خاص- ثقافات
*عبدالجبار الرفاعي
مع غروب كل مفكر مضيء ينطفيء شيءٌ من نور هذا العالَم، ويتبدد شيءٌ من معنى الحياة فيه… رحل صباح اليوم الخميس 22-3-2018 عن عالَمنا في مستشفى فيروزكر بطهران المفكر الايراني داريوش شايغان، بعمر83 عاماً.
رحم الله شايغان الذي كان أحد أبرز مفكري الشرق العقلانيين الروحانيين. فقد كان ينفرد بعقله الذي يفكر بحرية خارج أسوار الأديان، على الرغم من شغفه الروحي بخبراتها الروحية، وتموضعه في تجاربها الايمانية.
في 24 كانون الثاني 1935 ولد داريوش شايغان في طهران، من أب تاجر آذربيجاني “تركي إيراني” شيعي، وأمّ سنية، تنحدر من سلالة أمراء وسلاطين جورجيين، ثقافتها روسية قفقاسية.
شايغان من الباحثين والأكاديميين القلائل الذين درسوا التيارات الفلسفية والفكرية الغربية، بموازاة دراسة الأديان والثقافات الآسيوية. كذلك اهتمّ بالميراث الفلسفي والعرفاني الإسلامي، من خلال تتلمذه الشفاهي على “آخر حكماء الموروث الإيرانيين” ، وهم: “محمد حسين الطباطبائي، السيد جلال الدين آشتياني، أبو الحسن رفيعي قزويني، مهدي إلهي قمشهاي”. فقد واظب على حضور حلقاتهم النقاشية ومجالسهم الخاصة، وارتبط بعلاقة وثيقة معهم. كما تميز شايغان بتكوين لغوي متنوع، فهو يجيد اللغات: الفرنسية، والانجليزية، والألمانية، ومُلمّ: باللاتينية، والسنسكريتية، والعربية، والتركية.
يؤكد شايغان على أن جوهر الأديان تلتقي فيه كافة الروافد والتعبيرات المعنوية، فإذا جمعنا بين “اكهارت” و”ابن عربي” و”شانكارا” وأضرابهم، فسيسود بينهم تفاهم وحوار بنّاء، ولكن إذا هبطنا درجة عن مستوى هؤلاء فسيواجهنا النزاع والمماحكات بشتى صورها، نزاع بين الكاثوليك والبروتستانت، وبين الشيعة والسنة، وبين أتباع مختلف الديانات والمذاهب الأخرى.
شايغان باحث ومفكر موسوعي، يطور ثقافته أفقياً وعمودياً باستمرار، ويعمل على تحديث أفكاره، بمواكبة ما هو جديد من معطيات معرفية، وإبداعات أدبية وفنية، وتجارب معنوية. لم أطلع على باحث من جيل شايغان في إيران يمتلك جسارته وشجاعته العقلية، فهو لا يخجل من المراجعة النقدية لرؤيته، ويحرص على غربلة آرائه. يقول بصراحة: “كنت على الدوام في تغيير متواصل”. ويكتب في محل آخر: “أنا على الدوام في تحول فكري لا يتوقف. وإن كان مواطنونا في إيران من الصعب أن يغيروا فكرهم، لذلك مازلنا نقرأ حافظ الشيرازي وجلال الدين الرومي ومفكرينا قبل مئات السنين. ومن العجيب أن أعظم مفكرينا هم شعراؤنا، وأحدثهم حافظ الذي عاش قبل سبعمائة عام. ينبغي أن لا يساء فهمي، فأنا لا أحطّ من شأن هؤلاء العظماء”. “لجلال الدين الرومي وحافظ الشيرازي عالم مختلف عن عالمنا اليوم. بيئة ذلك العالم مختلفة تماماً. حينما نلاحظ القانون وحقوق الإنسان، نجد عالماً مختلفاً تماماً. ينبغي أن نتسلح بآليات متنوعة لمعرفة هذه العوالم المختلفة. لا يوجد مفتاح سحري واحد لكل العوالم. عندما نريد دراسة هذه العوالم لابد من وضعها في مراتب مختلفة. لا يصح خلطها. إنها عوالم متنوعة التعرف عليها بمثابة السفر من مرحلة لأخرى. في بعض الأحيان هناك قطيعة بينها”.
تميز شايغان بنمط تكوينه المتنوع في الأديان الآسيوية والتصوف والعرفان والحداثة وما بعد الحداثة، وبإتقانه لعدة لغات شرقية وغربية، وصياغته لأفكاره ببيان مكثف، ولغة بالغة الثراء والحيوية، ومهارته في نحت مصطلحات موحية شديدة الحساسية، ورؤياه المضيئة، وتأملاته العميقة الفسيحة لماضي وحاضر مجتمعاتنا ومصائرها، ومقدرته الفذة على الإصغاء لإيقاع الحياة ومتطلباتها المتغيرة، ومواكبته للمكاسب الراهنة للمعرفة البشرية، وتحرر عقله من الديماغوجيات الأيديولوجية، وتوهج وعيه وبراعته في عبور سجون المعتقدات.
تحركت المسيرة الفكرية لشايغان عبر ثلاث مراحل، طبعت كل مرحلة فيها رؤية خاصة حيال التراث والحداثة، وآسيا والغرب، والماضي والحاضر، والتخلف والتنمية، والهوية والثقافة، والدين والمعنوية، ودين العرفان ودين الشريعة، والآيديولوجيا والتراث، والحوزة ورجال الدين، والعقل والأسطورة، والانحطاط الثقافي، وغروب الآلهة وموت الأساطير، وانهيار النزعة المعنوية، والعدمية، والشيزوفرينيا الثقافية …الخ.
لا يكف شايغان عن مواكبة المكاسب الجديدة في المعرفة البشرية، كما أنه يمتلك جرأة فائقة في تحديث مرجعياته، وتجديد أدواته النقدية، والعودة إلى عقله، وتمحيص أفكاره، وغربلة آرائه باستمرار. وعندما يكتشف تهافت أفكاره، سرعان ما يقلع عنها، ولا يتردد في الإعلان عن رؤيته البديلة، المغايرة لرؤيته في مرحلة سالفة، بل نجده أحياناً يعترف في أنه وقع ضحية خدعة فيما مضى. وهذا خُلق ثقافي لا نعثر عليه إلا ناًدرا في ديارنا، المسكون فيها المثقف بتنزيه الذات، والتمسك الأبدي بذاكرته، وهويته النقية الخلاصية الساكنة، بغض النظر عن مضمونها، وقدرتها على الوفاء بمتطلبات عصر لا تنتمي إليه ولا ينتمي لها.
يعترف شايغان في كتابه “ما الثورة الدينية: الحضارات التقليدية في مواجهة الحداثة”، الصادر عام 1982، أي بعد مضي سنتين على مغادرته لوطنه، بخطئه في انتمائه إلى “الغينونيين الإيرانيين الإسلاميين”، قائلاً: “لقد انتمينا إلى هذه المجموعة، كما انتمينا إلى مجموعة الهيدغريين الإيرانيين الإسلاميين، وانخدعنا مثلهم بحنين الماضي الجذاب. ولكن إطلاعنا الدؤوب على تحولات الفكر الغربي، أبعدنا عن هذه المجموعة، وجعلنا ندرك يقينا أن خمسة قرون من العلمنة لم تكن من دون فائدة للبشرية. في المرحلة الأولى كنت أنوح أيضاً. نعم! لأني كنت أخشى أن تنهار حضارتنا. أعترف في بعض الأحيان لدي تقييمات نابعة من حس الحنين”.
لا يمنح شايغان الباحثين المهتمين بفكره هامشاً مناسباً لنقده، لأنّه يبادر لنقد ذاته، ويهتم بتحديث رؤيته وتجديد مفاهيمه، ولا يكف عن عبور المحطات في مسيرته الفكرية، تبعاً لمواكبته الجادة لرهانات الفكر والواقع. فهو يعلن أكثر من مرة، بصراحة أنه على الدوام : “في حالة سير وسلوك ومراقبة، أنا ما زلت في حالة السير والسلوك في الرؤى الكونية المختلفة، ذلك أني أعرف أن عالمنا ما زال في طور الصيرورة ولم يكتمل بعد”.
ينحاز شايغان لقيم الأنوار، ويعتبر منجزات عصر الأنوار منجزات لكل الإنسانية. ويدعو الشرق لتقبل مرتكزات الأنوار الرئيسة. كذلك يأمل أن يعيد الغرب لإقليم الروح الضائع قيمته ومكانته. فالأديان التاريخية ليس لديها من جديد تدلي به على صعيد النظم الاجتماعية والسياسية والحقوقية. كما يرفض القول بنسبية القيم الثقافية، وبأن كل الثقافات متساوية، ولا يوافق طروحات دعاة التعددية الثقافية الغلاة المتطرفين، التي تتجاهل التمييز ضد المرأة، ورفض الحقوق والحريات، لأنها طروحات جوفاء عديمة القيمة في الغالب. لكنه يعتقد بتعدد مستويات الوعي “من أقدم وأسذج المستويات حتى أحدثها”، فهذه الإدراكات ليست في مستوى واحد، ولا هي ذات وجود متساو، وهذا لا يعني أن بعضها أفضل من بعض. وإنما فقط أن كل واحد من هذه المستويات صحيح قويم داخل أرضية خاصة، وثمة بين هذه الأرضيات شروخ وفواصل تاريخية وفصامات معرفية”.
وقد نشر مركز دراسات فلسفة الدين ببغداد مع دار التنوير ببيروت كتاب شايعان: “هوية بأربعين وجهاً” قبل عامين، بترجمة: حيدر نجف. كما بادرت مجلة قضايا اسلامية معاصرة قبل ذلك بتعريفه للقراء العرب، عبر نشر حوار موسع معه حول التعددية الدينية والثقافية، ومجموعة دراسات متنوعة نُشرت في محاور المجلة المختلفة.
—