وضوء الدم!

*خيري منصور

ركعتان في العشق لا يكون وضوءهما إلا بالدم، تلك إحدى تجليات صوفي خلع الخرقة وترجل إلى أزقة كي يعفّر جسده من ترابها وما يتساقط من غبار سقوفها المتصدعة تحت وابل المطر، وتشاء المصادفة أن أزور قبر الحلاج أو بيته الذي يخلو من رفاته ذات شتاء بغدادي تحت سماء محتقنة بزفير التاريخ، حيث مكثت في فضاءاتها المضاءة بغير الكهرباء أنفاس هؤلاء الذين عاشوا في زمن كان فيه العراق أرض السواد لفرط الاخضرار، وكانت بغداد مصدر الفعل الذي اشتق من اسمها وهو يتبغدد بمعنى يذهب عميقا في الرفاهية والسؤدد، وكنت أشعر أن أبا الطيب والجاحظ والفراهيدي وسائر السلالة يحرسون أصابعي من اقتراف خطأ، في زمن أصبح فيه العربي يرطن بأبجدية مشوبة بنبرة استشراقية.
أذكر أنني استأذنت حارس بيت الحلاج ولا أقول ضريحه لأنه لم يكن هناك بل تحول إلى رماد في سماء المدينة كي أكتب على الجدار: «اقتلوني يا ثقاتي إن في موتي حياتي»، ثم أوقع تحتها مؤتلفا ولا منتحلا أو متقمصا أبو منصور.
قال لي حارس الحلاج إن السقف المتصدع يرشح منه الماء عندما تمطر وإنه يستغيث بأولي الأمر كي يرمموه، وكان يحفظ كثيرا من أشعار الحلاج، ويرفض بشدة ما أقوله له عن فراغ الضـــــريح، لكنه أصيب بالدهشة وربما بالقشــــعريـــرة حين رويت له ما جرى في تلك الليلة، ليلة الصلب والحرق والرماد حيث اخـــــترع فقهاء السلطة خرافة عن طائر اسمه الزبزب يأتي من سماوات عالية ويخطف الأطفال، وما من أسلوب يفزعه غير رنين النحاس، لهـــــذا خرجت النســــوة إلى أسطح المنازل للطرق على كل ما لديهــــن من أوان نحاســـية، وفيما كان الرنين الأصفر يحجــــب الاستغاثة كان الرجل يدفع ثمن خـــلع الخرقة، والسعي بين الناس لأنه أدرك في لحظة ما أنه أحدهم، وأن الحلول مهما أوغل في المطلق لا يفصل بين مصيره ومصائرهم.
وبالعودة إلى وضوء الدم فهو ليس وقفا على عشق الصوفي فدماء العشاق دوما مباحة كما قال أبوالقاسم الشابي في إحدى قصائده التي حجبها نشيده الشهير «إذا الشعب يوما أراد الحياة» كما تحجب الشجرة الغابة، ومن توضأوا بدمائهم في يوم الأرض الذي لا تتسع له التقاويم بقدر ما تتسع له القيامات، أدوا صلاتهم بما يليق وعشقهم. لكن فقهاء تهريب الوقائع وشهود الزور أوحوا للعالم أن ما حدث في غزة هو حادث سير لأن العائدين ولو بمسيرة رمزية لم يتوقفوا عند الإشارة الحمراء وما كتب تحتها بالعبرية.
فما الذي يمكن للمرء أن يشعر به وهو يرى من ينوب عنه حي في الموت تماما مثلما ناب عنه في العودة، هؤلاء عادوا بطريقتهم، ولم تدنس أكفانهم أصابع المحتلين كي تفتش أجسادهم بحثا عن قشعريرة مممنوعة لأن المقرر هو إفراغ الآدمي من آدميته، وبالتالي إعادته ملايين السنين إلى الناب والمخلب والذيل أيضا.
وخرافة طائر الزبزب التي شغلت الناس عن صلب الحلاج لها تجليات كثيرة في تاريخنا، فكلما تحرك الناس بعد أن تجاوز الاستبداد وسيل الدم الزبى يتولى محترفو التزوير صرف الانتباه عن كل ما يجري، باختلاق خرافات لا وجود لها ولمخلوقاتها إلا في خيالهم، وما من بلد عربي في العصر الحديث لم يتم فيه اختلاق خرافات أو حكايات ملفقة لصرف الانتباه عن الواقع. وفي المناخات الملبدة بالخوف يصلب ويحرق أناس صدقوا ما قيل لهم عن الحرة التي تجوع ولا تأكل بثدييها.
إن ركعتي العشق اللتين تحدّث عنهما الحلاج يقرأهما كل منا كما يشاء ووفقا لمعجمه الذي رضعه وتربى عليه، والأرض التي هي مهد ولحد وموت وقيامة تستحق أن يسبقنا إليها دمنا، لأنها المؤتمنة عليه تماما كما هي مؤتمنة على أسلافنا الذين رضعت جذور الزيتون والنخيل من فائض الحياة في قبورهم!
والرجل الذي قال: «اقتلوني يا ثقاتي إن في موتي حياتي» أدرك دون ادعاء أقصى ما تبلغه جدلية التاريخ، خصوصا حين تتجلى في الأحياء الموتى والموتى الأحياء.
لم يكن بحر غــــزة قد جفّ ولا ترابـــها هاجــــر كي يكون وضـــوء العشق بالدم لا بالمــــاء أو التيمم، لكن ما قـــاله الشابي عن دمـــاء العشاق المبــاحة يليق بالأوطان أيضــــا، لهذا لم يكن الشابي يخاطب في قصيدته تلك امرأة، ولم يكن أحـــد مجانين ليلى وأخــواتها، بل بدأها بقوله: أنا يا تونس الجميلة في لُجّ الهوى، فكان مجنون تونس لا مجنون ليلى أو لبنى، لكن الورثة الذين اشتبكوا على الميراث في عالمنا العربي ليسوا أبناء لهذا يؤدون صلاة الرياء بلا أي وضوء أو حتى تيمم !!
_________
*القدس العربي

شاهد أيضاً

أول رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي

(ثقافات) أوَّل رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي: أركيولوجيا الصورة في رحلة ابن بطوطة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *