على عجل يستبق الملَك إلى روحها نُقلت الخالة محبوبة لتسريح شريان الوريد التّاجي بأحد مستشفيات العاصمة. عند الهزيع الأخير من المسافة تعطّلت سيارة الإسعاف فاعتكر مزاج القلب الحرج وقضت في انتظار الميكانيكيّ.
قطع أهلها الضّجر اليوميّ والطّرق احتجاجا فتأخّر وصول سيّدة تكابد عسر المخاض إلى مستشفى الجهة وفارقت وجنينُها الحياة على جانب من حاجز العجلات المحترقة والجذوع المسجّاة بعناية عرض المعبّدات و”البيسْتات”. هرولت البغضاء بالنّميمة بين الأهليْن فاقتتلا. تزاحم الجرحى على الأسرّة ورحّلوا الصّراع إلى الدّاخل. كلّ ما خُزّن في كهوف النّفوس والتاريخ أخرج للغرض النبيل: الدّفاع عن النّفس بهدر أنفُسٍ، الحجارة المذبّبة، الأسرار الحميمة، السّيوف، البذاءة القاذعة، السّواطير، العصيّ الخشنة.. وبعض التوابل الحديثة كقوارير الملوتوف، وزجاجات الكوكاكولا ( حتى لا يذهبنّ في الظنّ أنهم يشربون ممنوعات فيقع الانحراف بثورتهم عن مسارها الحقيقيّ) معبّئة بماء النّار وأشياء لطيفة أخرى في لزوم ما يلزم..
اِحتجّ الإطار الطبّيّ وشبه الطبّيّ وما بينهما من ماء وملح وخصومات وأعوان وعملة ووشاة وسماسرة وأحقاد ودخلوا معا يدا بيد وعلى توافق حضاريّ صُنع في تونس، في إضراب مفتوح غير حضوريّ إلاّ من آمن بحزبه ثمّ استقام. ما نجا من النّهب الدّاخليّ المنظّم تحت الألواح السّرّيّة بالمستشفى نُهب عَلنا. شوهدت نقّالات تكركر في الأروقة ومكاتب الأطبّاء تُهجّر بأكملها إلى المجهول.. وقع الأقدام الغريبة على البلاط لا يخشع سِنة من ليل أو نهار وكلّ تفصيل يجِدّ يُرى كأن لم يُرَ.. صناديق الأدوية تغادر مخازنها، الخزائن تُنهب، الوثائق تُتلف، الدّسائس، الهمز، الفتنة، الخلع، الخلاعة، الأسرار تفشى، المآزر تُهتك، القمصان تُقدّ من قُبل ومن دُبر وعن الرُّكب، الخُدع تُنسج بأنامل من حرير أو تطبخ على مواقد حامية، الدّمع يتضوّر في مقل حجّرها الفقد المدبّر بغفلة أو صحوة مكمّمة، أبخرة الأنّات تتصاعد عفنة من أجواف المرضى يجتافون ببطء على أسرّتهم، لهفة تجّار وسماسرة، مكر آخرين، الصّفقات، التقارير الطبيّة المرحَّلة من سرير إلى غيره، الملّفات تستبدل أو تهجّر كليّا عن أدراجها، التقارير تُحبّر تحت ذلّ الحاجة أو على طاولة المقايضة..
في هذه الأثناء المدهشة، أُدخلت ريما على استعجال غرفة العمليّات لاستئصال الزائدة الدّوديّة. ورافق فريق طبيّ لهِفا نقّالة الشّابة لورا إلى العناية المركّزة إثر نوبة كلى حادّة.
وزير الصحّة كان رجل دولة حقيقيّ، تابع الفوضى الخلاّقة عن كثب من مكتبه تحت سقف الحريّة العالي ملوّحا بإعجاب لطفلة الديمقراطيّة تلعب آمنة في الشّارع التونسيّ. عند ذروة الاحتقان وعد بعرض قانون تجديد سيّارات الإسعاف بكامل المستشفيات الدّاخليّة على نوّاب الشّعب “سيناقش بإذن الله في الجلسة العامّة القادمة التي سيقع تحديد موعدها بعد الاقتراع عليه بأغلبية مريحة إن أمكن تحت قبة البرلمان.” وأمر بتشكيل لجنة محايدة من حزبه للتّحقيق. حكماء المدينة وتُقاتُها بدورهم شكّلوا لجنة مصالحة فخطبوا جمعة في السّلم والتسامح و”الموت علينا حقّ” وفي “لا رادّ لقضاء الله”، وتظاهروا سبْتا أمام المستشفى مساندة للّجنة ووزيرها. لُمّ الأمر وعاد كلّ سيف إلى غمده الأوّل وكلّ حجر إلى دغله، وكلّ جرح إلى إبرة التقطيب الحيّ.. لسوء إدارته للأزمة أُقيل وزير الصّحّة ودُعي إلى حقيبة الدّاخليّة فأرسل جيشا من رجال الأمن يعيدون الوضع المنفلت بالشّوارع إلى سالف وضعه. خرجت لورا من غرفة العمليّات فرحة بكلية فتيّة زُرعت لها أخيرا. بيد أنّ ريما لم تعد إلى عادتها القديمة. ذهبت تنام في مستودع الجثث.