*أسامة فاروق
قادني سوء الحظ مرة لأن أحضر نقل مكتبة أحد النقاد المصريين الكبار، كانت قد آلت بموته إلى ورثة لم يجدوا فيها ما يستحق الاهتمام، فقرروا التبرع بها إلى وزارة الثقافة للاستفادة من الشقة التي اكتظت بالكتب!
رأيت كيف تم التعامل مع كتب الرجل التي قاسمته حياته، والتي تمحور حولها وجوده كله، كتبه التي شهدت معاركه وحملت اسمه، وحوت أفكاره وخربشات أقلامه، كيف تقطعت أوصالها وألقيت بجلافة في قعر الصناديق بلا ذرة اهتمام أو تعاطف.
عناوين عربية وأجنبية، كتب ومذكرات، روايات وقصص ودواوين، حوت إهداءات من كتّاب صغار طامعين في نظرة من الناقد الكبير، ومن كتّاب كبار تتلمس البُعد من سياط قلمه بتملق زائف أو تستجلبها بمحبة صادقة، لكن ذلك كله لم يلفت أنظار العمال بقدر الأغلفة الملونة لكتب الفن ومجلاته، وإن نالت جميعها المصير نفسه ورقدت جوار مثيلاتها في قعر الصناديق.
المكتبة التي احتلت غرف الشقة الصغيرة ترقد الآن وحيدة على نصف حائط في أحد دهاليز مواقع الوزارة المنسية!
التجربة القاسية كانت كفيلة بتغيير رؤيتي للمكتبة للأبد، كلما تذكرتها، فكرتُ في جدوى الاحتفاظ بالكتب، ووجدت أنه من الأفضل التخلص منها قبل أن تواجه هذا المصير. لكني أعود فأنسى وأرجع إلى هوس جمع الكتب وترتيبها ولمسها والحوم حولها، ربما الهوس نفسه الذي قاد الناقد الشهير إلى جمعها والعيش منها وفي حضرتها، من دون كثير تفكير في مستقبلها.
لذا أتصور أن الرؤية الأصلح الآن التي تقي المكتبات من هذا المصير المرعب هي نصيحة الروائي خليل صويلح التي أطلقها في كتابة الأحدث “ضد المكتبة”. وإن كنت قد تسرعت وتصورت من عنوانه أنه يشي بمضمون عن كره المكتبة، وربما دعوة للتخلص منها، لكنه في الحقيقة كان عكس ذلك تماماً، إنما هو إعلان حب للكتاب والمكتبة، ونصيحة خالصة لتشذيبها من الحشائش الضارة التي تنمو وتتكاثر على جدرانها، مخفية النافع فيها والأجدر بالاقتناء.
حشائش المكتبة كما يوضح المؤلف هي تلك الكتب التي تصلنا كإهدءات بلاغية مفزعة لفرط سطوتها الإنشائية، من كتَبة هواة، يطاردون المحررين الأدبيين في كل مكان “كتّاب أتوا الكتابة من دون عدة لحراثة الكلمات وشحذها بحجر صوان البلاغة، أتوا بوهم الموهبة، وشجاعة الجهل، والشفرات المثلمة في أداء المخيلة، وبالطبع أخطاء النحو والصرف، أولئك الذين أثنى معلمو اللغة العربية عليهم يوماً، بعلامة، بعد كتابة موضوع إنشاء عن عيد الشجرة، أو عن نزهة ريفية قمت بها مع رفاقك في المدرسة”.
كما ينصح بإطاحة الكتب التي تحتوى مقدمات نقاد منافقين تمتدح عبقرية شاعرات وروائيات خصوصاً، كتبن خيباتهن في الحب، بخيال مريض، ووقائع مضجرة، وميلودراما مستوردة من أفلام البيض والأسود. هناك أيضا كتب النقّاد الذين يبيعون المصطلحات الفاخرة والمستوردة من فاترينات ما بعد الحداثة، لنصوص مصنوعة من خردة بلاغية تالفة.
لا ينسى أيضا الكتب التي تحمل تواقيع جنرالات سابقين بأوسمة ونوط شجاعة، لم يخوضوا حرباً واحدة، لكنهم مصرّون على كتابة مذكراتهم وأعمالهم البطولية في ميادين المعارك، بالإضافة إلى تزوير الوقائع لإبراء الذمة من هزائم محققة. وتلك التي تأتيك عبر صندوق البريد من كتّاب مجهولين، “لا تعلم لماذا ارتكبوا هذه المعصية، نظراً لفرط ركاكتهم”.
الانترنت له نصيب أيضاً في تلك النصوص التي غزت الشبكات بوصفها شعراً ورأى أصحابها أنها تستحق الطباعة ورقياً، “كضرب من تعميم البلاهة”.
ماذا يتبقى بعد هذا كله؟
المتجمد فينا”.
يؤمن صاحب “ورّاق الحب” إذاً بأن المكتبة ليست بحجمها، إنما في نوعية محتوياتها. لكن لا تتصور أن ذلك يعنى قلة العدد، فبحسب اختياراته في كتابة الصغير، ستبقى كتب كل من: ميغيل دى سرفانتس، وخورخي لويس بورخيس، تولستوى، كافكا، وماركيز، أُمبرتو إيكو، كارلوس زافون، كونديرا، غويتسيولو، بارت، هنري ميلر، إيزابيل الليندي، أنسي الحاج، ومحمود درويش، سعدي يوسف، إدوار الخراط، ممدوح عدوان، وإبراهيم أصلان، وعشرات الكتّاب الآخرين.
في الكتاب، لا يكتب خليل صويلح فقط عن أهم أعمال هؤلاء، لكن أيضاً عن هوسهم بالكتب، والكتب التي كتبوها في محبة الكتب. فيبرز مثلاً ما كتبه هنري ميلر في “الكتب في حياتي” معتبراً إياه سيرة شخصية عن طريق الكتب، بوصفها حياة موازية، حيث ينخرط ميلر في كتب حياته وهي تنتمي في معظمها إلى حقل الرواية، جنباً إلى جنب مع تجاربه الحياتية وترحاله بين الأمكنة والأعمال. يستعيد الروائي الأميركي الكتب التي تركت أثراً ملموساً في حياته كقارئ، لكنه يعترف منذ البداية بأن الكتب الفريدة نادرة، وربما أقل من خمسين في مخزن الأدب كله: “هذا الاعتراف سيطيح مئات المؤلفين الذين لن يكونوا جزءاً من رفوف مكتبة صاحب “مدار الجدي” لكننا سنلتقي في المقابل عشرات الأسماء التي لم تدخل المكتبة العربية على الإطلاق”.
اكتشف ألبرتو أن الناس يلقون الكثير من الكتب في المهملات! فعثر في البداية على “آنا كارنينا” لليو تولستوي، ثم عشرات الكتب الأخرى، وبمرور السنوات أصبح بيته مليئاً بالكتب من”الإلياذة” لهوميروس إلى “الأمير الصغير” لأكزوبري، بالإضافة إلى روايات ماركيز. وحوّل بيته الصغير إلى مكتبة عامة، توسعت في ما بعد وأصبحت مكتبة “قوة الكلمات” -كما أسماها- مشهورة في كل أرجاء القارة الأميركية، وصار صاحبها يتلقى الدعوات من أشهر معارض الكتب، وجعله ذلك يتلقى التبرعات أيضاً، ولم يعد المصدر الأساسي للكتب هو النفايات.
يقول صويلح لو حدث هذا الأمر في بلادنا، فإن عامل النظافة على الأرجح سيبيع الكتاب بالكيلو لمطعم فلافل، أو إلى صاحب عربة لبيع الذرة، أو ربما أحاله إلى جهة أمنية، تنفيذاً لتعليمات صارمة بتسليم أية أوراق يجدونها في النفايات فربما كانت تحتوى على منشورات!
كما يتوقف عند واحدة من الأفكار الفانتازية التي يطرحها الروائي الصربي زوران جيفكوفيتش في روايته “المكتبة” وتساؤله الملغز: ماذا لو جمعنا كل كتب العالم في كتاب واحد، بدلاً من رفوف المكتبة؟ ذلك الكاتب المهووس بالكتب الذي يجد نفسه محاصراً بمواقف كابوسية ومتاهة لا يخرج منها بسهولة. ويشير إلى ألعاب بيار بيارد ومشاريعه الملفتة “كيف نحسن الأعمال الأدبية الفاشلة” و”كيف تتحدث عن كتب لم تقرأها بعد”، وأخيراً “ماذا لو غيَّرَت الأعمال الإبداعية مؤلفيها”، ويخلص مثلاً إلى أن شكسبير ليس اسماً علماً بقدر ما هو كناية عن مؤلف خيالي، وتالياً فإن حل لغز المؤلف هو شرط مسبق لقراءة متجددة للأعمال الأدبية الكبرى، وبدوره يسأل خليل: ماذا لو كتب نجيب محفوظ “مدن الملح” بدلاً من عبد الرحمن منيف، أو أن يكتب طه حسين “الخبز الحافي” بدلاً من محمد شكري؟!
لذا فإن دعوة “اللامكتبة” التي يطلقها خليل صويلح ليست دعوة هدم كما تصورت، إنما على العكس هي دعوة حب للكتب والمكتبة، لكنها تعنى في المقام الأول إلغاء الشكل الفولكلوري للمكتبة، كمظهر استعلائي، لا يختلف كصورة رمزية عن فاترينة الكريستال.
فلو اقتنيتَ فقط الكتب التي تحدث عنها خليل، أو وردت في كتابة بشكل عابر، تكون مالك مكتبة ضخمة، وستفكر مئات المرات قبل أن تفرط في كتاب واحد منها! أو بتعبيره هو نفسه، أن تكون “ضد المكتبة” فأنت تحتاج إلى مكتبة أخرى، بخطط ومتاهات لا نهائية!
(*) ضد المكتبة صدر عن دار “أثر”.
___________
*المدن.