورة بمجلات عربية ومغربية معظمها حول السينما.
كما أنتج 9 أعمال سردية (قصص قصيرة /قصة ترابطية) ،صدرت ما بين :سنة 2001(الحب الحافي) و سنة 2018(الكراطيط)،وهي موضوع مقالنا هذا.
*تقديم الكتاب :
الكراطيط(قصص) 176 ص،من الحجم المتوسط ، منشورات المتوسط(ايطاليا)/الطبعة الاولى 2018(تم توقيعها بالمعرض الدولي للنشر والكتاب في دورته 24/2018بالدار البيضاء/المغرب).
ينقسم الكتاب الى ثلاثة اجزاء :
*الجزء الأول : يتكون من 33 مقطعا سرديا مرقما من 1 الى 33.(ص.ص:9/50).
*الجزء الثاني : ويتكون ايضا من 33 مقطعا سرديا مرقما من 1 الى 33(صص:53/99).
*الجزء الثالث : يتكون من 38 مقطعا سرديا مرقما من 1 الى 38(ص.ص:103/172).
ونلاحظ أن الجزئين الأول والثاني متقاربين من حيث الحجم (41ص/45ص)،ومتطابقين من حيث عدد المقاطع (33مقطعا)،في حين يتميز الجزء الثالث بالطول النسبي(38 مقطعا/69ص).ومع ذلك فان المقاطع اقرب إلى التوازن كميا.كما نلاحظ أن المقاطع السردية أميل إلى القصر(صفحة واحدة)،وقليلا ما تتجاوز ذلك إلى صفحتين او ثلاثة.
مما يجعلها عبارة عن محكيات نووية مستقلة ومتشظية ظاهريا ،لكنها في العمق متلاحمة ومترابطة بواسطة خيط رفيع ناظم أساسه “شخصية الابن” (البطل الكرطيط).ويتضافر هذا العنصر الحكائي (الشخصية) مع عنصرين آخرين :اللغة الساخرة وتيمة”التكرطيط” لتحقيق لحمة النص وتعدده في نفس الوقت.
*العنوان :
“الكراطيط”: مفردها قرطيط ،بنطق القاف (g).وحسب الإحالة التي سجلها الكاتب بالصفحة 89/المقطع 26/الجزء الثاني ،فالقرطيط تعني العجب والداهية ،والشيء اليسير(القليل)،والكرطيط في الدارجة المغربية يشير الى الشيء القصير(مع دلالات ساخرة حسب السياق).
*الحكاية حكايات :
لا يحفل القاص هنا بتقديم حكاية تقليدية عبر قصة بمعناها المألوف ،فالمحكي النووي الممتد على مدى صفحة او صفحتين في الأغلب يمكن اعتباره أقصوصة مستقلة (تتوفر على أهم عناصر الحكي :سارد/شخصية/زمكان/لغة)،ولكنها مفتوحة على ما يليها وما يسبقها وليست منشغلة بالاكتمال ولا بتجسيد خطاطة سردية مغلقة/جاهزة .فبالتوقف عند المقطع الثاني (الجزءالاول/ص 10) نلاحظ وجود سارد مجهول يرصد حركة شخصية (رجل يقاوم البرد) ويصف المكان الغارق في جو مرعد مبرق بلغة تمزج بين الوصف والسرد(وصف ملابس التكرطيط :جلباب فوق ركبتيه/وحركة الرجل :يقاوم البرد والريح).
وبربطنا لهذا المقطع بسابقه نلاحظ أن الطقس في الثاني استمرار للأول والزمن واحد زمن المطر الذي يأتي بعد جفاف طويل…
وإذا تتبعنا نفس اللعبة – ونحن نقرأ- العمل سنلاحظ هذا الترابط الذي لا يمنع من استقلالية مقطع عن أخر،حيث تتنامى الأحداث فيما بشبه كرات ثلج تتضخم مستقلة ومتزامنة كلما تقدمنا في القراءة/الحكي . وهي أحداث نووية أيضا يرتبط بعضها بشخصيات من محيط (البطل الكرطيط) وقريبة منه (الاصدقاء/العائلة/أهل الدوار..)،وبتجميع هذه الأحداث يتشكل لنا تاريخ او تأريخ لسلالة الكراطيط ، تاريخ يحفر في عاداتهم وصفاتهم وثقافتهم وعلاقاتهم ،وأيضا أوساخهم ولغتهم وعقدهم (عقدة البغل/ص58) ، حبهم وكرههم ،سكرهم وصحوهم ،غشهم وغشهم ؟؟؟؟(القصة هنا تاريخ الانسان الصغير).
فلا داعي للبحث عن حكاية واحدة في “الكراطيط” لأنها لا تحكي حكاية بعينها ،وإنما تحفر في تفاصيل وجزئيات كينونة شريحة من البشر توجد في طيات مجتمعنا المغربي (في كل مكان وفي كل زمان تاريخي)،”هناك أشخاص ،كثر،في هذه البقعة من الكون ،يصعب تصنيف سلوكهم وطبائعهم …لا هم بالمؤمنين ولا هم بالكفار ..ما هم بالمسلمين ولا بالبوديين ولا بالمسيحين ولاباليهود ولا بالهندوس ..لا هم علمانيون ولا ملحدون ولا هم لا دينيون ..لا هم فلاسفة ولا أبالسة ..”لا مكان لهم داخل خريطة الفكر والدين ،ولهم مسلكيات غريبة “لا هم يستحمون ولا هم يغيرون ملابسهم …ينامون أينما باغتهم العياء ،يتبولون ويتغوطون قرب منامهم .يتبولون مشاة .يقضون حاجتهم وينهضون .يحكون مؤخراتهم بأصابعهم ويأكلون ….يلبسون ثيابا خشنة كرطيطة”(ص 86/الجزء 2).
ان الحكاية لا تستوي في “القراطيط” إلا عبر لملمة المحكيات الصغرى لاكتشاف حكاية المجتمع المغربي ، من خلال حكايات فصيلة القراطيط فيه ،هذه الحكايات التي ترصد مفارقات الوجود الاجتماعي والنفسي والأخلاقي للشخصيات ،مفارقات تنبني على تناقضات عميقة في بنية المجتمع المنخور بالأمية والخرافة والضحالة . إن مضمون المحكيات نقد لاذع لوجودنا الشائه الماسخ ،والذي لم يخلق من عدم بل من تاريخ مرير طمس هوية الإنسان و شوهها ليجعله اقرب إلى “الحيوان” رغم اعتقاده بأنه كائن “داهية/قرطيط”.
*الاشتغال الفني :
إذا كان محمد أشويكة قد نجح في خلخلة الحكاية التقليدية في المتن القصصي ،وقدم لنا “حكايته الخاصة المضاعفة” ، فانه أيضا مارس اشتغالا فنيا جديدا على مستوى بناء العمل ولغته .
*المحكيات الصغرى وتحطيم الرتابة :
إن اختيار الكاتب لبناء نصه بواسطة هذه المحكيات الصغرى يبقى اختيارا فنيا واعيا برهان الكتابة لديه ،هو الذي جرب ألوانا أخرى من التقنيات في أعماله السابقة،رهان يقوم على تبديد مسافة الرتابة التي تتولد في المحكيات الطويلة ،خاصة أن القصة القصيرة عرفت تطورات جديدة ،وأصبحت منافسة من طرف ربيبة مشاغبة لها هي :القصة القصيرة جدا،منافسة تقوم على استمالة القارئ واستقطابه بتوفير حجم مناسب لذائقته ووقته ومزاجه(لا ننسى هنا ضعف القراءة و الإحصائيات المخيبة للأمل في المغرب والوطن العربي). وبذلك يكون المبدع قد أسس لتجربة مهمة وهي نسج علاقة تكامل بين القصة القصيرة بمعناها العام وبين القصة القصيرة جدا ،وذلك بتوظيف الثانية في بناء الأولى (ونحن نعرف أن تجربة أخرى سبق أن تحققت في مجال الرواية ،بتوظيف القصة القصيرة في بناء الرواية/التيه لعبد الرحمن منيف وغيره).
هذا على مستوى بنية النص القصصي في “الكراطيط”،مما استتبع عملا أخر لا يمكن أن يتحقق ما سبق بدونه : انه الاشتغال على اللغة وكثافتها وايحائيتها (وهي جوهر الكتابة القصصية بجميع ألوانها كما يرى سندباد القصة العربية احمد بوزفور).
*اللغة “الكرطيطة”:
لا بأس أن نستعير من النص مفهوم “اللغة الكرطيطة” ،للدلالة على استعماله للغة داهية – إن سمح التعبير بذلك- تمانع الإطالة والطول ،لا تستر نفسها إلا بما تيسر من الأخلاق الرسمية ،لغة سافرة ساخرة تتحرك بين لغة الواقع المعيش(المحكية المغربية/مع توطينها بمنطقة السراغنة حاضنة الكاتب الأم)،ولغة المعرفة الرسمية (الفصحى) ، وبتحركها بين القطبين تمارس غوايتها والتباساتها (الإيحاء والإشارة والرمز)لتحقيق المتعة المنشودة ،وهو أمر لا شك فيه ومتجسد في جل إن لم نقل كل محكيات النص(104 مقطعا محكيا).ولنمثل على ذلك نتوقف عند المقطع 12(الجزء الأول/الصفحة 68) حيث ينقل لنا حوار الناس على اثر فقدان السكر سخرية تفوح رمزية :”بغينا القالب اسي../ولفنا القالب../القالب حلو../القالب فيه البركة…”. وفي الصفحة 53″الصبار مرحاض الناس هنا…وملاذ العاشقين للاختلاء…” الجمع بين الحب والخ….
وقد نصادف لغة هي عبارة عن مزيج من الحياة الحلوة/المرة ” عويل ونحيب…غناء ورقص…اكل وشراب …حر وعرق ..بول وغائط …مرق وكسكس..”ص 96.
ولان هذه “اللغة القرطيطة” غير محايدة فإنها تسعى إلى تقديم عالمها القرطيط “بقرة تلتهم زهرة حمراء يانعة..عنزة تتبول على الأرضية المعشوشبة لملعب الكرة…نعجة عجوز ترضع حملا صغيرا قرب النافورة …حمار هائج يطارد أتانا ويدخلان مقر البلدية…بغل يمر قرب بوابة القرض الفلاحي….”مظاهر ترييف المدينة وزحف البداوة عليها ….
*اللغة المنفتحة :
أشرع المبدع لغته الحكائية على أصوات الشخصيات المنتمية إلى قعر الواقع للتعبير عن هوياتهم القرطيطة ، ومستواهم الاجتماعي والتعليمي …لغة تحقق درجة عالية من الإيهام بالواقعية ،وقد تجلى ذلك في حوارات الشخصيات . والى جانب هذا وظف الكاتب متونا غنائية متنوعة مثل أغنية “انأ مش كافر”لزياد رحباني (ص 39)وأغنية بوب مارلي (ص 46) ،وكذا أغنية الشيخة مليكه (ص 46/ص 47).وتكشف هذه الأغاني، التي هي عبارة عن لغات متنوعة ،عن وعي الشخصيات ،فقد ارتبطت أغنية زياد ،وأغنية البوب (الانجليزية) بطالب جامعي ،في حين عكست أغنية الشيخة وعي الشيخ الفلاح البدوي.حيث مثل المشهد مواجهة بين ذوقين مختلفين وثقافتين مختلفتين لجيلين متمايزين.
*العين السينمائية على “الكراطيط”:
تحضر الثقافة السينمائية لمحمد أشويكة – باعتباره احد الأسماء النقدية السينمائية المرسخة في المشهد السينمائي المغربي- من خلال وجود تقنية “اللقطة/المشهد” في رؤية السارد وهو يصور الشخصيات ممارسة لسيرورة الأحداث داخل الفضاءات و وحوارية اللغة ،بالإضافة إلى وجود معجم سينمائي واضح في عدة محكيات سردية مبتوتة في متن “الكراطيط”. وهنا نتوقف عند نماذج من “اللقطات /المشاهد”السينمائية المحكية أو المتماهية مع الحكي اللغوي في هذا المتن المدروس :
* مشهد الديك الرومي وهو يركب دجاجة “يرى في تل الغبار(البدوزة)بيبيا اخر،يطارد دجاجة في مقتبل العمر ،شابة ممتلئة بالحيوية .عالية الحساسية .يحكم قبضته عليها بعد أن راوغته مرات . جعلته يرتطم ارتطامات مضحكة ببعض قطع الروث المتحجرة.أطبق بمنقاره البليد على اعلي عنقها.غرس رأسها في الغبار.اعتلى ظهرها….”ص 73.
هناك عملية رصد للحركة في الزمن بواسطة الألفاظ وكأنها عين كاميرا يقظة تترصد الجزئيات لرسم مشهد متكامل.
*مشهد الأم وهي تناجي ربها :”حين تحس بضيم أو يصيبها أذى ،تتحاور أثناء الصلاة مع إلهها ،بشكل يتشابه مع حديثها مع ابنها : – يا سيدي ربي …اش درت انا …ولد البرقال جا باش يدي لوليدي ابهيمتو…ياك انت كتشوف ..ايوا خوذ الحق…اوليدي راه كيشوف فيك…”.تتوغل اللغة لالتقاط حوار الام مع الله لنكتشف عبر صوتها ما يشغلها من امور الدنيا.
* مشهد ترييف المدينة او حين تعبث حيوانات الكراطيط بالمكان :” بقرة تلتهم زهرة حمراء يانعة..عنزة تتبول على الأرضية المعشوشبة لملعب الكرة…نعجة عجوز ترضع حملا صغيرا قرب النافورة …حمار هائج يطارد أتانا ويدخلان مقر البلدية…بغل يمر قرب بوابة القرض الفلاحي….” ،تصور اللغة الوصفية حركة متعددة لبناء مشهد واحد يدل على هجوم البادية على المدينة وما يعني ذلك من ازدواجية المشهد الذي يصبح شائها وممسوخا لا هو بمكان ريفي محض ولا هو مكان مديني خالص.
أما عن المعجم السينمائي الموظف في النص فيتجسد في الحديث المتكرر عن السينما عبر عناوين بعض الأفلام وأسماء المخرجين :” لا تنتظروا حديثا عن الفاتن الصغير/..اليا كزان/امير كوسطوريكا/فيلمه زمن الغجر…” ص 73/المقطع 15/الجزء2.وكذا ما ورد في الصفحة 80″سينما ارمور/الافلام/حيطان السينما/اعكاس الضوء/…” المقطع19/الجزء 2.وهو الأمر نفسه بالمقطع الموالي “السينما/العرض/متفرج/كراسي/الظلام/النهاية…” ص 81/المقطع20/الجزء 2.
هذا الحضور الواضح لروح السينما في الكتابة القصصية ليس ترفا بل هو نابع من حاجة فنية استدعتها الاختيارات السابقة للكاتب: الكثافة اللغوية ،البحث عن تجريب أساليب مختلفة ومتنوعة لبناء الأحداث .اذ تتضافر الرؤية السينمائية مع الاقتصاد اللغوي لطرد الرتابة نهائيا من فضاء النص(تقرأ المقاطع السردية وكأنك تجري خلف صور متسارعة)والتعمق أكثر في جوهر الشخصية “الكرطيطة” للحفر في هشاشتها الإنسانية.
* على سبيل الختم :
إن هذه الوقفة القصيرة لا تكفي للتعمق في منجز هذا العمل الأدبي الباذخ، للكشف عن كل أبعاده وأسراره الفنية المتعددة ،لأننا اكتفينا ببعض المشيرات ،حيث تعرفنا على “حكاية ” غير مألوفة ولا تريد ان تكون حكاية مألوفة ،وشخصيات زئبقية تتناسل عبر اللغة المتشظية بلا هوية جاهزة ،ولا ملامح كاملة ،وأمكنة تتفسخ تحت ثقل فعل بشري يصبغ عليها هشاشته.وكانت اللغة إحدى أهم سمات التألق في هذا النص القصصي ،لأنها مزجت بين المحكي والفصيح والأغنية والمثل ،القديم والجديد ،البدوي والمديني ،لغة تعكس تشظي الهوية عند متكلميها ،وتفرض نفسها على المتلقي بدون مغازلة او مجاملة (إرفاق المحكيات بمجموعة من الشروح دوره إدماج المتلقي غير المغربي في أجواء لغة النص ،وتكرار الأمر هو دليل على استبعاد أي مبرر لادعاء عدم الفهم من طرف بعض المتلقين).
إن” الكراطيط “شهادة صادمة على هوية كائنات تعيش بيننا ، بل قد يحس “المتلقي” بأنه متهم ب”التكرطيط” او الانتماء إلى سلالتهم وهو يتنقل بين دروب المحكيات وتضاريسها .
لكنها في نفس الوقت شهادة على التطور المهم للقصة المغربية ،و التي أصبحت بفضل اجتهادات كتابها قادرة على استيعاب خبرتهم المتنوعة ومعرفتهم المركبة ، حيث أصبح المبدع حاملا لمعرفة فلسفية وسينمائية ولغوية/لسانية وعلمية وتشكيلية…وهذا التمازج اضحى قادرا على تقديم تجربة غنية وباذخة لا تطولها يد البساطة او السذاجة ….فثقافة المبدع – كما هو حال مبدعنا محمد أشويكة- تجعل قراءة عمله مغامرة نقدية محفوفة بالصعوبة ،لان المعرفة المقدمة داخل متنه تحتاج إلى ثقافة نقدية موسوعية ودقيقة في الوقت نفسه……
*سؤال شارد : ألا يمكن ان تكون “الكراطيط” رواية ؟