*ترجمة وتقديم : لطفية الدليمي
حوارية بين الروائية – الفيلسوفة آيريس مردوح والفيلسوف بريان ماغي
العلاقة بين الفلسفة والأدب علاقة وثقى نشهدها في التضمينات الفلسفية في الكثير من المنتجات الأدبية لبعض أعاظم الكُتّاب ، ونعرف أنّ بعض الكتّاب كانوا أنفسهم فلاسفة محترفين ، والأمثلة في ذلك كثيرة ؛ غير أن طبيعة العلاقة وحدودها بين الأدب والفلسفة ظلّت حقلاً إشكالياً منذ العصر الإغريقي وحتى عصرنا هذا .
يسرّني أن أقدّم في هذا القسم – وبضعة أقسام لاحقة – ترجمة للحوارية الرائعة عن طبيعة العلاقة بين الأدب والفلسفة والتي عقدها الفيلسوف البريطاني الشهير ( بريان ماغي Bryan Magee ) مع الروائية – الفيلسوفة الراحلة ( آيريس مردوخ Iris Murdoch ) ، وقد سبق لي تناول جوانب من فكر هذه الفيلسوفة المميزة في حوار سابق منشور في المدى ؛ أما بالنسبة إلى ( بريان ماغي ) فهو فيلسوف ، وسياسي ، وشاعر ، وكاتب ، ومقدّم برامج بريطاني ولِد عام 1930 ويُعرَف عنه مساهماته الكبيرة في ميدان تقديم الفلسفة إلى العامّة وجعلها مادة تحظى بالمتابعة الجماهيرية القوية ، وهو صاحب مؤلفات كثيرة في هذا الميدان .
أذيعت هذه الحوارية على البرنامج الثقافي للتلفزيون البريطاني عام 1978 .
المترجمة
ماغي : ثمة رؤية شائعة اليوم ترى أن توصيف الفن الجيد يتأسس على قدرته في تهذيب وشحذ الحساسيات الشخصية للمرء وتعزيز قدراته في الفهم ؛ الأمر الذي يقود بالتالي لزيادة مخزون المرء من قدراته على إبداء التعاطف والإهتمام بغيره من البشر .
مردوخ : أعتقد أن الفن يكون جيداً للناس طالما بقي قادراً على تعزيز الخيال البشري بدل الفنتازيا الموغلة في الشخصانية والأنوية . الفن الجيد يرخي قبضة الفنتازيا اليومية المملة التي تسود حياتنا ويدفعنا لدخول مملكة الرؤية الحقيقية الخلاقة ، والحق أن معظم الناس يفشلون أغلب الوقت في رؤية الصورة الواسعة للعالم الحقيقي بسبب العمى الذي يكتنف حياتهم بفعل طغيان الحس الإستحواذي والقلق والحسد والإستياء والإمتعاض والخوف في حياتهم . نحن في غالب الأحوال نصنع لنا عالماً فنتازياً شخصياً صغيراً فائق المحدودية والضآلة ونظل طيلة حياتنا حبيسين داخل ذلك العالم المحدود ، والفن العظيم هو تلك القوة المحررة التي تمكّننا من تلمّس مكامن البهجة ورؤيتها بعيداً عن محدوديات عالمنا المصطنع الضيق وذواتنا المتضاءلة داخل قوقعة رؤيتنا الضيقة . الأدب يحرّك الكوامن الراكدة في دواخلنا ويرضي شغفنا بالرؤية والمعرفة المستزيدة ، كما يملأ أرواحنا بالبهجة في معرفة أشخاص آخرين ومشاهد أخرى ويساعدنا أن نكون متسامحين وكرماء ، وفي الوقت ذاته فإن الفن له قيمة تثقيفية ومعرفية ؛ إذ حتى الفن العادي يمكن أن يخبرنا شيئاً حول الكيفية التي يعيش بها أناس آخرون لاعهد لنا بهم ، ولكن ينبغي في كل الأحوال عدم الإنزلاق إلى القناعة بأن التصريح بهذه الخصائص العظيمة للفن تعني إضفاء رؤية منفعية أو وعظية على الفن ؛ فالفنّ أوسع بكثير من الأفكار الضيقة ذات النزوع المنفعي أو الوعظي . أفلاطون ذاته على الأقل رأى القيمة العظمى والأهمية الفائقة للفن وأثار الكثير من التساؤلات الممتعة بشأنه ؛ غير أن الفلاسفة في مجملهم لم يكتبوا الكثير من الكتابات الرفيعة بشأن إطراء الفن بعامة ، وربما يعود السبب في أحد جزئياته لكونهم إعتبروا الفن مسألة ثانوية فرعية صغيرة يتوجّب عليهم تكييفها داخل إطار نظريتهم العامة في الميتافيزيقا أو الأخلاق .
ماغي : هذا صحيح في العموم ؛ لكن ثمة فيلسوف واحد أرى ضرورة إستثنائه من تلك المثلبة التي وُصِم بها الفلاسفة دوماً ، وأقصد بذلك الفيلسوف المستثنى شوبنهاور ؛ إذ على خلاف سواه من الفلاسفة فقد رأى الفن قيمة جوهرية أساسية في الحياة الإنسانية ، كما رأى أن الفن يمكنه قول أشياء أساسية بالغة الأصالة بشأن تلك الحياة .
مردوخ : نعم بالتأكيد . تخالف شوبنهاور مع أفلاطون ، وفي الواقع قلب شوبنهاور الرؤية الأفلاطونية بشأن الفن وأطاح بها . رأى أفلاطون الفن وسيلة لمنح المتعة الذهنية للجزء الأنوي الأحمق من الروح الإنسانية ؛ في حين أن الجزء الأكثر نبلاً من الروح يسعى لمعرفة الواقع من خلال ماأسماه أفلاطون ( الأفكار ) التي رأى فيها مفاهيم عقلانية كونية أو مصادر للتنوير ، وبهذه الكيفية تكون الأفكار العقلانية في مواجهة الأشياء المحدودة غير المُدرَكة ، وعلى أساس هذه الرؤية فإن الفن تبعاً لأفلاطون يتعامل مع الأشياء المحدودة أما المعرفة المعقلنة فهي عامة متجاوزة للمحدوديات الضيقة . من جهة أخرى رأى شوبنهاور أن الفن يسعى حقاً وراء الأفكار ويمكنه حمل تلك الأفكار ونقلها للآخرين ، وقد صوّر شوبنهاور الأفكار على أنها أشكال إدراكية يمكن تحسسها جزئياً في الطبيعة ، وأن خيال الفنان يسعى للكشف عنها . يقول شوبنهاور أن الفن يزيح قناع أو ضباب الذاتية ويجعلنا نمسك بفيض الحياة في تيارها الهادر ويجعلنا نرى العالم الحقيقي من خلال الصدمة المقترنة بأية تجربة جمالية ، وهذه حقاً رؤية جذابة وسامية المقام تجاه الفن لأنها تصوّر الفن بهيئة مسعى أخلاقي وذهني رفيع شبيه بالمسعى الفلسفي من حيث محاولة كشف النقاب عن العالم الحقيقي ، وفي الوقت ذاته تقترح رؤية شوبنهاور مقاربة يكون فيها الفن الجيد أمراً بالغ العمومية وبالغ الخصوصية معاً . تقدّم بعض الديانات الشرقية رؤى مشابهة لرؤية شوبنهاور في بعض جوانبها ؛ ولكن على كل حال أنا من جانبي لايسعني قبول هذه الأفكار حتى لو أريد لها أن تكون توصيفاً مجازياً للكيفية التي يعمل بها عقل الفنان : بالطبع يمكن القول أن عقولنا تفرض شكلاً ما على العالم ، ولطالما سعى الفلاسفة للكشف عن جوانب المصاهرة والتقارب الخفية بين الكائنات البشرية وبين الطبيعة ، وليست لديّ أية رؤية فلسفية عامة بشأن هذه الموضوعة ؛ غير أنني أعتقد بوجود تشابه قياسي بين الفلسفة والأدب يمكن دفعه لمديات أبعد بكثير من المديات الحالية . يواجه الفنان المتمرّس أثناء عمله الكثير من المادة العشوائية غير الواضحة ، وقد يتوغل في تمجيد تلك المادة ، ويبدو أن الفنانين العظماء ربما يبتغون ” فهم ” العالم بمثل مايفعل الفلاسفة وإن كان عمل الفنانين يقتصر على أجزاء محددة وحسب من العالم وليس العالم بكليته . إن رؤية ( كانت ) الأكثر تشويشاً والأقلّ رفعة – مقارنة مع رؤية شوبنهاور – بشأن الفن تبدو لي أكثر واقعية وقبولاً ، وليس الفن في نهاية المطاف ذلك المسعى كامل الوضوح ؛ غير أنني أجد رؤية شوبنهاور موغلة في الحسية العاطفية عندما تصوّر الفنّ كاستخدام رفيع لملكات المرء الفكرية والأخلاقية وكمحاولة أيضاً لتجاوز الذات باتجاه رؤية أكثر شمولاً للعالم .
يبدو شوبنهاور حالة إستثنائية مميزة بين الفلاسفة من حيث عشقه وتقديره الواضحان للفن ، وأرى أن الكثير من التنظير الفلسفي بشأن موضوعة الرؤية الفلسفية للفن هي مجادلات مفتقرة إلى الخيال وتقتصر على وضع رؤية محدودة لأحدهما في مقابل رؤية محدودة للآخر ، وغالباً مايكتنف تلك المجادلات تساؤلات سقيمة لاتنتهي من قبيل : هل الفن من أجل الفن أم من أجل المجتمع ؟
ماغي : إحدى المعضلات الملازمة بشكل مؤكّد تقريباً لكلّ فلسفةٍ للفنّ هي كون تلك الفلسفة تنطوي في جوهرها على طبيعة إقصائية ؛ إذ ماأن يظنّ المرء أن كلّ الفن ينبغي أن ينضوي تحت شكل محدّد من أجل الإيفاء بمتطلبات تلك الفلسفة فسيتبع ذلك وعلى نحو تلقائي إعتبار كلّ مالايفي بتلك المتطلبات شيئاً خارج نطاق الفنّ .
مردوخ : يبدو من حسن حظنا جميعاً أن الفنانين لايعيرون الكثير من الإهتمام إلى الفلاسفة ؛ ولكن يمكن أحياناً للفلسفة أن تدمّر الفنّ من حيث أنها قد تعمي أبصار الناس عن رؤية بعض أشكال الفنّ ، أو قد تجعلهم ينتجون شكلاً واحداً فحسب من أشكال الفنّ ويهملون الاشكال الأخرى العديدة الممكنة .
ماغي : أحد الأمثلة الصارخة في عالمنا الحديث للمدى التدميري الذي يمكن أن تبلغه الفلسفة في ميدان الفن هو الماركسية : تبعاً للنظرية الماركسية فإن للفنّ دوراً محدّداً يتلخّص في كونه أداة للثورة الإجتماعية ، وثمة الكثير من الفنّ الماركسي بشتى الأشكال ( روايات ، مسرحيات ، لوحات فنية ، أعمال نحتية ،،،،،، الخ ) وأراني مدفوعاً للقول بأنني أعتبر معظم تلك الأعمال الفنية نفايات عقيمة ، وهي نفاية كما أرى لأن الدافع لخلقها لم يكن دافعاً فنياً مبعثه الأصالة والتفرّد بل هي جزء من عملية دعاية ( بروباغاندا ) سياسية وأيديولوجية في المقام الأول .
مردوخ : أراني بكل قناعتي المؤكدة بعيدة عن مشاطرة رأي هؤلاء الذين يرون أن وظيفة الفنان تكمن في خدمة المجتمع ، والماركسيون ، كما أفترض ، يعتقدون جازمين بصوابية القول أن الفنان خادم للمجتمع رغم وجود الكثير من الجدالات المطوّلة بينهم بشأن كيفية إنجاز هذا الأمر : يتمسّك بعض الماركسيين بالنظرة المتطرفة التي تقول أن الفنّ ليس سوى كرّاسات مصورة أو ملصقات إعلانية تعكس الحالة الحاضرة للثورة ، وأن الروائيين والرسّامين يتوجّب عليهم مهاجمة ” الأعداء الإجتماعيين ” وإضفاء هالة التمجيد على تلك الإحتياجات والأهداف التي تسعى لها شعوب هؤلاء الماركسيين . إن اللوحات السوفييتية الحديثة التي تصوّر العاملين النبلاء في الحقول الزراعية أو العالمات الشابات الكادحات ماهي إلا أمثلة لذلك النوع من الفن المشحون بالمزايا التي تخاطب المشاعر العاطفية المباشرة . ثمة رؤية ماركسية أكثر ذكاءً وتحرراً ترى الأدب كتحليل عميق للمجتمع ، وقد إتّخذ جورج لوكاتش هذا النوع من الرؤية قبل أن يُجبَرَ قسراً على الإعتراف بأنه ” مخطئ ” . يميّز لوكاتش تمييزاً صارماً بين النزعة ( الواقعية Realism ) التي يراها إستكشافاً تخييلياً للهيكل الإجتماعي ، وبين النزعة ( الطبيعية Naturalism ) التي هي إستنساخ ساذج أو إنطباعي محض ، ووصف لوكاتش روائيي القرن التاسع عشر العظام بأنهم واقعيون بمعنى أنهم أخبرونا في سياق أعمالهم بالكثير من الحقائق العميقة عظيمة الأهمية بشأن مجتمعاتهم . أراني من جانبي ميالة لإعتبار لوكاتش مصيباً في كيل المديح لهؤلاء الروائيين ؛ غير ان التحليل المعمّق للمجتمع بطريقة يولع بها أي ناقد ماركسي لم تكن الهدف الجوهري لهؤلاء الكُتّاب العظام وماكانت الأمر الوحيد الذي يرومون فعله ؛ إذ في اللحظة التي يخاطِب فيها كاتب نفسه بالقول ” يتوجّب عليّ أن أحاول تغيير المجتمع من خلال كتابتي وبهذه الوسيلة أو تلك ” فإنه يكون على الأغلب قد غامر بتدمير القيمة الإبداعية لعمله .
__________
*المدى