مرآة مزدوجة للواقع و «ربيعه»

*أدونيس

I . باقة أفكارٍ للمناقشة

-1 –

يقول فرويد: «لا يولد الإنسان ولادةً كاملةً»، وهذا يعني أنّ الإنسانَ ولادةٌ دائمة.

اللحظة التاريخية التي يعيشها البشرُ، اليوم، على المستوى الكونيّ، جديرةٌ بأن تُغرينا جميعاً لكي نتّخِذَ من هذه العبارة الفرويديّة، مرآةً لا نرى فيها وجوهَنا، وحدها، وإنّما نرى كذلك أعمالَنا وأفكارَنا: ما كنّا، وماذا نريد أن نكون.

هكذا يستجيبُ كلٌّ مِنّا في ميدانه وبطريقته الخاصّة للعبارة القديمة المشهورة: «اعرفْ نفسَك». وهي عبارةٌ يتهرّب منها الجميع بحجّةٍ أو بأخرى، مُكتَفياً برغبته في معرفة غيره.

والعبارتان جديرتان في كلّ حالٍ بإغراء العرب، على نحوٍ خاصٍّ، بأن يتمَرْأى كلٌّ منهم فيهما – وعلى الأخصّ في ضوء المرحلة التي يعيشونها، مرحلة ما سُمِّي «الرّبيع العربيّ».

-2-

طرَحتُ هذه المسألة على بعض الأصدقاء الذين ينظرون بمنظار العلوم الاجتماعيّة إلى قضايا العرب، اليوم، مقترِناً بمنظار العلوم النّفسيّة. وسُرِرتُ كثيراً بما عرفته منهم. فبينهم مَن بدأ يقومُ بهذا العمل الاجتماعيّ – النّفسيّ، ووصل إلى نتائج بالغة الأهمّيّة. وقد استأذَنْتُهم في نشر بعضها، في هذه الزّاوية، مقدِّمةً لدراساتٍ تفصيليّة يقومون بها، آمِلاً أن يُنجِزوها في وقتٍ لاحقٍ قريب.

-3 –

من هذه النّتائج أنّ بين العرب مَن يعتقد أنّه وُلِدَ كاملاً، وأنّ الزّمَن ليس إلاّ فرصةً له لتحقيق هذا الكمال، عمليّاً، في مجالات الحياة اليوميّة، والحياة الثّقافيّة، والحياة السياسيّة، بشكلٍ خـــاصّ. وهو، إذاً، يعرف نفسه، ويعرف الآخر، سلَفاً.

ومنها أيضاً أنّ المجتمع العربيّ المسلم ليس إلاّ نوعاً من «جَمْعِ» أو «جَمْعَنَة» المُتفكِّك، أصلاً. وهي، إذاً، منظوماتٌ من «التفكُّك»، بوصفها، أصلاً «منظوماتٍ» من الانتماءات القبَليّة والإتنيّة والمَذهبيّة. ولفظة «شعب» قرينةٌ للفظة «تشعُّب» – وهي، إذاً، المادّةُ الحيّةُ للتفكُّك. فالمجتمع العربيّ المسلم مجرّدُ «كتَلٍ» من الكمّ العدَديّ.

أمّا العربيّ، بوصفه «فرداً»، فإنّه يتّصِف بالصّفات التّالية:

1 – ذهنيّة الفردِ العربيّ تَوافُقِيّة إجماعيّة، بعامّة.

2 – وهو مؤتَلِفٌ مُختَلِفٌ في اللحظة ذاتها، أحياناً.

3 – لا يبتكر، بقدرِ ما يُؤالِف، ويجمع، وينسِّق.

4 – لا يُزَعْزِع، بقدر ما يُدَغْدِغ.

5 – إجمالاً، هو فردٌ يرى أنّ الثّقافةَ إعادةُ تركيبٍ للمَرْئيّ،

المَعروف، والمَوروث المُشتَرَك، وليست إبداعاً.

ويَسْتَخْلِص من هذا كلِّه نتائجَ كثيرةً أشيرُ هنا إلى ما يتعلَّق بالثّقافة وأكتفي به. فهو يرى أنّ هذه الثّقافة آلةٌ ضخمةٌ للتسويغ والتّسويةِ والتّقليد والتّمجيد والمُحافظة في حركةٍ من الارتباط العُضويّ بالسّلطة ومؤسّساتها.

ربّما، في هذا الإطار نفسه، يمكننا كما يقول هؤلاء الباحثون، أن نرى الأسباب التي تجعل العالم العربيّ الإسلاميّ يعيش في حالة انشقاقٍ عموديّ تنشأ عنه انشقاقاته الأفقيّة. وهي حالةٌ تُلغي إمكانيّة «وحْدَتِه»، على أيّ مستوى، إلاّ على مستوى الخطاب، أو المستوى اللفظيّ.

يمكننا أن نفهم أيضاً كيف أنّ هويّةَ هذا العالم تتمثّل، جوهريّاً، في «التّبَعيّة» – سياسةً، وثقافةً، واقتصاداً. و «الغَرب» هو الذي يحتضِن هذه «التّبَعيّة»، ويدعمُها، ويرعاها، ويحميها، ويحارب من أجل استمرارها.

ويخلص هؤلاء الباحثون إلى القَوْل، في ضوء هذا «الرّبيع العربيّ» إنّ حربَ «التّبَعيّة» و «الاستتباع» هي حرب عصرنا العربيّ الرّاهن. وإنّ الأرض العربية «مستودَعٌ للذّخائر» في هذه الحرب.

الإنسان نفسُه «مادّةٌ» أخرى بين الموادّ التي يختزنها هذا المستودَع. مجرّد مادّة: قَتْلُ فرْدٍ «غربيّ» واحد، ولو كان جاسوساً، يحرِّك السياسة الغربيّة و «الأمم المتّحدة» ومجلس الأمن الدّوليّ، أكثر مما يحرّكها قتلُ شعبٍ عربيٍّ مسلمٍ بكامله. وفي هذا ما يجعلهم يَصِلون إلى النّتيجة التّالية:

لا نرى عمراناً لا مدنيّةَ فيه، كما نرى في العمران الذي يملأ البلدان العربيّة الإسلاميّة. ويعني ذلك أنّ الدّولة العربيّة المسلمة الراهنة تبدو كأنّها تعيش خارجَ الزّمن، وأنّها مُعاصِرةٌ للدّولة الإسلاميّة الأولى، وأنّها أقلّ انهِماكاً بتطوّر الحياة وبالتقدّم المعرفيّ العلميّ والتقنيّ، من الدوَل التي سبقتها في العصرين الأموي والعبّاسيّ، وحتّى في عصر محمّد علي. وأنّ انهماكها الأساس يتمثّل في بقاء سلطتها، وفي التسلُّح، بأيّ ثمن، للدّفاع عن هذا البقاء، ولاستمرار هذه السّلطة.

هكذا يقول بعض هؤلاء الأصدقاء على سبيل المزاح، إنّ أزهاراً كثيرةً غريبة تفتّحت في هذا «الرّبيع العربيّ» بينها مثلاً، «زهرة العمر». فهذه «الزّهرةُ» تؤكّد أنّ متوسِّط عمر الفرد في المجتمعات العربيّة الإسلاميّة يخترق جميع التوقُّعات، وجميع القوانين – خصوصاً تلك التي تحدّده بثمانين أو تسعين سنة. فهو، وفقاً للتجربة التاريخيّة – الاجتماعيّة يتراوح بين ثلاثة قرون وخمسة عشر قرناً.

يمكن أن نرى في الشاعر الفرنسيّ هنري ميشو شاهداً على ذلك في قوله مرّةً، جواباً عن سؤال: «نعم أعرف أشخاصاً، بلغوا من العمر قبل وصولهم إلى الشيخوخة، عشرة قرون».

ويرى كثيرٌ من الشعراء المُغرَمين بأسماء الزّهور وخصائصها، أنّ للقمر وجهاً، وأنّ للشمس قدمين. ويستشهدون على ذلك بأنّ كوكب فينوس يُسَمّى في العربيّة «الزّهرة».

II – باقة أزهارٍ من ربيعٍ آخر

-1 –

كلماتٌ – فِخاخٌ

نتصارعُ فيها،

ونَقتُلُ – نُقتَلُ فيها.

أرضُنا ضدّنا

أرضُنا دارُ حربٍ علينا.

-2–

مَن قال لكَ أيُّها العقلانيُّ، المُتَرَصِّنُ،

أنّ كلماتِ اللّعِبِ

هي دائماً، لَعِبٌ بالكلام؟

-3–

ربَّما سأكرِّر ما قلتُه للكتابْ:

لا أحبُّ السّحابَ، أحبُّ التّرابْ.

-4 –

هلْ أفْرَطْتَ، أيُّها الشّاعر، في وضع يدكَ على الجرح؟

-5 –

حسَنٌ أن تقولَ: الحقيقةُ صارَت

طريقاً لجبّانةٍ – طريقاً بلا عودةٍ.

حسَنٌ أن تقولَ: الفضاءُ هواءٌ مريضٌ.

حسَنٌ أن يكون صراطُكَ صَعباً،

وشعرُكَ مُرّاً.

-6–

إنّه سُكَّرُ السياسة يَروي لأصحابه قائلاً:

ألحقيقةُ ذابَتْ إلى آخِرِ الدّهرِ في كأسِه.

-7–

غالباً يقتُلُ الفنُّ أشجارَهُ

طَلَباً للثِّمار التي لم يَحن وَقْتُها .

-8–

كَبِدٌ: لفظةٌ – وحدةٌ

بينَ طِفلٍ وثَورٍ.

هكذا:

لا تَقُلْ – أَدخُلُ البيتَ من بابِه،

قُلْ: سأدخلُ من جُرْحِهِ.

-9–

لم أقُلْ مرّةً:

جمَعْتُ الدّمَ المُتدَفِّقَ من وردةٍ

وأعطَيْتُه إلى شوْكةٍ.

-10–

الحلمُ، أحياناً، مِلْحٌ آخر.

-11–

شجرٌ: كلُّ غُصْنٍ كتابٌ –

شَغَفاً، أو سؤالاً.

-12–

لغةٌ – كلَّ يومٍ

تُحاصَرُ في مُعجَمٍ.

لغةٌ – كلَّ يومٍ

تُقادُ إلى فرنِ أوجاعها.

-13–

أهنالكَ سرٌّ للقرابة بين هاتَين الكلمتين:

الظُّفْرُ و الظَّفَرُ؟

-14–

أضافَ القرنُ الحادي والعشرون إلى حقوق الإنسانِ حقّاً آخرَ:

حقُّ التّحوُّل إلى وَحْش.

-15–

فَيْضُ عَطْفٍ وحُزْنٍ

يتمَوّج في غابةٍ من عظامٍ.

-16–

قُبْلَةٌ توقِظُ الشِّعرَ من نَوْمِه –

هكذا، ليس للشعر إلاّ

أن يؤكِّد : لا سِرَّ في الأرض إلاّ إذا كان شِعراً.

-17–

الكلامُ الذي نتجَرّأُ في وَصْفِهِ

أنّه كاشِفٌ

لا يقول سوى تيهِه.

-18 –

عقدٌ طويلٌ من أشجار الخريف

يُطَوِّق عنقَ الفضاء.

-19 –

شمسٌ سوداء تقفو خطواتي.

لا آمُل شيئاً، أيّتها الشّمس.

من أين، إذاً، يجيئكِ هذا الهَلَعُ من ظِلّي ؟

اليقينُ، فكراً وعِلماً، يحترق كلمةً كلمةً

في أفران التُّرَّهات.

-20 –

ـ ماذا تقرأ الآن، أيّها المؤَرِّخ؟

ـ لا أزال أتساءل؛ أظنُّ أنّني سأقرأ سديمَ الغيم،

ونظامَ الرّيح.
_________
*الحياة

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *