لماذا لغةُ الدين؟

خاص- ثقافات

*عبدالجبار الرفاعي

صدرت هذه المجلةُ قبل 21 عامًا بمبادرةٍ فردية، ومازالت فرديةً في تحريرِها وإدارتِها وتمويلِها، وإن لم تكن فرديةً في إدراكِها لما آلَ إليه الواقعُ الذي تعيشه مجتمعاتُنا، وطبيعةُ التفكيرِ الديني المهيمنِ على مؤسّساتها الدينية. ومنذ صدورِها ظلَّ يتسائل القرّاءُ عن إمكاناتِ هذه المجلةِ وحدودِ قدراتِها في طرحِ أسئلةٍ محضورةٍ والتفكيرِ خارجَ الحقول الموروثة، وهل تمتلك غطاءً تحتمي به، خاصةً وهي تصدر داخلَ المؤسّسةِ الدينية، ومن أين تستمدُّ مقدرتَها على الصمود، وكيف تواصل الحضورَ في ظروفٍ بالغةِ الحساسية، وهي مولعةٌ بفرادةِ ما تفكر به وتقوله، وغرابتِه عن المشهورِ الذي لا تستمدُّ لديه أيةُ فكرةٍ مشروعيتَها إلا بوصفها مشهورة.

في أعدادِها الأُول كانت “قضايا إسلامية معاصرة” أسيرةَ التقليدِ التكراري لدورياتٍ سبقتها، لكنها استفاقتْ مبكرًا فابتكرت طريقَها المختلف، وعملتْ على مغادرةِ حديثِ التراث عن التراث، وتمثيلِ الماضي للحاضر، فأعلنتْ بثقةٍ وجدّيةٍ قناعتَها بالقطع مع كلِّ ما هو ميتٌ ومميتٌ من الماضي، وتوظيفَ كلِّ ما يتطلب تحديثُ التفكير الديني توظيفَه من الإضافاتِ العميقةِ للفلسفة والمعارف البشرية الحديثة بجدّيةٍ وثقة، بغيةَ إعادةِ بناء فهمِ الدين ودراسةِ وتحليلِ تعبيراتِه المختلفةِ في حياة الفرد والجماعة. ولم تتعاطَ مع هذه الإضافاتِ بمنطقٍ ارتيابي مسكونٍ بهواجسِ الهوية والأصالة والخصوصية، بل أدركتْ أن الكثيرَ من مكاسبِ العقل الحديث كونيةٌ، عابرةٌ للهوياتِ الأثنية والدينية والثقافية، وإن جرى استخدامُها أحيانًا لأغراضٍ تنقض مدياتِها الكونية.

في المدارسِ والكلياتِ الدينيةِ في مجتمعاتِنا يكرّر التفكيرُ نفسَه باستمرار، لأنه كان ومازال صدىً للماضي، إذ يبدأ من التراثِ وينتهي بالتراث، ويظلّ يدور في حلقة مغلقة، من دون أن يبصر ضوءًا يهتدي به إلى تضاريسِ الواقع الذي نعيش فيه. وهكذا هو حالُ الكتاباتِ الوفيرةِ عن الدين وما تشتمل عليه المطبوعاتُ والمجلاتُ التي تصدرها المؤسساتُ الدينيةُ وغيرُها، حتى إن عمد البعضُ إلى الخروجِ من أساليبِ التعبيرِ والبيانِ في الكتاباتِ القديمة فإنه لا يتخطى في ذلك حدودَ تيسيرِ مفاهيم تلك الكتابات وتبسيطِ مقولاتها التي فرضتْ حضورَها المزمن في كلِّ تأليف وكتابة تالية.
لقد خرجتْ “قضايا إسلامية معاصرة” من تلك الأسوارِ المنيعةِ للدراسات الدينية، وحاولتْ أن تتحرّرَ من رؤيةِ الحاضر بعين الماضي، ولم تستبدّ بتفكيرِها علومُ الأوائل التي نسختْ العلومُ والمعارفُ الحديثةُ الكثيرَ منها، وكان عليها أن تبدأ بإعادةِ النظر في البنيةِ التحتية التي ابتنى عليها هيكلُ المعارف الدينية، ولم تسلك المساراتِ القديمةَ ذاتَها، بل استأنفتْ النظرَ فيما صار بمثابة البداهات في هذه المعارف وأعادتْ مسائلتَه وتشريحَه والعملَ على اكتشافِ السياقاتِ التي تشكّل فيها. ففي حقلِ الفقه مثلا لم تكرّر هذه المجلةُ القولَ في مقولاتِه، ولم تغرق في تفاصيل مدونته التي تضخّمتْ بالتدريج وانحسرتْ تبعًا لتضخمها معظمُ آفاقِ التفكير الديني الأخرى، وفرضتْ حضورَها الصارم على كلِّ ما يتّصل بأقوالِ وأفعالِ المسلم، وأخضعتْ كلَّ حياتِه لمعاييرها. لذلك أعلنتْ “قضايا إسلامية معاصرة” ضرورةَ البدء بتدشين علمٍ قادرٍ على إجراءِ حفرياتٍ عميقةٍ في المدونة الفقهية، من خلالِ تفكيكِ الأنساقِ المولدة للمعرفةِ الفقهية والكشفِ عن العناصرِ المختبئةِ في عملية الاستباط وأثرِها البالغِ في توالدِ هذه المعرفة ونموِّها وتطورها، وهذه مهمةٌ يمكن أن تتكفّلها “فلسفة الفقه”، وهي علمٌ لا يعتمد العدّةَ المنهجيةَ والمفاهيميةَ المعروفةَ في “أصول الفقه” و”الفقه”، وإنما ينفتح على فلسفةِ العلم و العلومِ الانسانية المختلفة، ويتوكأ على مناهجِها ومفاهيمِها، بغيةَ تحليلِ البنية العميقة للمعرفة الفقهية، وكيفيةِ إنتاجِها، والكشفِ عن العناصرِ المضمرةِ في ذهنِ الفقيه وأثرِها اللاواعي في توليد المواقف والآراء والفتاوى، والصلةِ العضوية بين الفقهِ والسياقاتِ التاريخيةِ المختلفةِ التي تشكّل فيها، والعلاقةِ بين المعرفةِ الفقهية وشبكاتِ السلطة الروحية والزمنية.
وأردفتْ هذه المجلةُ ذلك بمحورٍ موسع صدر نهاية القرن الماضي في خمسةِ أعدادٍ متتالية، عالج “علم الكلام الجديد”، وكشف قصورَ “علم الكلام القديم” وعجزَه، والضروراتِ التي تفرض على تفكيرِنا الديني اليوم تبنّي علمَ كلامٍ يصوغ رؤيةً ميتافيزيقةً لعالَم فرضَ على المسلم أن يحضرَ فيه بشكل جديد. واتجهتْ “قضايا إسلامية معاصرة” مبكرًا  للاهتمام بـ “فلسفة الدين”، وخصّصتْ أكثرَ أعدادِها لموضوعاتِها المختلفة. ولم يكن مصطلحُ “فلسفة الدين” قبل ذلك متداوَلا في المجال العربي، وإن كان بعضُ المفكرين تناول بعضَ موضوعاتِها في كتاباته.

وفي العدد الماضي افتتحتْ “قضايا إسلامية معاصرة” البحثَ في “لغة الدين” ، وهي تستكمله في هذا العدد.

“لغة الدين” مصطلحٌ غيرُ معروف في الدراسات الدينية والفلسفية والألسنية العربية، على الرغم من أنه أحدُ أهمّ موضوعاتِ فلسفة الدين، وأن توطينَها في دراساتنا الدينية يؤمّن مرآةً نرى فيها النصوصَ الدينية من زاويةٍ مختلفة، ويفتح نافذةً أخرى على فهمٍ بديلٍ للدين، من خلال تحديدِ ماهيةِ نصوصِه، وهل هي نصوصٌ تخضع لمنطقِ فهمِ اللغة العرفية، أو انها لغةٌ أخرى تمتلك منطقَها الداخلي الخاصّ وتتحدّث عن معانيها بطريقتها الخاصة، وإن كانت كلماتُها مشتركةً مع اللغة العرفية.

لغةُ الدين غيرُ لغة العلم، لغةُ العلم مهمّتُها الكشفُ والتفسيرُ والتوصيفُ بأجلى العبارات، وأصرحِ الكلمات، وأبسطِ التركيبات، تبتعد عن التلميحِ والإشارةِ والكنايةِ والمجاز، تشدّد على ما هو صريح، تحذر ما هو مضمر، تنفر من الغموض، تسعى لأن تتسعَ فيها الألفاظُ للمفاهيم بنحو لا تقبل الانصرافَ فيه قدر الإمكان لمفهومٍ بديل. لغةُ العلم تنشد التطابقَ على الدوام بين الدالّ والمدلول، بين اللفظ والمعنى، مباشِرةً في التعبير عن مراميها، واضِحةً في بيان قوانينِها ومعادلاتِها وأرقامِها، ولفرط وضوحها يوازي فهمُها التصديقَ بها، ويعود التصديقُ إلى أن موضوعاتِها ليست مفارِقةً للمادةِ وعوالمِها،كما هي متداولة في الرياضيات والفيزياء والكيمياء والأحياء وغيرها.

أما لغةُ الدين فهي حكايةٌ عن عوالم الغيب، مدلولاتها تحكي موضوعاتٍ مفارقةً للمادة، خارج عالمها الحسي، إنها تنشد تمثّلَ المطلق في النسبي، وترجمةَ المحدود للامحدود، وتجليَ الإلهي في البشري، وحضورَ عالم الغيب في عالم الشهادة، وتجسيدَ المقدّس في الدنيوي، واستيعابَ اللامحسوس في المحسوس، واتساعَ ما هو مادي لما هو لامادي، وتصويرَ ما لا صورة له، واستكناهَ ما لا يُكتنه، ورؤيةَ ما لا يُرى، ومعرفةَ الحواس بما لا يمكن التعرفُ عليه بها. إنها رؤيا عابرةٌ لرؤيةِ العين البصرية، ومعرفةٌ حدسيةٌ عابرةٌ للعقلِ وطرائقِه ومحاججاتِه، وضربٌ من الصلةِ الأنطولوجيةِ التي يتجلى فيها الغيبُ بصورة يستطيع معها أن يتذوقه من يؤمن به، إذ يتمكّن من خلال هذه اللغة أن يحقّق شكلا من الاتصالِ المباشر مع عوالمه.

لغةُ الدين تتكشّف بها مراتبُ أعمق من الوجود لا تتكشّف للإنسان باللغة العادية. وتشير الى معانٍ متعاليةٍ على الواقع المادي المحسوس الذي يعيشه الإنسان، تضيق بها اللغةُ العادية. لغةُ الدين هي اللغةُ الوحيدةُ القادرةُ على التعبير عن حقائقِ العالم الأخرى بنحو تعجز فيه كلُّ أشكالِ اللغة الأخرى عن التعبير عنها.
لا تنشد لغةُ الدين التطابقَ بين الدالِ والمدلول، وبين اللفظِ والمعنى، لضيقِ الدالّ وقصورِه، إذ يفتقر اللفظُ لأن يتسعَ لما لا يمكنه الاتساعُ له، ويستوعبَ ما لا يمكنه استيعابُه، وتمثّلَ ما لا يمكنه تمثّله، ويفشلُ في نقلِ ما يضيق به ظرفُه، واحتضانِ ما يعجز عن استيعابِه.

لغةُ الدين ضربٌ من الترجمةِ لإشاراتِ الغيبِ ورموزِه، ومحاولةُ رسمِ صورةٍ عنه في قوالب لغتنا البشرية، وتجلٍّ لكلمةِ الله من خلال كلماتِ البشر. والترجمةُ لا تطابق الأصل، ولا تعكس صورتَه كما هي، ولا تكشف كلَّ ملامحِه ، إنها توميءُ إليه، وتشيرُ إلى شيءٍ من ملامحِه.

لغةُ الدين يتنزّلُ بها المعنى من نشأةٍ أعلى إلى نشأةٍ أدنى، ذلك أن اللغةَ البشريةَ من شؤونِ العالم المادي، وليستْ من  شؤونِ عوالمِ الغيب، وظرفُها لا يتسع لمعاني تلك العوالم، وإن السعةَ الوجوديةَ للغيب يضيقُ بها كلُّ ما ينتمي للعالم المادي. إن هذه اللغةَ لا يتجلّى فيها المعنى إلاّ بكيفيةٍ تماثل حقيقتَها البشرية، وهو نحوُ تنزّلٍ على شاكلتها.

كلمةُ الله حين تتجسّد في لغةٍ بشرية تلتبس بما هو بشري، فلا تحكيها هذه اللغةُ كما هي، وإنما تشير إليها بما يتناسب مع وعائِها وخصائِها البشرية والواقع الذي تحضر فيه.كلمةُ الله للبشر لا يمكن أن تتسعَ لها لغتُهم ما لم تتنزل إلى عالمِهم البشري. إن معانيَ كلمةِ الله تتشكّل بهيئةٍ يمكن أن تؤشرَ إليها كلمةُ البشر، بإشاراتٍ تتناسب وطبيعتَها، حتى إن كانت تضيق بمعانيها. الضيقُ يعود إلى عجزِ ظرفِ ألفاظِ اللغةِ البشريةِ وقصورِها عن استيعابِ ما هو إلهي. وكأننا هنا أمام أستاذ فيزياء يقوم بشرحِ معانيَ نظريةِ أنشتاين لتلميذٍ في الأول الابتدائي. في حالةٍ كهذه لابدّ أن يتحدّث الأستاذُ بلغةٍ تحاكي استعدادَ ذهنِ ذلك الطفل وإمكاناتِه في الفهم، فيلجأ للتعبير بكلماتٍ مبسّطة تعبّر عن رؤيةِ الطفل المحدودةِ للعالم من حوله،كي تكون هذه الكلمات قادرةً على إنتاجِ معنى يتناسب ووعاءَ فهمِ الطفل.

لغةُ الدين تشي بالإشارةِ عندما تعجز العبارة، والتلميحِ عندما يتعذّر التصريح، وهي في كلِّ ذلك تتوسّل بالرمزِ والمجازِ والكنايةِ والاستعارةِ والإيحاء. إنها لغةٌ رؤيويةٌ تسعى للقبضِ على معنىً لا محسوس ولا تاريخي ولا زماني ولا مكاني ولا مرئي وإيداعِه في قالبٍ محسوسٍ ومرئي. مثلُ هذه اللغة تتعدّد مراتبُها، وتنشد تلبيةَ مستوياتٍ متنوعٍة من الفهم، ومراعاةَ درجات مختلفة للتذوق. هذه اللغةُ يتخطّى نداؤها العقل، إنها نداءٌ يتّجه لإيقادِ طاقاتِ الروح، وإيقاظِ الضمير، وإحياءِ القلب، وشحذِ المشاعر، وإثارةِ الأحاسيس.
___________

*كلمة تحرير العدد 67 – 68 لمجلة قضايا اسلامية معاصرة، محور “لغة الدين _ 2″، يصدر العدد قريبًا.

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *