أبخازيا

خاص- ثقافات

*محمد مراد أباظة

حضرة جناب… الكلب
هذا ما حدث.. لقد اعتذرت البارحة إلى كلب، وقَبِل اعتذاري. تلكأ قليلاً في البدء، وتمنَّع، لكنّ كل شيء في النهاية كان على ما يرام، فمحاولاتي لم تضع هباءً.
أجل كلب.. كلب حقيقي، كلب ابن كلب بأربع قوائم وذيل، وينبح كسائر الكلاب. قد يكون لنباحه جرْسٌ خاص يمنحه مِيزةً نغمية ما، لكنه مع ذلك هو نباح وصاحبه كلب. وقد يختلف، من حيث الهيئة، عن تلك الكلاب التي كنا نصادفها، ليلاً أو نهاراً، في حاراتنا الشعبية تنبش أكوام القمامة قبل انقراضها -انقراض الكلاب لا القمامة- فعمّال البلدية الذين كانوا يجوبون الحارات ليلاً، في عهد مضى، وكلٌّ يحمل بندقية صيد، قضوا على معظمها، والتي نجت بحياتها من خراطيشهم هجرت الحارات والأزقة، ولجأت إلى البساتين القريبة وسفوح الجبل المطل على المدينة، وباتت لا تُرى إلا بعد منتصف الليل يدفعها جوعها إلى الأزقة للبحث بين أكوام القمامة خالية الدسم عمّا يصلح للأكل. وما إن تلمح آدمياً حتى تستحضر محنة آبائها وأجدادها فتولّي هاربة غير عابئة بنواياه، حسنة كانت أم سيئة.
إلا أن ذلك الاختلاف لا يُغيِّر شيئاً من أصالة انتماء الكلب المعتذَر إليه إلى فصيلة الكلاب. فالكلب كلب سواءٌ أ كان نباحه مشتملاً على الطبقات الصوتية كافة، من أخفض قرار إلى أعلى جواب بمؤهلات أوبرالية، أم كان ذا جعير تنبذه حتى أردأ العلب الليلية، إنْ ضحكت في وجهه الدنيا أم أدارت له مؤخرتها، إن كان هزاله يوحي بفراره من مجاعة ما أم بدا  كثري حرب متخم.
فالكلب كلب، وهذه حقيقة حيوانولوجية، بيولوجياً وفيزيولوجياً وسلوكياً، ولن يستطيع تغييرها لا داروين ولا بافلوف ولا بريجيت باردو ولا كل المنظمات والمؤسسات والهيئات والتجمعات والتكتّلات الساعية إلى مساواة الكلاب والقطط وغيرها من العجماوت بالبشر. إنها كحقيقة كون الإنسان إنساناً، مهما استكلب أحياناً، أو كَلِبَ أو تكالب أو تكلبن، أو تكولب أو تَكَلَّب أو اكتلب أو اكلولب. فهو في نظر العلم ومعطيات الطبيعة والأعراف المتوارثة عبر العصور آدميٌّ بغض النظر عن التبدلات الطارئة التي قد تهزّ تلك النظرة والمعطيات والأعراف قليلاً وتشوِّش عليها.
فقولنا: “الكلب كلب” قاعدة لا تلغيها الاستثناءات المشاغبة في الجوار. فأن نرى  كلباً مرتدياً الكشمير الأحمر ويضع طوق رقبة من جلد التمساح، ويتناول الهمبرغر والهوت دوغ والكنتاكي و.. ضرّاب السخن، ويرقص على أنغام مايكل جاكسون أو الراب، أو الموسيقى الشرقية رقصاً وشقلبةً ولولبةً وشخلعةً أين منها راقصات شرقنا الأفعوانيات، ويؤدي حركات بهلوانية مثيرة يعجز عن أدائها أبرع لاعبي السيرك، ويرافق بنباحه الغنائي معزوفات موسيقية، ويتلفظ ببعض الكلمات البشرية، ويشترك في مسابقات الجمال والمواهب وعروض الأزياء الخاصة بفصيلته، ويرافق صاحبه أو صاحبته في رحلاته أو رحلاتها، ويقيم في فنادق فارهة افتُتحت خصيصاً لأمثاله ليتبرطع في رفاهة تحسدها عليها شرائح واسعة من بني البشر المهددين بالانقراض. ويستقر، حين يرحل عن الدنيا، في إحدى المقابر الفاخرة الخاصة بأمثاله من النابحين، ويزور أصحابه مرقده حاملين طاقات الورود في ذكرى رحيله، و…  و… و… فتلك كلّها استثناءات ليس بمقدورها تغييب قناعتنا بكون الكلب كلباً أولاً وأخيراً.
إذاً.. فالكلب الذي اعتذرتُ إليه اليوم هو كلب حقيقي. ومع ذلك لا بدَّ من الاعتراف بأنه كان مختلفاً إلى حدٍّ ما. فقد كان كلباً من حيث هو كلب، وشيئاً آخر من حيث أشياء أخرى. حتى إن شكله، لأول وهلة، لم يكن يوحي بالدلائل الكافية ليُعَدَّ كلباً.
كان أقرب شبهاً إلى كومة من الوبر الأبيض الناعم، ولم يكن في استطاعتي تمييز وجهه من قفاه إلا بصعوبة بالغة في لحظة الغضب التي اجتاحتني لحظة حدوث المشكلة بيني وبين ابن الكلب ذاك. فانسدال الخيوط الحريرية كان يخفي عينيه الصغيرتين الخبيثتين وخطمه الداكن. ولو رأيتَه ساكناً لقلتَ إنه دمية جميلة متقنة الصنع من تلك التي نتأمَّلها بحُرقة في واجهات المخازن المخصصة لإسعاد الأطفال، حسرةً على ما مضى من طفولات أمثالي، أو حرقة قلب على ما يمضي من طفولات أولاد أمثالي أيضاً. ومَن لا يجرؤ على الاقتراب من تلك الواجهات، لسبب أو لآخر، يستطيع رؤية نماذج من تلك الدمى قابعة فوق تابلوهات الكثير من السيارات السياحية الفارهة أو على منفسحات مخملية وراء المقعد الخلفي وهي ترمق، عبر الزجاج، منتظري باصات النقل الداخلي التعساء، من طرازنا، هازّةً رؤوسها بسخرية.
أضف إلى الصورة تلك الرائحة التي كانت تفوح منه، رائحة عطرية تُحيلك مباشرةً إلى نقيضها، فتذكِّرك بالروائح العجيبة التي تنفثها أجسادُ الأولاد صيفاً إثر عودتهم من العفرتة في الحارة لاهثين، وقد امتزج الغبار بعرقهم راسماً على وجوههم لوحات تجريدية وخرائط طبغرافية.
فالشروط التي أُحيطَ بها كلبنا الأبيض المعطَّر لم تكن حيوانية تماماً، بل كانت من النوع الذي يثير فيك مختلف الأفكار والانفعالات: الشعور الحادّ بالغيرة أو الحسد أو الاضطهاد العرقي أو الحقد الطبقي وسحب البساط من تحت قدميك دون أن تقوى على الإتيان بحركة سوى السقوط في هوّة عجز، من نوعٍ ما، وأنت مهزوز البدن مرتبك الشخصية معكَّر المزاج.
كان نهار البارحة تحديداً يفوق سائر الأيام السابقة بشدّة حرارته وافتقاده إلى بعض نسمات تُخفِّف من حدّة سعاره، وكنتُ، بعد انصرافي من العمل، أنحشر تحت واقية موقف الباص مع قبيلة من منتظري النقل الداخلي بوجوه سخَّمتها الكآبة وكأنهم في مجلس عزاء. وكغيري كنتُ أتلهّى بمراقبة أيِّ شيءٍ يتحرك أو لا يتحرك أمامي وحولي. وأمثالي أدرى بمثل لحظات الانتظار تلك وكيف تضطرنا أحياناً إلى ابتكار طرائق نمزِّق بها الوقت، ولاسيما حين يتعاظم اليأس فينا ونحن نقترب بشعورنا من حالة شبه مؤكدة بأننا ننتظر ما لن يأتي، فلا يبقى أمامنا سوى محاولة الهرب من تلك الحالة بالقفز فوق المعاش الحسّي، أو تهميشه، أو تحييده، بإيهام أنفسنا بأننا لا نتآكل من الداخل، أو يسعى واحدنا على الأقل، من خلال ذلك، إلى افتراض غاية أخرى للانتظار تناقض واقع الحال. ولا شك في أن العرق الذي جعل ملابس المنتظرين تلتصق بأجسادهم كان يدفعهم، ويدفعني، إلى التمادي في ابتكار تلك الطرائق.
كنت منشغلاً بتأمُّل شيءٍ ما، لم أعد أذكره، حين توقفت أمامنا سيارة سياحية سوداء ذات شكل خرافي، وانفتح الباب الخلفي المواجه لنا، فإذا بأنثى يصعب وصفها، تجلس بوضعية يتعذّر استيعابها، وراحت تتأملنا وشفتاها تحتضنان سيجارة. ولثوانٍ قفزت إلى مخيلتي صورة متعهد بناء يستعرض عمالاً مياومين يتجمعون على أحد الأرصفة، لكننا لم نتراكض نحوها لتنتقي أقوانا بُنيةً.
وما أدهشني، وأدهش أفراد القبيلة المنتظرة ربما، أن الحسناء المستفزّة كانت تتأمل، أنصافنا السفلية كما هُيئ لي، وهو ما دفعني، ودفع الآخرين، كما خمّنت، إلى اقتراف كلٍّ منهم، بطريقته، سيناريو لمشهد تخيّليّ ذي حميميّة أكثر ملائمة لذلك الاكتشاف.
ودهم الحلم اليقظ أفراد قبيلتنا، ورحنا نلتهم تفاصيله، وتلخصت كل طرائق اكتواء الأعصاب في نظراتنا التي كان مستحيلاً إبعادُها عن المشهد العدواني الغاشم المحرِّض المستنفر حتى لو اصطفت قبالتنا جميع باصات الدنيا مرحِّبةً بنا. ونسيت، كالآخرين، أو تناسيت سبب وقوفي على الرصيف الملتهب، وكالآخرين تضخَّم في داخلي شعور فادح بالإحباط، وكالآخرين ربما، تيبستُ في الساعة اليائسة، ورحت أتساقط.
فجأة أحسستُ بحرارة غير عادية تلفح قدمي اليسرى داخل فردة الحذاء. نظرتُ إلى أسفل لأُفاجأ بسائل يزرب من مقدمة الحذاء منسفحاً على بلاط الرصيف. صُعقت.. هل فعلتُها دون إرادة مني؟ وعلى الفور استعرضت الوجوه بعينين مستطلعتين، فحمدتُ الله لكونها محنَّطَة بتواطؤ عفوي وعيونها مسمَّرة على حسناء السيارة في جلستها الأسطورية.
نظرت ثانيةً إلى قدمي ووساوس مرضية بدأت تعبث بي، معقول؟ لم أبلغ بعد العمر الذي يحدث فيه مثل هذا الانفلات اللاإرادي، صحيح أن ثمة هموماً تتسابق إلى امتطائي منذ الصباح حتى آخر الليل، لكنها، في رأيي، ليست كافية لتحول بيني وبين سلطتي على الحاجات الفيزيولوجية. ثم قد أفقد سيطرتي على أعصابي، لوقت محدود، فتنفلت آلية تصرفاتي من رقابة العقل، كما يحدث أحياناً حين يرتكب أحد أولادي حماقة سمجة، فأُدير ظهري لقناعاتي التربوية التي أؤمن بها، وأشلفه بما تقع عليه يدي، سواءٌ أكان إبريق شاي أم صحن بلاستيك أم منفضة سجائر، لكنْ أن يتمرَّد عليّ جسدي وأنا في كامل وعيي، وفي عزّ الظهيرة وعلى الرصيف، فهذا يعني أنَّ ثمة منعطفاً خطيراً لم يكن متوقَّعاً قد حدث.
وثالثةً نظرتُ إلى أسفل متهيئاً للابتعاد عن بقعة السائل للتخلص من دليل إدانتي، فإذا بكتلة بيضاء من القطن تحوم حول قدمي اليسرى. وما كان يُدريني أن الكتلة محشوَّة كلباً؟ وأن الكلب مربوطٌ بسلسلة فضّية دقيقة، وأنَّ طرف السلسلة ينتهي بين أنامل كفّ ناعمة، وأنَّ الكفَّ الناعمة هي للحسناء الجالسة في السيارة مضطهِدةً الحشد المشدوه المبحلق ببله؟ وبأقل من ثانية اتضحت الصورة كاملةً. توقفت السيارة بناءً على رغبة حضرة جناب الكلب، وحين انفتح الباب كانت عيوننا، القبيلة المنتظرة وأنا، مشغولة بالحدث الأهمّ، فلم ينتبه إليه أحدنا وهو يقفز من السيارة باحثاً عن مكان يليق بفعلته، وما وجد سوى فردة حذائي، في حين جلست صاحبته تتأمله بوجه حيادي وهو يرفع إحدى قائمتيه الخلفيتين منفِّساً عن كربته.
فما كان مني، وبلمح البصر، إلّا أن استجمعتُ غيظَ الماضي والحاضر والمستقبل، وبخبرتي المكتَسَبة من مشاهدة مباريات كرة القدم، ركلتُ الكرة الكلبية بكل ما أوتيتُ من قوة، فانقذفت إلى أعلى بمسار نصف دائري، وانخبطت وهي تعوي بالمقلوب في حضن الحسناء التي لم تكن آنذاك حارسَ مرمى مبتهجاً بإنقاذ مرماه.
حدث ما حدث منذ إحساسي بحرارة السائل في حذائي وحتى انخباط الكلب في حضن صاحبته في ثوانٍ قليلة، كما لو كان الأمر كابوساً لا قدرة لي على الانفلات من تفاصيله. والذي حدث بعد ذلك أن الوقائع تسلسلت بالشكل الكابوسي نفسه، إذ إنني سمعت زعيقاً أنثوياً حادّاً التقطتُ بعض مفردات منه (همجي، بربري، متوحش، شرطة..)، وفي الوقت نفسه كانت هناك قبضات تتشبث بي مانعةً إياي من الحركة والتفكير، وأنحاء مختلفة من جسدي تتلقى لكمات موجعة من أفراد القبيلة التي لا تحرّكها النخوة والشهامة والمروءة والحمية إلا في مثل هذه الحالات، ولاسيما إذا كان مطلق نداء الاستغاثة أنثى، وليست أية أنثى.
وتضخَّم إحساسي بكون ما يجري أكثر من كابوس مرعب، وغامت في عينيَّ المرئيات، والتهم ضبابٌ كثيفٌ كلَّ مَن وما حولي، واختلطت في رأسي المجريات، وتهتُ في ضجة صاخبة وأمواج جسدية تتجاذبني.
بعد فترة، لا قيمة زمنية لها ولها أكثر من قيمة، وجدتُ نفسي، أقف مواجهاً ضابط شرطة يجلس خلف طاولة، وإلى جواره شرطي دون رتبة منكبٌّ على سجل مفتوح. وبدا لي المشهد وكأن عتمة تلفُّه، فلم أميِّز في البدء سواهما والطاولة ضمن بؤرة الرؤية، واكتشفت أنني في مخفر. وشيئاً فشيئاً أنعشتني رطوبة المكان، ومنحني الهدوء واختفاء القبضات شيئاً من التماسك والقدرة على التفكير واستيعاء اللحظة الحاضرة.
– لماذا رفستَ الكلب يا سيد؟.
حين التفتُ إلى يميني دون مناسبة، رأيتُ حسناء السيارة جالسةً تلفّ ساقاً حول أخرى تدخِّن، وإلى جانبها كان ثمة رجل مهيب مهندم يجلس مستعرضاً طولي من أسفل إلى أعلى، ومن أعلى إلى أسفل هازّاً رأسه، عرفت فيما بعد أنه محامي عائلة الحسناء، وأقعى الكلب بينهما، على كرسي ثالث، صامتاً محدِّقاً بي بشراسة.
أعاد طرح سؤاله مرة أخرى وهو ينقِّل عينيه بيني وبين الحسناء، في حين كان الشرطي قد سها تماماً عن السجل، وراح ينهشها بنظراته فاغراً فمه. فطرق الضابط سطح الطاولة منبهاً إياه، فاعتدل هذا في جلسته، وتنفس بعمق، متهيئاً للكتابة. ونظر الضابط إليّ:
– لماذا؟
قبل أن أفتح فمي لأجيب، أسرعت صاحبة الكلب تقول له:
– إنه ليس ككلاب الشوارع الضالّة يا حضرة، انظرْ إليه، تأمَّلْه جيداً، هل يبدو معتاداً على أن يُرفَس بمثل تلك الوحشية؟ لقد أشرف على تربيته مختصّ بالإيثولوجيا…
قاطعها الضابط:
– عفواً.. مختصّ بماذا؟
– بالإيثولوجيا.. علم سلوك الحيوان.
– آ؟ نعم.. نعم.. تفضّلي أكملي.
توقف الشرطي عن الكتابة، وحكّ رأسه ناظراً إلى الضابط بعينين مستفسرتين:
– هل أكتب هذه الـــ..؟
– لا.. انتظر. لا تكتب شيئاً.
وهنا تنفس الشرطي بارتياح، واستدار بكرسيه مواجهاً الحسناء، وراح يحملق بها بعينين لا يرفّ لهما جفن، وهو يبلع ريقه.
وقال الضابط:
– نعم سيدتي.. أكملي.
– ماذا كنت أقول؟
بادر الشرطي إلى تذكيرها:
-مختص بالجيولوجيا.
قالت:
جيولوجيا؟ إيثولوجيا.. نعم، وهناك طبيب خاص بـــ(فوفي) يشرف على صحته الفيزيولوجية والسيكولوجية.
تساءل الضابط:
– فوفي؟ آ.. نعم.. أكملي.
-وقد أنفق (بابي) وينفق أموالاً طائلة على رعايته وتأمين حاجاته.
-حاجات.. الكلب.
-طبعاً. ألم أقل لك إنه ليس كغيره من الكلاب؟
وكان الكلب ابن الكلب، خلال ذلك، يحدّق بي بحقد وكأنني مَن بال عليه وعلى الذين خلّفوه. في حين استمرّت الحسناء تلقي محاضرتها:
-ثم يأتي هذا الأفندي ليرفسه، هكذا وبكل بساطة مهيناً إيّاه في الشارع وأمام حشد من الناس؟ ألم يسمع بمنظمات الرفق بالحيوان المنتشرة في جميع أنحاء العالم؟.
والتفتت نحوي:
-أليس لديك أولاد؟
قلت:
-بلا.. لديّ أربعة كلاب.. أقصد أربعة أولاد.
– ألا تعلّمهم كيفية التعامل مع الحيوانات الأليفة؟.
– في الحقيقة لا وقت لديّ إلا لتعليمهم كيفية التعامل مع البشر. وبالمناسبة ألم يعلِّم هؤلاء المختصون كلبَك المحترم ألا يبول على أقدام الناس؟.
وبدا الضابط كما لو أنه بدأ يضيق ذرعاً بما يسمع، قال:
-عفواً.. سيدتي.. دعي الكلب جانباً، ترى هل أساء إليك شخصياً بفعل أو قول.
– وهل يجرؤ؟
– حسناً.. ما المطلوب مني الآن؟
-معاقبة الأفندي؟
-لأنه رفس الكلب؟ اسمعي سيدتي، ليس من مسؤولياتي القبض على شخص رفس كلباً، بل قد أستطيع محاسبة شخص في حال تسبب كلب له بإيذاء الآخرين.
وشرحت للضابط باختصار تفاصيل ما حدث. في حين قالت الحسناء بحزم:
– فليكن في معلوم الأفندي أنه لا يعرف من أكون، وسألجأ إلى وسائلي الخاصة لئلا أترك حق (فوفي) يضيع هدراً.
فقلت لنفسي مادام الأمر وصل إلى عبارة “لا تعرف من أكون” راحت عليك يا ولد، وأكلت…..، وقفزت على الفور إلى ذهني قصيدة أحمد فؤاد نجم ( كلب الست)”.
تدخل الضابط:
– لا.. لا.. سيدتي.
ونهض، جرّ كرسياً وجلس قبالتها، تأملها للحظة، بلع ريقه، ومال بجذعه نحوها وهو يقرأ تفاصيل وجهها بإمعان، تنحنح، وقال بصوت شبه مبحوح:
– سيدتي الكريمة، لو كان لدينا قانون للعقوبات يتعلق باعتداء مواطن على كلب لما ترددت في اتخاذ الإجراءات المناسبة في حق الأخ، وبما أن الأخ لم يسئ إلى شخصك مباشرة أرى أن تحلّوا المشكلة ودّياً، ويمضي كل في سبيله، و”يا دار ما دخلك شر”، ويكفي ما تعرّض له على أيدي المارة من ضرب وإهانة. فالموضوع في غنى عن التضخيم واللجوء إلى ما من شأنه الإساءة إلى حضرتك.
مال الرجل المهندم بجذعه نحو الحسناء، ودارت بينهما وشوشة لثوان، في حين رفع الكلب رأسه نحوهما مصغياً إليهما، ثم أبدت موافقتها على اقتراحه شرط أن أعتذر. فقلت في نفسي “جاءك الفرج، فالمهم أن تنتهي هذه المهزلة”، وغمز الضابط لي بعينه حاثاً إياي، فتقدمت منها، وأبديت اعتذاري بكثير من اللباقة. قالت: “لا.. اعتذر إليه”، وأشارت إلى الكلب الذي استمر في النظر إليّ.
قلت بدهشة واستنكار وأنا أنظر إلى الضابط الذي حاول إخفاء ابتسامته براحة كفه:
– ماذا؟
– نعم.. عليك أن تعتذر إلى (فوفي) وليس إليّ.
– فوفي؟
– فهو المعتدى عليه ولست أنا، ثم لا تستغرب، إنه سيقبل اعتذارك.
واقتربت بشفتيها من أذنه ووشوشته، فحدق بي لثوان وهو يهمهم وعيناه تقدح شرراً، ثم أدار رأسه إلى الجهة الأخرى وكأنه يرفض اقتراحها، فعادت لتوشوشه مرة أخرى، ورفض ثانيةً، وفي المرة الثالثة رفع رأسه نحوي وغمغم، ومدّ قائمته الأمامية اليمنى.
نظرت إلى الضابط فأومأ برأسه نحو الكلب مبتسماً. وبدافع الفضول، وكي أرى ردة فعل (فوفي) أفندي، تقدمت منه، انحنيت قليلاً، وأمسكت بالقائمة الممدودة وهززتها برفق قائلاً:
– أعتذر إليك (فوفي) بيك.
فهزّ رأسه بضع هزّات خفيفة. قالت:
– لقد قبل اعتذارك.
قال الضابط مبتسماً:
– وما يدرينا أنه قبل الاعتذار؟
ووسط دهشتنا، الضابط والشرطي وأنا، سألت الحسناء الكلب بالإنكليزية إن كان قد قبل اعتذاري، فأسرع الأخير إلى التلفظ بكلمة (يا) واضحة.
وعند انصراف الرجل الأنيق والحسناء، والكلب بين ذراعيها، توقفت الأخيرة عند الباب، استدارت نحونا، وشوشت الكلب، فرفع قائمته الأمامية اليمنى، هزّها، وسمعناه ينطق بوضوح عجيب عبارة (إلى اللقاء) بالإنكليزية، وخرج ثلاثتهم تاركين ثلاثتنا نتبادل النظرات بصمت.
وقررت، بيني وبين نفسي، أن آخذ حذري مستقبلاً من أية سيارة سياحية فارهة تتوقف قبالتي وأنا أنتظر الباص، ومن أية حسناء تمر بالقرب مني وهي تصحب كلباً أبيض معطراً.

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *