“بلاد ما ترد الظلم عن أولادها ما نبات فيها ليلة”، قالها راشد لشقيقته رّيا، وهما اللذان يقرران عدم الانتظار لحين سكون العاصفة المطرية لمغادرة “السراير” إلى “مسقط” على ظهر الناقة “نميصة”، إثر وصولهما إلى حالة من عدم القدرة على احتمال مزيد من ظلم الأعمام وأولادهم، هما اللذان كان والدهما ذا حظوة، ورفض أشقاؤه وأبناؤهم توريث ابنه راشد “المشيخة” بعد أن أذاقوهما من صنوف الظلم الكثير.
ومن خلالهما تتحدث الروائية العُمانية بشرى خلفان، في أولى رواياتها “الباغ” الصادرة عن دار مسعى للنشر والتوزيع في كندا، بعد سلسلة من المجموعات القصصية، في ما يقارب الثلاثمائة وخمسين صفحة، عن محطات مثيرة من تاريخ سلطنة عُمان تدفع القارئ لاستخدام محرك البحث “جوجل” أو “يوتيوب” لمحاكاة هذه المحطات، والاطلاع على تاريخ ما قبل تولي السلطان قابوس بن سعيد الحكم، وما بعده بقليل.
ويمكن القول إن “الباغ” لخلفان عبارة عن حكايات حول سلطنة عُمان بين دفتي رواية، فنجدها لم تغفل الأحداث السياسية البارزة، حتى تلك التي تشكل مثار تساؤلات عدة في تاريخ بلدها كـ”ثورة ظفار” في نهاية خمسينيات وكامل ستينيات القرن الماضي، وعن تدخل السعودية بأوامر من ملكها بدعم “الثوار” ضد حكم السلطان تيمور بن سعيد، والكويت التي كانت قاعدة لتجنيد الطلبة من السلطنة ضد السلطان أيضاً، قبل إرسالهم إلى قواعد للتدريب العسكري كقواعد الفلسطينيين في لبنان، ومن ثم تسللاً عبر اليمن إلى حيث أرض المعركة داخل السلطنة، وكذلك لم تغفل الحديث عن حروب القبائل، والتجنيد في جيش السلطنة، ودور بريطانيا في دعم هذا الجيش جواً وبراً وبحراً، وحكايات بن عطيشان، معرجة على ظروف بلادها في أربعينيات وخمسينيات القرن الماضي من تهالك في البنية التحتية، وفقر، وجهل، حيث لا مدارس إلا “السعيدية” في مسقط، ولا مشافي إلا ما ندر، في مجتمع تتفشى فيه الأمية أيضاً، فكان يعامل العُمانيون في دول الخليج العربي الأخرى كعمالة من درجة متدنية، ليس كما الفلسطيني والمصري المتعلم، حتى إنهم عاشوا حياة الذل والهوان كطبقة عاملة من دولة الجوار في الخليج.
بالعودة إلى الشقيقين، فإنهما مع وصولهما إلى وجهتهما في مسقط، بعد عشر أيام من المسير، اضطرا بداية إلى بيع الناقة التي ورثاها عن والدهما، لكون أنه يمنع على النياق دخول المدينة، لكن راشد الذي بدأ في مسقط عتالاً تحول إلى عسكري في جيش السلطان (حامية مسقط)، بعد أن لفت الأنظار بقوته البدنية وشجاعته التي مكنته من طرح أكثر من شخص أرضاً، والتفوق عليهم، عقب شجار كان مثار حديث الناس لبعض الوقت.
ولقوته وشجاعته هذه، يتدرج راشد معتلياً سلّم الرتب العسكرية في الجيش، بينما شقيقته في حماية “العود” وزوجته “العودة”، قبل أن تتزوج من علي (كاتب السيد في الحامية نفسها)، والذي يتحول قبل الزواج من ريّا إلى صديق لراشد.
ومن خلال هذا الزفاف تتطرق الرواية لتقاليد العرس وطقوس الزواج في مسقط بوصف متقن، ومن خلال ريّا ابنة الشيخ ورجل الدين الذي ترث عنه علوم القرآن وترتيله دون شقيقها، وتنسج علاقات طيبة بنساء مسقط، يتم تسليط الضوء على العلاقات الاجتماعية، واللباس، وغير ذلك.
وبالعودة إلى راشد، فإن هذا التدرج يجعله يتنقل مع الجيش حسب المهام الموكلة له ولرفاقه، في ظروف صعبة، خاصة عقب اندلاع “الثورة”، حيث يطارد كغيره من أفراد الجيش “الثوار”.
يكبر زاهر ابن ريّا وعلي، بينما خاله يواصل التدرج في الرتب العسكرية، ويتخرج من “السعيدية”، المدرسة الوحيدة في مسقط، قبل أن يتوجه لإكمال دراسته في الكويت، وهناك ينضم إلى حلقات تنظيم “الثوار” ومجالسهم، فيقرر الذهاب للتدرب على السلاح في لبنان مع الفلسطينيين في العام 1970، وهو ذات العام الذي يتسلم فيه الحكم السلطان قابوس بن سعيد، الذي يعد العُمانيين في خطابه الشهير لمناسبة توليه مقاليد الحكم بالرفاه، عبر تخليصهم من عقود الجهل، والفقر، وهو ما حققه بالفعل، وبدأ يلمسه أبناء السلطنة، ما دعا غالبية المغتربين إلى عودة إلى بلادهم، ومنهم أصدقاء زاهر في التعليم والسكن دونه، هو الذي التحق بصفوف “الثوار” في مواجهة مع خاله ذي الرتبة المرتفعة في جيش السلطان، حتى إن ريّا الأم والشقيقة تطلب من راشد أن يعيد لها ابنها، فبات الأخير ينصب الكمائن لعله يتمكن من اصطياده حياً، وإعادته لأحضان أمه.
بعد سنوات قليلة على تولي السلطان قابوس حكم عُمان يتم طي صفحة “ثورة ظفار”، بمساندة من طائرات “سترايك ماستر”، فيقع زاهر من بين عشرة نجوا من القصف في يد قوات جيش السلطان، ليحاول الخال راشد إنقاذه قبل ترحيله إلى السجن المركزي، لكن يبدو أن النهايات لم تكن كما أرادتها ريّا، فكل من ابنها الشيوعي وشقيقها العسكري يرى نفسه بطلاً، وربما هو عنوان الوطنية وبوصلتها في سلطنة عُمان.
وكان الحضور الفلسطيني لافتاً في بعض فصول الرواية عبر من صادفهم وصادقهم زاهر في الكويت، حيث كان الفلسطيني رمزاً للمتعلم المتحضر، وبالتالي نال احترام الجميع، خاصة أنه كان للفلسطينيين كلمة السبق في مجالي التعليم والصحة هناك، حتى إن معلم زاهر وصديقه في آن الأستاذ أحمد خليل من حيفا، لم ينفك يوماً عن الحديث عن حيفا والنكبة وفلسطين التي اغتصبت، فتذكر الرواية أن المعلم الفلسطيني كلف طلابه ذات مرّة بالكتابة عن سقوط حيفا في يد الصهاينة، بل إن زاهر العُماني يلقب في وقت لاحق بالفلسطيني.
“أطلق خليفة لقب الفلسطيني على زاهر، ليس لكثرة مخالطته للطلبة والأساتذة الفلسطينيين فحسب، وليس لملازمته لأستاذه في المدرسة أو لمديحه أطباق المجدرة والمسخن والمقلوبة التي كانت أم ياسين زوجة الأستاذ أحمد تعهدها احتفاء به عندما يزورهم في البيت، بل أطلقه عليه عندما صار ياسين ابن الأستاذ أحمد، رفيقه الأقرب، وصار يرافقه في العطلات إلى سينما الأندلس، ومقاهي شارع تونس، واستبدل بالدشداشة البنطلون والقميص، وصارت الكلمات الفلسطينية تدخل في كلامه دون أن ينتبه لها”.
واستخدمت خلفان لغة رائقة بمصطلحات تثير الفضول وضعت معاني الكثير منها في حواشي أسفل الصفحات، وهي لغة تتناسب مع طبيعة الرواية التاريخية التي تخلو من حشو زائد، وتجعل المشاهد وكأنه يتابع مسلسلاً درامياً على فضائية ما، بحيث ينتظر بلهفة الحلقة المقبلة، لكونها برعت في إصهار المعلومات التاريخية التي عادة ما تكون “ثقيلة” داخل حكاية حب جمعت بين شقيقين (راشد وريّا)، فالتشويق هو عنوان “الباغ” ليس فقط على مستوى اللغة، بل على مستوى السرد، والوصف، وتحريك الشخوص، ما يجعلها رواية مرجعاً من جهة حول سلطنة عُمان في العصر الحديث بتفاصيلها السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، ومبهرة من جهة أخرى على صعيد التكنيك بانسيابية لافتة حقاً، ما يجعلها فعلاً، وكما جاء على غلافها الخلفي “رواية من عُمان، حياة كاملة من الحب والتحولات والحيرة، ممتلئة بأسئلة من أزمنة مختلفة، لكنها أيضاً حكاية كل مكان، تدير فيها بشرى خلفان بوصلة الاحتمالات وتغامر في الوصول لإجابة صعبة حول فعل الزمن، كيف يحولنا ويغيرنا دون أن ننتبه، إلى النقيض ربما، إلى ما كنّا نرفضه بالأمس”.
من الجدير بالذكر أن “الباغ” باللهجة العُمانية تعني الحديقة، و”الباغ” هنا حديقة بني عليها منزل بات يعرف باسم “بيت الباغ” كانت تتردد عليه ريّا لتعليم بنات صاحبته “البيبي” (نرجس)، وهي بحرينية الأصل تزوجت تاجراً عُمانياً بنى لها هذا البيت وسجله باسمها قبل أن يرحل غرقاً، ولم يتبق لها ولبناتها سواه، بعد أن أخذ أبناؤه الذكور من زوجة ثانية حصتهم من تركته، هي أم البنات، التي باتت تعتاش على ما يرسله لها ولبناتها أشقاؤها في البحرين .. في “الباغ” حكايات وحيوات ورمزيات وجرأة وإبداع يجعل منها رواية مهمة ومتميزة.
__________
*الأيام الفلسطينية.