خاص- ثقافات
*فضيلة معيرش
يقتفي أثرَ الحنين في صوتها عبر ممرات ذاكرته المنهكة شقاء، منذ بدأتْ خطواته تشتد مما رضعه من حليب ممزوج بالإهمال، كما تقتفي القطط الجائعة أثر قطع اللحم الناعمة دون هوادة في الشوارع ليلا.
أْغْلِقَتْ نوافذ أحزانه حين علم أن أمّه ريحانة كانت أول من أطل منها منذ أكثر من ثلاثين سنة هكذا اعتقد وهو يكمل الاستعدادات الأخيرة لزواجه ، أثناء خلوده للنوم يقتات التشرذم من سهاده وشريط حياته يمرّ أمام ناظريه سريعا ….تلك المرأة نفسها أمّه التي أهدته إياها المصادفات الموجعة ، طلاقها المبكر من والده المغترب لأسباب يجهلها لم يكن فيها والده أرق عاطفة منها ، تحاشى تذكر التفاصيل ، وتعقب سحابة ماطرة علها تكون بداية فتوحات لأفراحه مع من اختارها لتضمد آلامه . هي مربية سيجد فيها مواساته الضائعة هذا ما قاله له رفيقه المقرب علاء الدين وابن
عمها…ما زاد من اطمئنانه في الارتباط بها موافقة أسرتها عليه رغم مستواه التعليمي الذي لا يليق بها ، قد يكون سنها الذي جاوز منتصف العقد الثالث الشافع له .
ما كان مشترك بينها صقيع الفقر ، بدت صبرينة في أوج حيرتها باقتراب موعد زواجها وتذكرها لوفاة والدها بسكتة قلبية منذ عشرة أعوام .
نخر الألم بداخلها وشق ممرا سريا يعرفه دمعها العازل للفرح ، ذاك الوجع المستعصي
اعتصر حياتها ومضغته دون رفيقاتها هكذا جاهرت، ما لم تتمكن من السيطرة عليه وكتم صوت تمرد أعصابها المتلفة . في وجه كلّ من يستفزها وحقيقة موت والدها الذي دللها أكثر من إخوتها الخمسة .
رغم إصابة أخ لها بالجنون الوراثي مما جعله يجوب طرقات المدينة المكتظة بالأنين تارة مشاغبا وتارة لاهيا عابثا ، لم يرتدعْ صوت القسوة بداخلها وتفننها في اذاء المقربين . وبقت تتبع ما حاكته أفواه الأقرباء حول موت والدها ، لم يكن شافيا لغليلها قيل: ما سمعه والدها من جدها الحاج مختار حين طلبه على وجه السرعة حين عودته من فرنسا وتركه لعمله كعامل نظافة هناك… وضعه بين خيارين كلهما أمر من الآخر، تطليق أمّها زوينة أو حرمانه من الإرث
ظلت أمّها تكتم السبب غير أبهة بما ألحقته من أضرار ضاربة بجذور تربة أصابت
منابت من حولها بالجفاف و الظمأ .
أقيمت مراسم زواجها ببيت خال من وسائل الرفاهية لم يملك ما يقدمه أكثر من حضور أمّه البيولوجية لعرسه ، تحاشى وهو يسلم عليها النظر بعينيها المنهكتين ، اكتفى بالابتسام وهو يرى كيف أسرع بها خريف البعد لمنتصفه ، جاذبته السؤال عن حاله ومباركتها له …
اكتفى بالتنهد لم يشأ الولوج لغرف أسرارها ، و لا التذرع بالظروف منذ تركته صغيرا في بيت جدته …ردّ : لا عليك بي دم آسن يحتاج لتصفية ….وصمت .
ما أدركه لحظتها أنه يتقاسم معها الملامح والاهتمامات ذاتها ، كلاهما متواطئ مع القسوة مفرط فيها . ما أبهج الأم زوينة في هذا الزواج أنّه دون أهل يعكرون صفو أعصاب ابنتها صبرينة . التي رافقت بعدها حياة الاستعلاء في رحاب رجل كفيصل تبتكر المواجع لتذكره من الحين للأخر وكيف ارتبطت به وهي تعرف أنه من غير مرفأ ووحدها أنقذته من النوم
داخل المطاعم المهترئة .. أنجبت خلال الأعوام خمسة الأولى لزواجها منه ولد وبنت ، ركبت موجة الاستهزاء
بزميلاتها اللواتي لم يحالفهن الحظ بالإنجاب ، ابتعدت عنهن طوعا ، وفيصل بقى عمله بمحل تجاري يكتسب منه الكثير من النفور منها وعدم الرضا لمدخوله القليل . حتى السيارة المستعملة التي استلف لشرائها قابلته حين أحضرها بوجه لم يألفه من قبل وكأنه يستحضر من خلاله وجه والده المغترب الذي غادر وطنه دون عودة ، أشعرته أن جذور الفرح سلبت من قلبها. ابنها بهاء الدين ببلوغه سن الرابعة ظهرت عليه أعراض خاله المجنون واستعراض أعراض مواهب مندسة و التفنن في تعذيب أقرانه الصغار وإلحاق الأذى بهم أثناء اللعب ، استعجلت الأمر بطرق أبواب أطباء الأعصاب وقد استعص الشفاء تلاحقت تفسيراتها المظللة ، فعين الحسد التي أصابتها قد سرقت مفتاح أفراحها ، حين فوجئت ذات كتمان أيضا أن ابنتها ريمة سلكت المسلك ذاته الذي سبقها إليه ضياء الدين ، وجع مباغت ألم بها ، اهتدت بضرورة بتره وعدم السماح لدائه يستفحل بشجرة طموحها ، أنجبت طفلها الثالث عله ينجو من عيون حسادها .
فضيلة معيرش/ الجزائر