عرين الأديب والناقد الدكتور جمال الدين الخضيري

خاص- ثقافات

حاوره : ميمون حِرش

    الدكتور جمال الدين الخضيري كاتب مغربي موهوب، موهوب، يصعب تحديد المجال الأدبي الذي يثقل فيه ميزانه؛يحرص، عن وعي تام، أن تكون كفة الميزان لديه متساوية تماماً بين اهتمامه الصارخ بالنقد، والقصة ،و القصة القصير ة جداً، والمسرح، وإن سجلنا ميل الرجل لأبي الفنون من حيث الظاهر، لكن في الباطن رضاه الأبوي عن كل فن من فنون الأدب التي يتألق فيها..
للدكتور جمال كاريزما خاصة، إذا تحدث، ولا يكون ذلك سوى بلغة قوية، وصوت جهوري كما المشارقة  الأفذاذ تماماً ، يفرض هيبة تجعل المُستمع يحملق في عينيه الحادتين  المتسربلتين في نظارة طبية، ويصيخ السمع، وفي النفس صرخة مكتومة :”إنه ساحر” !..
إنه ساحر فعلا  حين يقول، وحين يكتب، وحين ينقد، وسحره ينداح دوائرَ  في ربوع الريف/ الناظور التي تفخر برجل بارّ مثله..
له من الإصدارات :
“سوق المضاجع”،و”فقاقيع”،و” وثابة كالبراغيث”،و”حدثني الأخرس بن صمام”، عدا طبعاً كتاباته التي تلقى  القبول، والتتويج في المغرب وخارجه..

يشرف “العرين” أن نستضيف كاتباً متميزاً مثله، أهلا بك دكتور جمال في ” العرين”..

س-   حرصتُ أن أقدمك  بحب و كما أعرفك، ماذا تضيف أنت لمُحبيك؟     

ج-   بداية، دعني عزيزي السي ميمون أشكرك على هذا البذخ في التقديم، وهذا التنميق للبورتريه الخاص بي، ولا أخفيك أن كل من يدخل عرين محاور مفوّه لبق، وقاص مكين حذق بحجم ميمون حرش تأسره صولة السؤال، وحيرة الجواب، وسحر الحديث المنساب على شتى التخوم. واعذرني عزيزي عن هذا التأخير السرمدي الذي طوّح بي بعيداً عن التفاعل مع وشائج أسئلتك في وقتها المناسب. لا تعذلني،  فعذل الأحبة حتى وإن كنا لا نسمعه  ما هو في حقيقة الأمر إلا  دعوة كريمة وفتح لباب ودّ لا نقرعه. تقديمك وارف، وما سأضيفه لا ريب أنه  سينبجس من ذُرى أسئلتك و ثاوٍ في هذا الحوار الشائق.

س-  عموماً لك في الإبداع اليد الطولى، والقِدح المعلى سواء في المسرح،أو النقد، أو القصة القصيرة، أو القصة القصيرة جداً.. أين تجد نفسك أكثر ؟

ج-  الإبداع حالة إشراق لا يستأذن صاحبه، ولا يحدد سلفاً إطار  ظهوره أو شكل تمدده، فالنوع الأدبي مرتبط بنبض الكاتب وبسياقات معينة،  فدفقة المبدع  هي التي تحدد المسار الذي ستتخذه. مثل جدول مُنْساح في كل منبسط قد يطول أو يقصر  حسب ما يصادفه حتى يصل إلى مستقره، ولكل مؤثّر استجابة معينة. فما هو درامي ويقتضي تقاطع الأصوات وحواريتها يزج بك في أتون المسرح من غير أن تشعر، كما أن البوح السردي له ألقه وله دواعيه سواء طال أم قصر، فالإغراق في الوصف والتأمل، وارتياد أفاق رحبة تنفلت من سلطة الواقع الحسي والنفاذ إلى أعماق الشخصية يكون القص أرضاً ومهاداً مفضلا، ولكن ليس وحيداً بطبيعة الحال. أما النقد فملاحقة بعدية وله ضوابطه، ويحتاج لآليات تتجدد باستمرار، لذا فهو يتطلب رويّة  وخطاطة ومنهجاً، ويرتبط في كثير من الأحيان بمناسبات وندوات ولقاءات تقتضي دراسات معينة، أو يكون منبثقاً من مؤسسات أكاديمية. والحقيقة أن القصة القصيرة جداً استهوتني بشكل كبير لما تتضمنه من تكثيف واختزال، وللنماذج الراقية المكتوبة باللغة الإسبانية والتي صادفتها في أدب أمريكا اللاتينية خاصة.

س- وماذا عن الشعر ؟ ألم تجرب خوض غماره ؟

ج- “الشعر صعب وطويل سلمه”. والشعر  الذي أميل إليه ويأسرني حقاً هو ذاك الخاضع للوزن باعتباره مكوناً أساسياً من مكوناته، أما الشعر الهجين، أو اللاشعر، الذي نصادف كثيراً منه في أكثر من موضع، والذي أصبح يتناسل كالفطر، والذي يمكن أن تجد فيه كل شيء إلا شذا الشعر، فقد أساء كثيراً إلى مشهدنا الثقافي. لذا أتهيب كثيراً من اقتراف ممارسته أو نظمه، وتعوزني في هذا الصدد كثير من الوسائل الداخلة في صناعته. لكن هذا لا يعني أنني قد لا أستحضر ما هو شعري في ما هو قصصي. لأنه قد تكون هناك نفحات شعرية في نص سردي ما والعكس صحيح في هذا المجال، ثم إنه يصعب الحديث في زمننا عن نقاء الجنس الأدبي، فكل جنس يشن غارات منتظمة على أجناس أخرى ويقتات من معارف مختلفة، سيما ما نجده بين القصة القصيرة جداً والقصيدة الومضة.

س- حين سُئل الجاحظ الفرق بين الحب والعشق قال : “العشق ما فضل من الحب..”
أرى بحكم صداقتنا أن المسرح هو عشقك وما تبقى هو الحب عندك .. هل أنا مصيبٌ في هذا الحكم ؟

ج-  بغض النظر عن تصنيفات الجاحظ أو ابن حزم أو غيرهما للحب والعشق، وهذه المدارج والمعارج الخاصة بمجموعة من الأجناس الأدبية والأشكال التعبيرية والمفاضلة بينها، فميلي للمسرح جاء عن طريق التخصص الأكاديمي، ومراكمة مجموعة من المعارف حول هذا الفن. فكما تعلم أن المسرح فن مركب ويحتضن مجموعة من الفنون اللصيقة به، وكان هذا منذ ظهوره عند اليونان ومازال. لكن الممتع فيه حقاً هو طابعه الفرجوي، والجماهيري، والتربوي، وأحياناً حتى التحريضي، فما أحوجنا إلى هذه الفرجات المتجددة، وإلى هذه اللقاءات المسرحية التي يلتقي فيها الناس بالناس. ودائماً أعتبر المسرح حاجة لا يمكن أن نستغني عنها. فصلتي به كانت تتحكم فيه هذه الأمور. كما أن تدريسي للمسرح في الجامعة وإشرافي على مجموعة من البحوث في هذا الميدان جعلتني أرتبط به أكثر من غيره على الأقل من هذا الجانب المهني. لكن يصعب علي أن أفاضل بينه وبين باقي الإبداعات والفنون الأخرى لاسيما من منظور نفسي عاطفي نستحضر فيه مصطلحات الحب، التي هي متغيرة ومخاتلة..

س – كتبك في القصة القصيرة جداً لافتة، لأن فيها من التميز،والجدة، والأصالة ما يحمل القارئ على قراءتها، ولعل  لحرصك على التجديد في الموضوعات يداً في هذا الألق .. ماهي نقط الاختلاف بين كتبك في القصة القصيرة جداً؟

ج- سعيت في مجاميعي القصصية أن أجدد في شكل الكتابة وقالبها القصصي أكثر من المضامين، فهاجس الأشكال التراثية يسكنني بقوة، وأعراف الحكي القديمة كما هي متداولة في التراث العربي تمارس علي غواية آسرة.  وأعتقد – دون جزم-  أن الاختلاف يكمن في تطوير شكل الكتابة من مجموعة لأخرى. ولا أخفيك أن الوعي بالشكل كان يحضرني أثناء الكتابة، ويحيد بي في بعض الأحيان عن سيرورة القصة وحدثها. فالجري وراء أساليب معينة، واستحضار نماذج من مخزون قراءاتي، كان يطوّح بنصوصي بعيداً، وربما يغرقها ببعض الأغلال.  والكلمة الفيصل في هذا الجانب هي التي ستأتي من المواكبة النقدية التي ترصد الجنس القصصي ببلادنا برؤى مختلفة وبموضوعية بعيدة عن ذاتية الكاتب ونرجسيتة.

س- شخصياً حين قرأت لك في القصة “وثابة كالبراغيث”، و” فقاقيع” استمتعتُ كثيراً، وحين ركنتُ لـِ ” سوق المضاجع” سحرتني، ولما عانقتُ ” حدثني الأخرس بن صمام” انبهرتُ تماماً، والله انبرهتُ؟..ولعل القارئ معي في هذا الحكم.. شموخ ” الأخرس” من أين أتيته؟

ج- يعج السرد العربي القديم بشخصيات مثيرة، توجه العمل السردي بشكل غريب، مازالت مثل هذه السرود القديمة لم تتلق حقها من الدراسة الشاملة بعد. ولعل شخصيات وأبطال فن المقامات، والسير الشعبية، والليالي، … كفيلة أن تُحتذى، أو يتمّ توظيفها بشكل من الأشكال، لكن بنوع من التحيين والتجديد تلائم العصر وقضاياه المصيرية، فالأخرس يحمل عبق الماضي، ويختزل حكمة الأجداد وحضارتهم التليدة، فهو  يمثل هذا الماضي في شكل الحكاية وارتباطها بالأسانيد، لكنه شاهد على مأساتنا الحالية وتردّينا المدوي. لذلك غالباً ما تبدأ  كل قصة ب”حدثني الأخرس بن صمام”، وواضح ما في هذا الاسم من وصف لواقعنا ولتجسيد لأبطالنا المفترضين الذين يسكنهم الخرس والصمم حتى مع ماضيهم وتاريخهم قبل مُجايِليهم ومعاصريهم. وحتى الشخصية المحاورة للأخرس في جل نصوص المجموعة والموسومة ب “ميت بن نعسان” ما هي إلا الوجه الآخر النقيض لشخصية “حي بن يقظان” التراثية. فلا يسعني إلا أن أقول إن نوع الحوار المستشري بيننا في وقتنا الحاضر  – لا سيما بين الحاكم والمحكوم-  أقرب إلى حوار سائد بين شخص أخرس وآخر ميت. ف”الأخرس” بكل بساطة ما هو إلا نوع من الامتداد والمثاقفة بين ماضينا  وحاضرنا الكسيح.

س– يَعْتبر الدكتور جميل حمداوي ” حدثني الأخرس بن صمام ” أفضل مجموعة في الوطن العربي” ..هذا الحكم وسام حقيقة ..  كيف استقبلتَ هذا التتويج؟ ثم ما الذي جعل الدكتور جميل يتوج “الأخرس “بهذا الشكل؟

ج-    لا بد من كلمة حق في صديقي وأخي الدكتور جميل حمداوي، فهو ظاهرة بكل ما تحمله الكلمة من معنى، جوّاب آفاق رحبة في مختلف صنوف المعرفة، وله مقاربات وفتوحات، والظاهر أنه لم يأخذ حقه من الرصد والدراسة والإنصاف، وما زال، وبانتظام آلي، وبإصرار قل نظيره،  يمتعنا كل مرة بمنجزاته النقدية. نظرته ثاقبة، ويتمتع برؤية استشرافية رزينة تقرأ راهن ومستقبل الفكر العربي. لذا، فإن ما يكتبه وما يتوصل إليه يحضى بتقدير  أغلب المتتبعين.  وفي هذا السياق فإني أثمن غاليا شهادته وإشادته بمجموعتي القصصية “حدثني الأخرس بن صمام” لأنها أتت من ناقد متخصص وصاحب مقاربة مؤسِّسة لجنس القصة القصيرة جداً. لكن في الوقت نفسه تحرجني بعض الإحراج، لأن إصدار حكم من قبيل (أحسن، أفضل، أول، …) على إطلاقيته ربما يغشي بعض الظلال والغبش على أعمال أخرى في الجنس الأدبي نفسه، أو قد يَجُبّ ما قبله، والتي من منظوري أعمال رائدة، وعميقة، وجبارة، ومازالت إلى حدود اللحظة ،وأصحابها عمالقة الأدب، فما أنا إلا مبتدئ، يتلمس طريقه في احتشام  وبُطْء غير راض تمام الرضا على كثير من الأعمال التي أنجزتها، سيما وأنه مدّد الرقعة لتشمل الوطن العربي. فيا له من تتويج !!   أحترم وجهة نظر الدكتور جميل حمداوي، أكيد أن لها مسوغاتها فهو  “له كما تبدو، ولي كما تبدو”، وأستعير هنا مقولة المتنبي مع فرق كبير في المقام والإنتاج والحِجاج، إذ كان  يقول عندما يُطلَب منه أن يبدي رأيا حول شعره: “ابن جني أدرى بشعري مني”.  ولا يسعني إلا أن أعتز  بنياشينه المعلقة على صدري، ليس من خلال شهادته فحسب، بل من خلال تخصيص منجزي القصصي بكتاب مستقل وازن وعميق.

س- ألم تتلقَ بعض النقد بسبب عبارة الدكتور جميل حين قال عن ” الأخرس” بأنها “أفضل” مجموعة في الوطن العربي، ماذا عن المجموعات العربية الأخرى، وهل نالت نصيبها من الاطلاع قبل إطلاق هذا الحكم؟

ج- كان من الأجدر أن يُطرح هذا السؤال على صاحب الحكم النقدي، فهو أعلم به، وأدرى بمعاييره النقدية وتصنيفاته. فأنا شخصياً أَنْأى عن إصدار أحكام مطلقة وعقد مفاضلات وموازنات تنتهي بتتويج معين كما هو الشأن بالنسبة للمسابقات، فأحيّي جرأته في هذا الصدد، ومجاهرته برأيه، ودفاعه عن تصوره، ولكن أعتقد أن الدكتور جميل حمداوي لم يسحب  البساط من باقي الأعمال، وحكمه ليس حكم قيمة، أو حكماً متسرعاً، فقط هو نوع من الإعجاب بالمجموعة وما تزخر به من مكونات والتي تستجيب لمقاربته الميكروسردية، ولذائقته، ولمنظوره للقصة القصيرة جداً. فالذوق نسبي، والأحكام تتنوع من ناقد لآخر. وصراحة لم أتلق أي نقد بخصوص المجموعة جهاراً نهاراً، فحتى وإن تلقيته فإني أتفهم ذلك، وأمر طبيعي أن يتم الخوض في النصوص القصصية لا سيما التي تتلقى رصداً ومواكبة نقدية دائمين.

س- في “سوق المضاجع” نصوص ماكرة، كيف يصبح النص الماكر ممتعاً بهذا الشكل برأيك كناقد ؟

ج-  النص الأدبي هو نص مُسنّن، ومَكْرُه متعدد، ويمكن أن نتحدث عن مكر اللغة، والانزياحات ، والاستعارات المتعددة، والتي يحيا من خلالها النص، وكلما انفلت النص عن لغة الحديث اليومية، إلا وابتعد عن التقريرية والمباشرة، فلا بد في هذا الصدد من ممارسة عنف منظم تجاه اللغة العادية، كما يذهب إلى ذلك جاكبسون. و”سوق المضاجع” تختلف عن النصوص السابقة من حيث ميثاقها الأجناسي، فهي تنتمي إلى القصة القصيرة، ونصوصها مطولة، ومتشابكة، وتبعاً لهذا تعرف امتداداً في الشخصيات والأحداث، فحتى ملامح الأبطال واضحة، ومواقفهم مبينة، وثمة رؤية للعالم وتوجُّه صريح، بعيد عن التكثيف والإضمار  والحذف. وتنبني الأحداث وتتشابك في شكل متطور لتصل للذروة، ولعل هذا ما يا يضفي عليها وعلى هذا الجنس عموماً، بعض المتعة، فهي لا تقدم كل شيء منذ الوهلة الأولى، كما أنها لا تصدمك أيضاً بومضات معينة جاهزة سلفاً كنهايات أو كأسئلة مطروحة. هناك معمار معين، وغواية تجرك لتتبع الأحداث، فللسرد مجازفاته ومجازاته، ويعرف تعدداً في أنماطه، كما أن تشكل الخطاب القصصي يحتضن وجهات نظر  مختلفة تفصح عن هذا الواقع، وتعرف شخصيات متشظية ضائعة، نجد فيها ذواتنا، وهو ما يترك في المتلقي أثراً معيناً.

س- الدكتور نور الدين الفيلالي  سجل ملاحظة  مهمة في تقديمه لمجموعتك ” سوق المضاجع” تتعلق بـ” صراع الثنائيات” في نصوص المجموعة: الماضي/ الحاضر، القديم/ الجديد، الشرق/ الغرب..وهذه مسألة نجدها في ” عصفور من الشرق” لتوفيق الحكيم” ،و”  موسم الهجرة إلى الشمال” للطيب صالح ، وآخرين كثيرين ..كيف عالجتَ الأمر أنت دكتور  في ” السوق”؟
ج-  السوق (سوق البشرية) مفعم بالتناقضات والثنائيات الضدية: (بيع/ شراء، عرض/طلب، غنى/ فقر، جملة/تقسيط، خير/شر، مركز/هامش،…) وعنصر الصراع مهم جداً في الكتابة السردية، وهو ما يدفع الأحداث نحو التقدم، والإعراب عن وجهات النظر المختلفة، ومفارقات المجتمع التي تبدو أحياناً صارخة. و”سوق المضاجع” غارقة في المحلية، نلمس فيها ارتباط الإنسان بالأرض، إلا أن معيقات معينة تجعل هذا الاختيار مستحيلا،  فيبر ز نقيض ذلك وهو الهجرة فثنائية (البقاء/ الرحيل) جلية في المجموعة. كما أنا ثنائية الأنا والآخر تكاد تتحكم في كل النصوص لا سيما أنا (المحلية) في مقابل الآخر )الأجنبي(. المجموعة تحتفي بالمكان الفيزيقي للريف باعتباره فضاء حضارياً لصيقاً بقيم وعادات الإنسان الريفي في مقابل أمكنة أخرى مفترضة عن طريق الاستحضار والاسترجاع السردي تمثل تحدياً وبديلا  مقترحاً للخصوصية المحلية. مما يجعل سؤال الهوية مطروحاً بشدة.

س- أنت ناقد، ويدرك الجميع  نصرتك ودفاعك عن القصة القصيرة جداً باعتبارك مديراً عاماً لمهرجان الناظور للقصة القصيرة جداً.. احتضانك لهذا الجنس الأدبي بهذا الشكل هل له ما يبرره؟..

ج- أعتقد – من الناحية المبدئية-  أن هذا الجنس الأدبي بغض النظر عما ذكرته له الحق في الوجود، والنمو والتطور، يل حتى في الانقراض. ولم يطرح أي إشكال غَبَّ ظهوره في مجموعة من ربوع المعمورة، لكن في مجتمعاتنا، نحتاط كثيراً من أي جديد، فلم نصل بعد إلى نزع صفة البِدعة عن كل مُحْدَث، وهو أمر لمسناه في الشعر الحر، وقصيدة النثر، ونلمسه الآن مع القصة القصيرة جداً، ومع أشكال تعبيرية أخرى من مثل الهايكو، والشذرة. يبدو أن ثقافة النمط مازالت متحكمة فينا بشكل كبير، والأشكال القديمة مقدسة عندنا ويجب أن تُحْتذى . فمن الطبيعي أنه عندما نؤمن بشيء ندافع عنه بقوة. ولا أحد يمكن أن ينزع من أحد حقه في الكتابة بطريقة معينة، أو تبني نوع أدبي ما حتى وإن كان غريباً أو غير مُسْتساغ. لذا دافعنا منذ مدة عن شرعية هذا الجنس الأدبي، من خلال الكتابة فيه أولا وعقد لقاءات ومهرجانات ثانياً، والمساهمة في ذيوعة ونشره وتشجيع الأدباء وتبني وطبع مجاميعهم ثالثا. والنتيجة كانت مذهلة، إذ أقبلت شريحة عريضة من شبابنا على اقتحام هذا الجنس، وأبدعت فيه، لدرجة أنه أصبح الآن مُؤَسساً، وراسخاً، ولم يعد يطرح الأسئلة التي كانت تشك في شرعيته، ومدى قابليته للاستمرار . أصبحنا الآن نتحدث عن شعريته، واتجاهاته  المتنوعة، وهذا لم يتسَنَّ إلا بفضل التراكم الحاصل فيه. وصراحة وجدت في جنس القصة القصيرة جداً عناصر جذابة تُلائم طبيعة العصر ، ووسيلة تعبيرية مواتية لقول كل شيء بواسطة لاشيء. إنها بلاغة أخرى (بلاغة الإيجاز)، وإنها لَعَمْرك خطاب آخر لا يعتمد على مبادئ اللسان العام كما عند سوسير، ولكن على ميكرو لسان، والتقاط الذرات.

س- دعْنا في مهرجان الناظور للقصة القصيرة جداً، وأنت له مدير عام ناجح، بل نجم شباك كل النسخ التي أحيتها “جمعية جسور للبحث في الثقافة والفنون “بالناظور  في سنوات 2012- 2013 – 2014-2015 – 2016- 2017..ما الإضافات التي راكمتها الجمعية المنظمة في هذا المجال، وما هي الانتقادات التي تُوجه لكم كل سنة ؟

ج-  مهرجان الناظور الدولي للقصة القصيرة جداً كان حدثا استثنائياً وبارزاً ليس في المدينة فحسب بل حتى على المستوى الوطني.لقد أصبحت الرحال تُشَد نحو الناظور، وأصبحت هذه المدينة عاصمة للقصة القصيرة جداً، ومَحَجّاً لكبار  الكتاب والأدباء، فاستطعنا أن نستفيد من تجارب غيرنا في هذا الميدان، كما أتحنا الفرصة لشباب المدينة قصد المشاركة فيه وإسماع صوتهم للآخرين، لدرجة أننا يمكن أن نؤرخ لمرحلة ثقافية جديدة في المدينة، ومنعطف آخر عرفتها، بداية من تنظيم أول مهرجان للقصة القصيرة جدا، إذ عرفت المنطقة حراكاً ثقافياً لافتا للنظر، وحركة نشر واسعة، وورشات مختلفة امتدت لمؤسسات تعليمية متعددة . فمزايا المهرجان عديدة ومديدة يضيق المقام عن تسليط الضوء على كل تفاصيلها. لكن في المقابل تعرضنا لمجموعة من الانتقادات في هذا الصدد وهو أمر طبيعي، فمن يمارس يخطئ، واستطعنا أن نتجاوز الكثير من زلاتنا، ونجحنا في تنظيم دورات متميزة، عرفت في كل نسخة إقبالا متزايداً. فالنقد البناء تقبلناه بكل أريحية ورحابة صدر. وكانت الانتقادات تنصب بشكل أساس على أمور تنظيمية، لأن العدد الكبير من المدعوين والمشاركين الذي يقبل على المهرجان لم نكن نفلح في جميع الأحوال على تدبير هذا الشأن دون مؤاخذات، ولطالما عانينا من نقص العنصر البشري في إدارة المهرجان ولجانه قصد تنظيمه في أحسن الأجواء، وكذلك نقص الدعم المادي لمثل هذه التظاهرة الدولية كان له انعكاس كبير على مجموعة من مكوناته، فالثقافة صناعة ونوع من الماركتينغ لا يمكن أن تكون ناجحة دون عناصر مادية ولوجستيكية . لذلك كنا نقبل أي نقد يصب في هذا الاتجاه ويروم تطوير دورات المهرجان والدفع بها إلى الأمام، لكن التخوين والتطاول والرجم بالغيب والموبقات التي ليس لها ميقات أمور لن نقبلها، وهذه قصة أخرى، وحاشا أن تكون قصيرة جداً.

س- تبنى الدكتور جميل حمداوي مقاربة جديدة في نقد القصة القصيرة جداً سماها” المقاربة الميكروسردية”، كيف تجد هذه المقاربة؟ وهل هناك مآخذ تسجلها؟

ج- إن مقاربة الدكتور جميل حمداوي  للقصة القصيرة جداً والموسومة بالمقاربة الميكروسردية، مقاربة رائدة ومتميزة. فجميل حمداوي نظّر لهذا الجنس الأدبي بشكل عميق، ورجع إلى ترسانة من المفاهيم والنظريات السردية الغربية زكّى بها طرحه، وعرفت هذه المقاربة رواجاً كبيراً وتبناها مجموعة من النقاد والدارسين داخل أرض الوطن وخارجه، فهو يعتبر عن حق عرّاب القصة القصيرة جداً، ويكفي أن تذكره لتستحضر إنجازه في القصة القصيرة جداً، فكل منهما يحيل على الآخر، كتلك الشجرة التي تدل على الغابة، وشخصياً أرجع بين الفينة والأخرى إلى ما طرحه في هذا الجانب وأستفيد منه في تفكيك مجموعة من النصوص. بيد أنه هناك من الدارسين من لا يتفق مع الدكتور حمداوي، وهو أمر طبيعي. ولكل مبرره، وهذا هو حال الأدب.

س- ماهي مساهمتك كناقد في نشر القصة القصيرة جداً بهذا الشكل الأخطبوطي ؟

ج- إن محاولاتي النقدية مقارنة بالإبداع معدودة، وهي تنحصر في مقالات متفرقة هنا وهناك تحكمت فيها لقاءات ومناسبات، وتقديمات لمجاميع قصصية، لكني أملك تصوراً ورؤيا أسعى أن تكون مغابرة، هي قيد التبلور أتوخى أن ترى النور.

س- أنت قاص وناقد.. هل تنقد نفسك؟

ج- أول ناقد للمبدع هو  صاحب العمل نفسه، فمجرد إعادة التفكير في إنتاجه، والتشطيب عليه أكثر من مرة، وإعادة الصياغة، والأخذ والرد قبل أن يستوي على عوده، هو نوع من النقد. والكاتب مهما أجاد فلن يرضى على ما أنتجه بشكل كلي، وأحياناً ثمة زلات ومؤاخذات أو قصور معين لا يعرفها إلا هو.

س- طيب ماذا عن الآخرين، مارأيك في القصة القصيرة جداً في المنطقة الشرقية؟ وبماذا تفسر ظهور كتاب لهذا الجنس  بهذا الشكل اللافت..؟

ج- لا يمكن أن نفصل المنطقة الشرقية عن المشهد القصصي في المغرب ككل، فهذا الجنس ما فتئ يعرف انتشاراً مضطرداً وتطوراً كبيراً، إنها عدوى القصة القصيرة جداً، أو لوثة محمودة لا تبقي ولا تذر. وسابق لأوانه أن نعرف سر هذا الذيوع، الأكيد أننا أمام ظاهرة سوسيوثقافية تنتشر انتشار النار في الهشيم. هل هي موضة؟ تقليعة من التقليعات؟ استسهال؟ هل وجد فيها الكتاب ضالتهم؟ هل هي لغة العصر؟ هل هي هجنة ومسخ؟ سابق لأوانه تحديد السبب الحقيقي، ويحتاج الأمر لدراسة علمية مفصلة ترصد تراكماً كبيراً لهذا الجنس عبر عقود وأجيال.

س- الأنطولجيات الخاصة بالقصة القصيرة جداً تبدو لي شبه منعدمة، ألم يحن الوقت لكتابتها..ألا ترى معي بأن هناك قصوراً في هذا المجال؟

ج- الخصاص يشمل مجموعة من الأمور المتعلقة بالقصة القصيرة جداً وليس الأنطولوجيات فحسب، لحداثتها والسرعة التي تتطور بها، وكأن الكل يبدع، ويريد أن يصبح موضوعاً للبحث. ومسألة الأنطلوجيات مهمة جداً لأنها تقرب لنا الصورة أكثر عن طريق منتقيات لأنتاجات كتاب. ولعل ما يبدو أنه الآن حل محل هذه الأنطلوجيات – بوعي أو غير وعي- ويسلط الضوء على مجموعة من الكتاب وإنتاجاهم خاصة في جهة أو مدينة معية هي هذه الأعمال المشتركة الخاصة بالقصة القصيرة جداً، إذ لا تتعدى نصوص الواحد منهم خمسة نصوص.  وتبقى هذه الانطلوجيات والببليوغرافيات الوصفية ضرورية للباحثين ولكافة المهتمين. وأشاطرك الرأي أننا نعرف خصاصاً في مجال الأنطلوجيات الخاصة، ويشمل ذلك جميع الأجناس الأدبية ومعظم الحقول المعرفية، وهذه مهمة المؤسسات المعنية والمتخصصة أكثر مما هي مهمة أشخاص فرديين.

س- نعيش عصر السرعة، ونكتب القصة القصيرة جداً، و لكن النوم عميق،و نسجل عزوفاً خطيراً عن القراءة..أليست هذه مفارقة؟

ج- من بين الأسباب التي قيل إنها كانت سبباً في بروز القصة القصيرة جداً، هو ميل القارئ إلى النصوص القصيرة والسرد المختصر. وهذا قد يقودنا لو سلمنا بهذا الأمر  إلى أن ظهور هذا الجنس الأدبي راجع إلى أزمة القراءة، أي أنه جنس يكشف عن أزمة معينة وعزوف عن المعرفة والمطالعة، وهو بهذا جزء من الأزمة أو أحد تجلياتها. وكأن القارئ أمام هذه المعضلة ولانشغالاته الدائمة، لن يستطيع قراءة المجلدات ولا النصوص المطولة، ولن يشبع رغبته إلا في مثل هذه النصوص أو أنصاف النصوص، فالجزء يغنيك عن الكل، والعُصارة تغنيك عن الإطناب. هذا تحليل مظلّل ومنطق أعوج. فالذي لا يقرأ ما هو ممتد لن يقرأ ما هو  مختزل، والقراءة سلوك وممارسة يجب أن نستحضرها بغض النظر عن المقروء وطبيعته. وما يزيد الطين بلة أن الأرقام محبطة حول نسبة القراءة في الوطن العربي، وكذا نسبة الأمية المتفشية فيه.

والقصة القصيرة جداً أو ما يشبهها من الأشكال لن تكون محفزة للقراءة  لمجرد أنها قصيرة جدا بالنسبة للذين لا يقرؤون. ويجب أن نعترف أن كثيراً  من هذه النصوص غثة وسطحية (لا أعمم هنا)، وتسيء للأدب، وتفتح الباب على مصراعيه للمتطفلين وللمهلوسين والفاشلين، وللباحثين عن صفة كاتب بعد أن لفظهم المجتمع وكل صنوف المعرفة، فيتوارون وراء هذه النصوص المقززة . وأكاد أجزم هنا أن جريرة القصة القصيرة جداً الكبرى، إن جاز أن نحاكمها بها، هي مثل هذه الإنتاجات، وأهون أن تهْمَز خُرْءاً من أن تَلْمَسَها (أعتذر عن هذا التعبير.. لأنه الواقع فعلا) . فمن باب أولى أن نقرأ الأصول، وأمهات الكتب العربية ذات الأجزاء العديدة، والقصائد المطولة، والروايات الفارعة الطول، والنثر الفني القديم وأشكاله المختلفة، وكفانا من مبرر أن هذا الجنس اقتضاه العصر، وأنه عصر  السرعة والاختزال وأدوات الاتصال الحديثة، وأن نحمّله أكثر مما يطيق،  فلا ماضينا استوعبناه ولا حاضرنا انخرطنا فيه. فما هو ثابت لحد الآن أننا لا نقرأ، لا نقرأ، وسيان عندنا إن كان عصر سرعة أو غربة. وهل فعلا نحس بهذه السرعة؟ !

س- تعرف دكتور جمال !  تبدو لي القصة القصيرة جداً مثل تائهة، وسط الطريق، تستجدي أهل المطايا، ولا أحد منهم يتكرم، ويستردفها.. بل وحتى أولئك الذين تَعُدهم من أهل خيمتها يديرون لها الظهر؛ بعضهم ، حتى وإن كانوا من مدينة واحدة ، ويقترفونها كتابة لا يقرؤون لبعضهم البعض..هذه مسألة شاذة ومُحيرة.. كيف ترد ؟

ج- إن شؤون وشجون القصة القصيرة جداً إبداعاً ونقداً غريبة ومثيرة، أولا لأنها حديثة، وقيد التشكل، ولكل جديد دهشة ورجة كما يقال. وثانياً لأن شكلها سرابي وزئبقي، وثالثاً تداعى الأكلة حول قصعتها وامتدت الأيادي نحوها من كل حدب وصوب، ورابعاً وهو الخطير أفرزت كائنات لا ملامح لها (نَابِتَةُ العصر) يصولون ويجولون في ذراها، ويفتون ويكفرون ويهدرون دماء راعيها. محاولات عدة تحاول الارتواء منها فلا تجد إلا هذا السراب، وعندما تحاول ملامستها لا تقبض إلا ريحاً. وكما هو الشأن بالنسبة لكل كائن جديد، تكثر حوله (البصبصة واللصلصة)،  فترى حالياً كثيراً من الإسهال والاستسهال محدقاً بها. فالقصة القصيرة جداً – السي ميمون- ليست تائهة فحسب يل أشبه باليتيمة في مأدبة اللئام، الكل يزعم الريادة وقصب السبق في أمور معينة. وما عدم قراءة مبدعيها لبعضهم بعضاً ما هو إلا تجل لشكل من أشكال ما تثيره من تفاعلات، ولكنه في اعتقادي مشكل ثانوي، وآفتنا أننا لا نقرأ، وهناك من يكتب دون قراءة، وهذا ليس محصوراً في جنس القصة القصيرة جدا، وإنما يمتد إلى أنواع أدبية أخرى. وأخشى ما أخشاه أن تسود مقولة “مطرب الحي لا يطرب”، ويسود منطق التعالي والإقصاء بين بني الجلدة الواحدة. ويتم وأد الفعل الثقافي والعمل الجمعوي لمجرد استحضار حسابات ضيقة، وطغيان المصلحة الشخصية.

س– بحكم قربي منك كصديق عزيز أجزم أن لك في زوادتك ملفاتٍ مهمةً جداً لم تر النور بعد، في القصة ،والقصة القصيرة جداً، والنقد، والمسرح، والمونو دراما،  وحتى في الرواية؟..هل هذا كسل، أم ترتيب عميق، أم هو إرجاء ضماناً للجدة والجودة..أو ماذا بالضبط؟

ج- الكتابة ليست واجباً يستدعي القيام به في آجال محددة ووفق أجندة معلومة، هي مخاض عسير – أتحدث عن نفسي هنا ولا أعمم الحكم-  ويبقى دائماً أجمل كتاب هو الذي لم نكتبه بعد، والكمال غاية لا تدرك. أكيد أن أحلامنا تزن الملكوت رحابة، لكن وقاع الحال لا يفصح عن ذلك، وطاقات الأشخاص متضاربة، والأقلام تختلف من سيّال الى متعلثم ، نعم في البال أغنية، وأحجية، ومسرحية، وهلم جراً وحصراً. وأجدني مضطراً أن أهمس في أذنك أن قلمي يحْرن ويجفل مني مراراً وتنتابني حالات غريبة عاجز عن تفسيرها من الصمت المطبق والخمول، ويكلّ متني، وتهرب كلماتي مني. وأملك مشاريع مسطرة في أكثر من مسودة، ناقصة تحتاج إلى قادرين على التمام كما يقول المتنبي. أتمنى أن ترى هذه النصوص النور سريعاً وتتخلص مني، ولا أحمل وزرها أكثر.. فما عدت أطيقها ولا عادت تطيقني من كثرة أسانتها وأسانتي.

س – أنت زهيري الهوى ( نسبة إلى زهير بن أبي سلمى)، مؤلفك لا يرى النور إلا إذا وضعته على منضدة ” التشريح” لأعوام….من أين لك بهذا النفس الطويل؟

ج- أنا بعيد من مدرسة زهير (عبيد الشعر)، وشتان ما بين الأمرين. بل ما أقر به أني من عبيد زخم هذه الدنيا، وعبد انشغالاتي المهنية والمنزلية. لكني أؤمن بالتروي والتريث والصياغة والسبك الجيدين، وأؤمن أكثر بالقراءات المطولة والمتنوعة باعتبارها وقوداً فعالا للكتابة، فالإنتاج يجب ان يكون مثل “مَرّ السّحاب لا رَيْثٌ ولا عَجَلُ” أما نَفَسنا فرهين بشروط ذاتية خاصة بالكاتب من حيث القدرة والسرعة والاستعداد للبوح، وبأخرى موضوعية تتعلق بالمحيط ومثبطاته أو محفزاته. فالنّفَس قد يطول أو يقصر حسب هذه العوامل في اعتقادي، وليست اختياراً شخصياً.

س- متى نقرأ لك كتاباً في نقد القصة القصيرة جداً؟

ج- ولماذا بالضبط في القصة القصيرة جداً؟ فليس كل كاتب لها  بالضرورة ناقد لها.

ثمة مقالات ساهمت بها في ندوات ولقاءات قصصية أرجو أن أجمعها، وتحفزني أكثر كي أتناول متون أخرى قوقجية وفق رؤى مغايرة .  لأن ما يشغلني دائماً في الكتابة النقدية (النقد القصصي) هو السعي نحو إضافة معينة وليس اجترار مفاهيم سابقة، أو لَيُّ أعناق النصوص وتحميلها أكثر مما تطيق. فيبدو أن النقد القصصي المنصب حول القصة القصيرة جداً أصبح لدى كثير  من مزاوليه موضة ونقداً استعراضياً وإخوانياً، وتهافتاً على الكتابة فقط من أجل التهافت.

س- “نون النسوة” والقصة القصيرة جداً بمدينتك الناظور.. هل من تعليق ؟

ج- من دواعي الفخر والاعتزاز أن نجد أسماء نسوية واعدة في الناظور أو في المغرب عموما تكتب في هذا الجنس المختصر المبستر، ودون مجاملة استطاعت أن تفرض ذاتها. فشهرزاد المختصة في الحكي اللامنتهي والمطول حاذقة كذلك في التكثيف والاختزال، وثمة خصوصية وتميز ألمسها شخصياً في هذه الكتابة. ويسعدني أن أستشهد هنا ببعض أسماء مدينتي أو الريف على سبيل المثال لا الحصر من قبيل: فاطمة بوزيان، سمية البوغافرية، حنان قروع، أمينة برواضي، حياة بلغربي، سعاد أشوخي، نجاة قيشو، إحسان الرشيدي،…

ننتظر من كاتباتنا المزيد من الإنتاج، فالكتابة النسائية في الريف لا تقل جودة ورصانة عن باقي الكتابات الذكورية، ولا ريب أنه إنتاج سيثري مشهدنا القصصي، ويطبعه بميسم خاص.

س-  في الكتابة النقدية لحد الآن، وفيما يتعلق بالقصة القصيرة جداً، وبالنظر إلى كونك من أنصار هذا الجنس، تبدو شحيحاً ؛ إن اقتربت من بعض الأضمومات القصصية فبحذر، هل هذا معناه أن الغث كثير و لا تحب أن تكشف المستور، أم تضمر للقصة جداً عكس ما تظهر من دفاع؟

ج- قد نجد الغث والسمين في كل الأجناس الأدبية وليس في القصة القصيرة جداً فحسب. والنقد الجاد لا يداهن ولا يجامل. وهذا ليس مبرراً في عدم مقاربة ونقد هذه المتون والجهر صراحة بما تتضمنه من مزايا أو مزالق. والكتابة النقدية في مجال القصة حسب ما رصدته ببلادنا ذات طبيعتين: إما عبارة عن مقالات أو مداخلات جمعت بين دفتي كتاب، وهي الغالبة، وغالباً ما تكون متنوعة ولا تحكمها ضوابط منهجية دقيقة لطبيعتها، لأنها قيلت في مناسبات مختلفة، وتجمع بين أكثر من موضوع. وإما عبارة عن كتب ترصد هذا الجنس الأدبي وفق منظور محدد، لكن القليلة منها من تحمل مشروعاً طموحاً وتراعي خصوصية هذا الجنس، وتجمع بين إطار نظري متماسك، وآخر تطبيقي يدافع بشكل إجرائي وموضوعي عن كافة أسس وشعرية القصة القصيرة جداً. فبالنسبة لي، في ظل غياب رؤيا نقدية واضحة ومتماسكة، أستطيع أن أضيف من خلالها شيئاً ما إلى ما قدم من نقود أو أتجاوزها، أتهيب من إرجاع صدى الآخرين، وكتابة أي شيء، أو مقاربة المضامين القصصية، أو إنجاز  ملخصات و كتابات إنشائية حول القصة القصيرة جدا. فليس كل مناصر للقصة القصيرة جدا ناقدا لها بالضرورة، كما أنه ليس كل ناقد لها حتى وإن كان غزيراً في الإنتاج يعتبر مناصراً لها.  فلنحذر كثيراً من هذا الكم الذي يكتب حول هذا الجنس أو حتى الذي يبدو في الظاهر أنه يدافع عنه. ولعل المثل العربي ينطبق على هذا الوضع: (إياكم وخضراء الدّمن ).

س – تشرف على عرس ثقافي مهم حول المونودراما في نسخته الثانية.. ضعنا في الصورة حوله رجاء؟

ج – كما تعرف فإن اهتمامات جمعية جسور متنوعة، وتحاول أن ترضي جميع الأذواق وتهتم بجميع الفنون، ومنها بشكل خاص المسرح، ولقد دأبت هذه الجمعية من قبل تنظيم ندوات مسرحية وأشرفت على أنشطة بهذا الخصوص. وفي هذا السياق جاءت مبادرتنا لتنظيم مهرجان خاص بالمسرح الفردي استدعى ألمع النجوم محلياً وجهوياً ووطنياً، وكان هذا مرفوقاً بورشات مسرحية وندوات، وتوقيع للكتب، ومعارض للفن التشكيلي، بل تم إشراك حتى الكلية المتعددة التخصصات بسلوان في هذه التظاهرة. والغاية كانت واضحة من خلال هذا الفعل، إذ كنا نتوخى من وراء ذلك الاستفادة من مختلف التجارب المسرحية الوطنية والجهوية، وكذا إتاحة الفرصة للطاقات المحلية حتى تبدع وتستفيد من محاور المهرجان لا سيما في المحور الخاص بالورشات. وكذا التأسيس لهذا الشكل المسرحي في المدينة.

س- بقي أن أسألك عن اللغة التي تكتب بها، أخاذة، وفيها من الأصالة والانثيال ما يبهر القراء..من أي مشتل تقطف أوراق هذه اللغة؟

ج- غالبا ما يقال إن الأسلوب هو الرجل، فلكل أسلوبه ولغته، وتحدد ذلك أساساً عناصر مهمة منها القراءة والثقافة والتوجه العام. ولعل اطلاعي على بعض الكتب التراثية وانبهاري بها (النثر الفني القديم)، ربما هو ما طبع كتاباتي بهذا اللون. لكن ما كنت أتوخاه باعتمادي على لغة تراثية هو تأصيل هذا الجنس القصصي، والخروج عن مضمار لغة عادية أقرب من لغة الحديث اليومية.

س- هل الناظور تتغير برأيك؟

ج- ثمة تغيير ما طرأ على مدينة الناظور، طبعا نسعى إلى تغيير كبير  في المدينة من حيث بنياتها التحتية، وعقلياتها ونخبها المختلفة. ومشهدها الثقافي. لكني أرفض النغمة العدمية التي تُسَفّه كل الجهود ولا تراعي التطور وسطوة الزمن وتحوله، وترجع الناظور  إلى المرحلة الكولونياليةـ أو قد تنحاز إليها. وتطلق النار على كل ما يتحرك. مجهودات حثيثة وإنجازات عديدة أقيمت أو قيد التبلور.  نحتاج أولا إلى تغيير الذهنيات، وإلى تضافر الجهود، وعدم تعليق عجزنا وكبوتنا على مشجب الآخرين..

س- ما تقول في : المقاهي الأدبية-  الخصومة الأدبية؟

ج- المقاهي الأدبية متنفس آخر وفضاء حميمي ومنفتح عن فئات بديلة، وهي مهمة جداً، لكن الملاحظ أنه سرعان ما تنتهي صلاحيتها، ومرتبطة بمناسبات بعينها.  وبخصوص الخصومة الأدبية، هذا المفهوم الدال والمعبر في نقدنا، يا ليتنا نملك خصومة أدبية، فالخصومة الأدبية كانت بين المتنبي ومناوئيه، وكانت بين أبي وتمام والبحتري، وكانت بين مدرسة الديوان في مصر وبين شوقي وشعراء آخرين. الخصومة الأدبية سجال أدبي راق حتى وإن اتخذ طابعاً حاداً. ما نجده عندنا للأسف تنابز ولوك للأعراض وسب وتهجم وكذب واختلاق، واغتيال واحتيال. فلنحرص أولا على عنصر الأدب، آنذاك مرحباً بالخصومة.

  عريس مُتوج في ” العرين” ألف شكر سي جمال..كلمة أخيرة من فضلك ؟

ج- جزيل الشكر والامتنان صديقي القاص المتألق والمحاور البارع على هذه الاستضافة، وعلى هذه الأسئلة الموحية، أحسست بالفعل طيلة هذه الرحلة معك بالمتعة والألق، ودهاء السؤال وشَرَكِه، ولمست فيك غيرة مُبَطّنة على شأننا الثقافي، فالحديث معك شيق وحَمّال أوجه وتحليقات. أتمنى لك الفرح. وأتمنى تجديد اللقاء بك لكن هذه المرة أن تكون مُحَاوَرا حتى نغوص في بعض مكنونك، ولنمارس لعبة مسرحية تستهويني هي لعبة تغيير الأدوار.. مودتي أيها الراقي.

 

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *