التاريخ الأوربي في العصر الوسيط “قراءة جديدة”

خاص- ثقافات
إسراء المنسي – كاتبة وأكاديمية من مصر*

التاريخ كله جدير بالدراسة، لكن العصر الوسيط يُثري قدرتنا على استشراف المستقبل، فالكثير من جوانب الحضارة الغربية الآن ليس سوى نتاج تجربة العصور الوسطى الأوربية التي امتدت من القرن الرابع حتى القرن السادس عشر الميلادي وشارك في صنعها مَنْ يحكمون، ومَنْ يصلون، ومَنْ يخدمون. حقًا لقد كانت التجربة مريرة؛ فالمال يتحكم في كل شيء، والرشوة متفشية، والعدالة والتقوى تباع وتشترى، والتجار يمتصون دماء الناس في جشع ونهم، والناس مغلوب على أمرهم، يعيشون في بؤس وشقاء مريرين، والفساد يستشرى في الجهاز الكنسي، والبابوية تركت الأمور الدينية وراحت تبحث عن النصر في الشئون العلمانية. لكن تلك الصورة القاتمة في هذه العصور المظلمة لم تخل من مدنية خاصة بها لها صفاتها ومقوماتها ومميزاتها مما ساعد على التمهيد لعصر النهضة الأوربية.

تقدم صفحات الكتاب (الصادر عن دار التعليم الجامعي – الإسكندرية 2018) قراءة لواقع الصراع الذي حدث بين تلك الأطراف في عالم العصور الوسطى؛ بين الذين يحكمون (الملوك والنبلاء والفرسان) والذين يصلون (رجال الدين)، بينما كان حظ الطرف الثالث المشاركة في الحرب المقدسة، تلك الحرب التي مثلت للمعدمين أملاً في التخلص من أوضاعهم المزرية، وحلمًا في تغيير معاناتهم في مجتمع قام على الإقطاع ووصل إلى حد العبودية (رقيق الأرض)، فاستجابوا للذين يصلون تمثلهم البابوية صاحبة تلك الدعوة الصليبية، ولم ينتظروا أن يقودهم الذين يحكمون، وساروا باتجاه الشرق ليلاقوا مصيرًا مزريًا.

حيث ركزت الدراسة على المجتمع الأوربي في ظل النظام الإقطاعي الذي مثل نمطًا اجتماعيًا واقتصاديًا أفاد الصفوة في الغرب، ولعل الكنيسة أفادت هي الأخرى من ذلك النظام، بينما لحق الغالبية العامة الضرر والمهانة والعبودية. وكانت الأرض هي الأساس في المجتمع الاقطاعي، وتعطي صاحبها الحق في التمتع بالسلطة والحكم بغض النظر عن مساحة هذه الأرض، التي على أساسها انقسمت المجتمعات أفقيًا إلى طبقاتها المعروفة في العصور الوسطى، لكل منها مكانها ومميزاتها وحقوقها وواجباتها في السلم الاقطاعي تبعًا لما ترتبط به من سعة الإقطاع. فكان هناك السادة كبار مُلاك الأرض من رجال الدنيا والدين على السواء في الطبقات العُليا، والفلاحين والأقنان ورقيق الأرض في الطبقات السفلى.

أما الكنيسة في المجتمع الغربي الوسيط، فقد هيمنت على مصالح الناس ومُقدراتهم، وعلى حياتهم الخاصة والعامة، حتى أن الخروج على أوامرها ونواهيها وتعاليمها كان يعتبر هرطقة يستحق صاحبها أشد أنواع العقاب، وما أكثر أسلحة الكنيسة التي كانت تستخدمها ضد معارضيها، من حرمان ونقمة ولعنة. وكان معظم الأساقفة ورجال الدين، ذوي المراتب العليا، من النبلاء الذين كرَّسوا حياتهم للكنيسة، وحكموا إقطاعات كبيرة، وعاشوا كما كان يعيش النبلاء الآخرون تمامًا، بل كان بعضهم في مستوى ثراء وسلطة أكبر، فدب الفساد في الجهاز الكنسي، وانتشرت فيه الأمراض مثل السيمونية وزواج رجال الدين والتقليد العلماني. وقد شعر المخلصون للكنيسة بهذه المشاكل وطالبوا بالإصلاح الكنسي لإنقاذ الكنيسة بعد أن غرقت في الدنيويات.

وقد عرضت الدراسة على نحو خاص؛ الملكية الألمانية في العصور الوسطى، فقد برز على أرضها إدارة حاكمة خاضت صراعًا طويلاً في مواجهة البابوية، التي تركت السلطة الدينية وراحت ترنو ببصرها إلى السلطة الدنيوية، في محاولة هدفها هدم الأباطرة وإذلال الملوك، ودخل الاثنان، البابا والإمبراطور، في دوامة عنيفة يتنازعان فيها السلطة، وكان العامة هم ميدان الصراع والضحية، تارة يجذبهم رجال الحكم والسياسة، وتارة يخضعهم رجال الدين واللاهوت، وهم في حيرة من أمرهم. وحول هذا الكفاح بين الكنيسة والدولة نشأت كثير من النظريات السياسية التي قام بترويجها أصحاب المصالح من مناصري الكنيسة لتدعيم سلطانها ونفوذها على أساس ديني وقانوني، وكلها تنادي بتفوق البابوية على الإمبراطورية، والغريب أن مثل هذه النظريات كانت عند الباباوات بمثابة عقيدة متأصلة في أعماق أذهانهم، وسندًا لهم في تحقيق مصالحهم وأطماعهم المتمثلة في رفع سلطانهم الروحي على الإمبراطورية وغيرها من القوى الزمنية الأخرى في العالم الوسيط.

تلك كانت الحالة التي عليها أوربا في العصر الوسيط، قدم الباحثان الدكتور أشرف صالح (جامعة ابن رشد)، والدكتور عمرو منير (جامعة جنوب الوادي) قراءة لها في التاريخ والحضارة عبر خمسة مباحث تناولت التاريخ الوسيط: المفهوم والبداية، والمجتمع الأوربي في عصر الإقطاع، والملكية الألمانية في العصر الوسيط، والإمبراطورية الرومانية المقدسة: الارتقاء والانحلال، والبابوية بين الدولة والكنيسة.

 

شاهد أيضاً

أول رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي

(ثقافات) أوَّل رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي: أركيولوجيا الصورة في رحلة ابن بطوطة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *