علي

خاص- ثقافات

*د. فراس ميهوب

السَّفرُ قدري الذي لم أهرب منه يوما؛ هو استقراريَ الدَّائم، وسكنُ نفسي من قسوة الملل، وبلادة الحياة؛ في مكان واحد بانتظار اللَّاشيء المُرعب.

تعيش في دمي موروثات التِّرحال، بل أنا بدويُّ الطَّبعِ، تطغى على مُهجتي  رغبةٌ لا تهدأ بالرَّحيل اللَّانهائيِّ بعيداً عن أسر المكان، بحثاً عن اخضرار عشب قلبي،

ولتحيا روحي بماء الحياة.

 ذات صباح خريفيٍّ كَسَتْهُ برودةٌ خفيفةٌ، وانْعَكَسَتْ صفرة أوراق الشجر فيه على النَّظراتِ الحزينة ، أوصلني أخي بسيارته القديمة عبر مدينة دمشق التي اتَّشحتْ ذاك الصباح برداءٍ منسوجٍ من موت، و ترقبٍ صامت.

انقضَتِ الرحلة بأمان، رغم خطورة الطَّريق الواصل بين عدرا وَ المطار، صعدْتُ إلى الطائرة السوريَّة المتجهة إلى بيروت.

لبنان إلى سوريا أقرب من دمعٍ لعين، إلَّا أنَّها كانت رحلتي الأولى إليه، مروراً إجباريَّاً إلى مقصدي الأساس باريس، فكنت كعاقٍ لا يكفُّ عن زيارة أصدقائه البعيدين، وينسى زيارة شقيق الرُّوح والدَّم.

كانت مُغادرتي هذه إلى باريس هي الأولى؛ بعد سنواتٍ ثلاثٍ من البقاء في سوريا؛ تزامناً مع الحرب التي هشَّمَتْ ما تبقى من جبر قلبي الكسير.

اعتدْتُ الطَّوافَ، كما ألفْتُ الجوى، فأسلمْتُ نفسي للرياح، لأنقِّبَ عن أملٍ مُختبِىءٍ في مكانٍ ما من هذا الكون الواسع.

نظرْتُ من نافذة الطائرة إلى ذُرى جبال لبنان، ولكن شغلني عنها حديثُ جاري في مقعد الدرجة الاقتصاديَّة.

سعادتُه الغامِرةُ بركوبِ الطائرة  للمرّة الأولى  باديُّةٌ على وجهه المُغضَّنِ  بشقاء السنين، كحلم طفلٍ يتحقَّق بعد انتظارٍ طويل؛ كأنَّه في عقله الباطن؛ أراد أن يهجرَ ولو لمرَّةٍ يتيمة؛ مسرب الفقر البرِّيِّ الأزليِّ  بين طرطوس وبيروت؛ ومعابره في عكّار.

في مطار بيروت، تَنَقَّلْتُ بسرعة لألحق بالطائرة الفرنسيَّة، فالرحلة على وشك الانطلاق.

وبدأت متاعبي…

 إشاعة تأخر الطائرة عن موعدها لساعتين على الأقل؛ سرعان ما تحولت إلى حقيقة مبرمة.

بعد تململٍ وانتظار طويلٍ، تأخير الساعتين تحوَّل إلى أربع فستُّ ساعات طويلة، ثقيلة الوطء.

تحدَّثَ بعض الركاب عن احتمال تأخر إضافي، بسبب إضراب الطَّيَّارِين في باريس ، فنحن في خريف الإضرابات .

ظهر أخيراً مسؤول الشركة الفرنسيَّة ليخبرنا رسمياً ببرودة وجفاءٍ بإلغاء الرحلة حتى إشعارٍ آخر.

عندما سألت موظفاً في المطار عن موعد معاودة الرحلة، أجابني بابتسامة ساخرة:

– لا أحد يعرف حتى الآن يا أستاذ.

ربما كان سعيداً، لأنَّ التأخير ليس عربيَّاً هذه المرَّة.

ساد هَرْجٌ و مَرْجٌ بين الرُّكَّابِ، قطعه  تدخلٌ جديدٌ من مسؤول الطَّيرانِ الفَرنْسيِّ ، قال بفخرٍ واضحٍ أنَّ الرحلة ستنطلق غداً صباحاً، و أنَّ الإقامةَ مُؤمَّنَةٌ على حساب شركته في فنادق بيروتيَّة فَخْمَةٍ .

قبلْتُ بالبَين، لكنَّه لم يرضَ بي…

وسط غضب عارمٍ من الجميع، انتظمْتُ في صفِّ الانتظار الطَّويل لتحضير دخول الرُّكّابِ إلى بيروت.

بعد دقائق طويلة مرَّتْ كدهرٍ، أبلغني ضابطٌ لبنانيٌّ بتهذيبٍ بادٍ خبراً قاصماً لما تبقى من معنويَّاتٍ في داخلي.

وكأنَّها تهمةٌ ، لا أريد إنكارها:

-أنت سوري، ولذلك لا يحقُّ لك الدخول إلى بيروت، فتصريحك للدخول إلى لبنان يسمح فقط  بالمرور عبر المطار إلى فرنسا.

شاهدْتُ المُسافرِين الأجانب؛ ينسربون بخفةٍ وسلاسةٍ؛ إلى الباص المتوجِّه إلى فنادق بيروت.

لم أُردْ أصلاً هذا (البريستيج البيروتيَّ)، ولكن ما حدث لاحقاً، كان أقرب إلى الخيال…

فهمْتُ أنَّي سأبات الليل في منطقة الترانْزيت، كنْتُ على مدمناً على الأحلام، فاعتقدْتُ أنَّ هذا (المشهد ال  سوريا  لي)، ليس إلَّا كابوساً مزعجاً سيتبدد خلال ثوانٍ.

كان الكابوسُ حقيقةً مؤلِمَةً هذه المرَّة.

سمعْتُ سابقاً بأناسٍ عَلِقُوا في منطقة الترانْزيت، ولكن هذه الليلة  كان عليَّ أنْ أعيش بنفسي واقعها الثَّقيل .

هدَّني التَّعبُ، وافترسني الغيظُ، فلبنان في خاطري قطعةٌ من القلب، فكيف للقلب أَنْ يَأكلَ القلب؟

واستعنْتُ بالصَّبرِ الجميل…

صعدت إلى الطابق الأول المزيَّن جيِّداً، والحضاريِّ، حيث ما يسمى بصالة الترانْزيت.

كان البوفيه المفتوح مليئاً بالطعام والشراب الجيِّد وبمتناول الجميع، أخذت حاجتي منه.

تناولْتُ جريدة السَّفير التي أَدْمَنْتُ قراءتها منذ سنوات، من بين مجموعة من المطبوعات اللبنانيَّة، ورحْتُ أقرأ عناوينها التي لم تغب عنها أخبار الحرب الظالمة على بلدي الجريح.

بدأت أنسى قليلاَ هذا الوضع البائس، وسلوت بمشاهدة حركة الناس المُتَّصلةِ، بين شابٍّ يخبر أهله بوصوله إلى المطار، و كهلٍ يحدِّث عن اقتراب مغادرته ، وأثار ابتسامتي مظهر سيِّدةٍ  تتصنَّعُ الرُّقيَ بشكلٍ مُبْتَذَلٍ، مُتحَدِّثَةً على الهاتف بفرنسيَّةٍ مكسَّرة، وتتعمَّدُ بالوقت عينه إعطاء الأوامر إلى خادمتها التي تفوقها جمالاً ورونقاً.

كان وجداني مُثْقَلاً لفراق الأحبَّة، وصعوبة الاتِّصالِ بهم من جهةٍ، و ما حدث معي من مفاجئاتٍ غير سارّةٍ في رحلتي الأولى عبر مطار بيروت من جهةٍ أُخرى.

 وحين بدأ النعاس يجتاح عينيَّ؛ لم أجد إلَّا مقعداً خشبيَّاً كسريرٍ وحيدٍ؛ متاحاً لعابرٍ دائمٍ للأوطان مثلي.

وبدأتُ أحلم بوجودي في مكان تحيط به الخضرة من كل جانبٍ، وماءٌ أزرق يعبره، رأيتُ الكثير من الأطفال يرتدون ثياباً جميلةً بيض و حمر اللون، و يرقصون بحركاتٍ دائريَّةٍ مستمرةٍ ملؤها الفرح، فكأنَّهم ما سمعوا يوماً بالحُزن، ولا هو عرف بحضورِهم.

صحوتُ على صوتٍ هادئٍ، كأنَّ أخي يُناديني، فأبصرْتُ وجه شابٍّ، أرمقُه لأوَّل مرةٍ في حياتي، ولكن ملامحَه تشبهُ كلَّ من أحب.

لم أعرفْ من أين جاء، وكيف التفتَ إليَّ وسط  كُلِّ هذا الصَّخب والزِّحام البشريِّ، ليضعَ فوق جسدي المُنهكِ والبارد في هذه اللَّيلة الخريفيَّة، غطاءً صوفيَّاً دافئاً.

ابتدأَ النَّظرُ إلى وجهه ذي الظِّلال الملائكيَّة؛ ينسيني كُلَّ ما عانيته؛ مُذ وصلت إلى هذا المطار العربي.

لم أجدْ كلماتٍ تكفي لشكره على فعله النبيل، فكيف تَشْكُرُ وردةً على عطرِها، أو بلبلاً على شَدوه ؟!

كيف انتبه هذا الشَّابُّ الَّذي يعمل في خدمة المطار؛ إلى رجلٍ حزينٍ مُقطَّع الفؤاد؛ بارد الأطراف؛ نائماً ببدلةٍ رسميَّةٍ كاملةٍ، ليهتَّم بحمايته من البرد ؟!

نسيتُ تعب الرِّحلة والمطار، وذلَّ الانتظار، والسِّجن المُذهَّب المسمَّى  بصالة الترانْزيت.

كان اسمه علي، لم أشأ أن اسأله عن تفاصيل أُخرى، فقد أردْتُ الاحتفاظ بدفء نبله معي دون احراجٍ له، وحتى لا يستقرَّ في ذاكرتي إلَّا اسمه الأوَّل، ولطف تصرفه.

حين أفقْتُ من رُقادي؛ صباح اليوم التَّالي؛ كان علي قد اختفى، ولكنِّي صرتُ شخصاً آخر، وأملي بالحياة يكاد يعانق السماء.

ولم أهتمْ بمأزقٍ جديدٍ؛ عشتْه قبل صعودي إلى الطائرة البديلة المتوجِّهة إلى باريس، فموظفُ الشَّركةِ الفرنسيَّةِ الصَلِفُ ذاتُه؛ لم يكتفِ ببرودته أمس بل أضاع بإهمالِه حقيبتي الوحيدة.

بلغْتُ باريس بعد أربع ساعات طيرانٍ؛ نزيلاً في الدرجة الأولى، فقد رغبَتْ الشَّركة الفرنسيَّة أنْ تعوِّضَني نسبيَّاً عن انزعاجي الدائم في هذه الرحلة.

كانت تلك المرّة الأولى التي أزور فيها الدَّرجة الأولى، وأتمتَّعُ بخدماتها الإضافيَّة، وبرؤية فنون الزَّيف الذي يبديه بعض أزلام السيَّاسة و الأعمال.

قبل نزولي في مطار باريس، سَلَمَتْني مُضِيفَةٌ ورقة استبيانٍ حول سير الرِّحلة، سلبياتها و إيجابياتها، ألقيتُ نظراتٍ عليها، ولكنِّي ذهبت إلى آخرها لأجيبَ عن سؤالٍ وحيدٍ عن أكثر شيءٍ أعجبني بالرحلة، كتبت بالفرنسيَّة  بخطٍ واضحٍ:

(  L’excellent travail des agents de service à l’aéroport de Beyrouth)

ما معناه (العملُ الممتاز لأفرادِ الخدمة في مطار بيروت)،

 رغم رغبتي الجامحة بكتابة كلمةٍ وحيدة :    علي.

21/03/2018

 

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *