بضع محاضرات للفيلسوف الأمريكي رتشارد رورتي (19312007) تحت عنوان «الخلاص من الأنانية: هنري جيمس ومارسيل بروست كتمارين روحية»، لفتت نظري إلى كتاب من كتب الناقد الأمريكي هارولد بلوم (1930) عنوانه «كيف تقرأ ولماذا؟». في هذه المحاضرات كاد الفيلسوف أن يتخلى عن جهد عمره الفلسفي، ويعتنق رؤيا الناقد الأدبي، فيثمن منذ البداية قوله «إن الجواب النهائي على السؤال، لماذا نقرأ، هو أن القراءة الدائمة والعميقة، والقراءة وحدها، هي ما ينشئ ويعزز ذاتاً حرة مستقلة». أما نوعية القراءة فكانت تعني عنده «قراءة الروايات والمسرحيات والقصص القصيرة والقصائد»، ولم تتضمن قائمة الكتب التي يوصي بها أي عمل من أعمال الفلسفة. كان واضحا،ً كما يقول «رورتي»، أن منطق الناقد عنى ضمنياً أن الأدب الإبداعي، لا الأدب الجدالي هو الطريق نحو تحقيق التحرر.
هذا العرض والتثمين لنحو من التفكير الأدبي وتبعاته من قبل فيلسوف معروف بأنه كان أحد أبرز دعاة الاتجاه المنفعي في الفلسفة (البراغماتي)، أي التحول من فيلسوف يقيس ماهو حقيقي بمنفعته إلى شاعر، كان مدهشاً بالنسبة إلي. ولدى متابعتي لهذه العلاقة بين المحاضر وصاحب الكتاب، اكتشفت ما زاد دهشتي؛ أن «رورتي» كتب مقالة قصيرة كانت أشبه بوصيته الأخيرة عنوانها «نار الحياة» نشرها في مجلة «شعر» الأمريكية الشهيرة في 18 نوفمبر/ تشرين الثاني 2007، أي قبل وفاته ببضعة أسابيع، يصف فيها جلسة له يتناول فيها القهوة مع أكبر أبنائه، وأحد أقاربه أمام نار مدفأة هادئة. يسأله قريبه عما إذا اتجهت أفكاره بعد أن علم بإصابته بمرض السرطان إلى موضوعات ميتافيزيقية، فيقول «لا»، ويسأله ابنه، وماذا بشأن الفلسفة؟، فيجيب «..ولا الفلسفة، ما كتبت منها وما قرأت، بدا أن لها ارتباطاً بوضعيتي»، فيعود ابنه إلى الإلحاح ويسأله عما إذا كان لأي شيء قرأه فائدة؟ فيقول «رورتي» بلا تفكير «بلى.. الشعر». ويردد السطور التالية من قصيدة للشاعر الانجليزي «والتر لاندور» (1775- 1864):
أحببتُ الطبيعة، والفن بعدها
إنني أدفئ كلتا يديّ أمام نار الحياة،
تأفل، وأنا أستعد للمغادرة.
ويكتب في نهاية مقالته:«أتمنى الآن لو أنني قضيتُ المزيد من حياتي مع الشعر.. لأنني كنتُ سأعيش حياة أكثر امتلاءً. الثقافات ذات المفردات الثرية أكثر إنسانية من تلك الأفقر بالمفردات، والنساء والرجال يكونون إنسانيين أكثر حين تحتشد ذكرياتهم بعدد وافر من السطور الشعرية».
* * *
هذه السطور الأخيرة تكاد تكون تلخيصاً لما رأى الناقد «هارولد بلوم» في كتابه المشار إليه أنه أحد أهم موضوعات القراءة، أي الأعمال الإبداعية، وليس الشعر وحده الذي تمسك «رورتي» بأهدابه في لحظاته الأخيرة على الأرض قبل رحيله في ليل الأبدية.
كلمة القراءة عنت لدى الناقد قراءة كتب لا تجادل، أي الدعوة إلى «الثقافة الأدبية»، وتجنب ما أطلق عليها تسمية الكتب «الأيديولوجية» ومثالها محاولات فلاسفة في نقد الماورائيات (الميتافيزيقا)، أو النظم الاقتصادية، أو السلطة، ليقول للقارئ عماذا يبحث وهو يقرأ الأدب الإبداعي. ورأى أن هيمنة النظريات والدراسات الثقافية على أقسام الأدب في الجامعات جعلت من الصعب على الطلبة أن يقرأوا بشكل جيد، لأن هيمنة السياسة والفلسفة على الأدب تمحو القوة المخلصة للأعمال الإبداعية.
«رورتي» الفيلسوف يوافقه الرأي، ويشرح كيف أن نقد «بلوم» باطنه اعتقاده بأن الجدّة الإبداعية، لا المجادلة، هي التي لها الدور الغالب في تحرير القارئ. ولا يحتاج الناقد إلى إنكار أن أعمال مثل الاقتصاد السياسي لدى «كارل ماركس»، ومثل أعمال «جاك ديريدا» الفلسفية، يمكن أن توفر جدة مثل هذه، ولا إنكار أن التعرف إلى هذه الأعمال يمكن أن يغير حياة قارئ، ولكن نوع التحرر الذي يفكر فيه هو في المقام الأول من النوع الذي يحرّر المرء من طرق تفكيره السابقة بشأن حياة ومصائر الكائنات الإنسانية. هذا النوع يجعلنا نعيد التفكير في أحكامنا على أناس معينين، ويعمل الأدب الإبداعي الكثير ليساعدنا في الانفصال عن ماضينا.
بالطبع، قد يقود التحرر الناجم عن هذا إلى محاولة تغيير الوضع القائم، سياسياً كان، أو اقتصادياً، أو دينياً، أو فلسفياً، وقد تستغرق محاولة من هذا النوع حياة كاملة تمضي نحو اختراق الأفكار التي يتلقاها الناس، وتبرر وجود مؤسسات الزمن الراهن، إلا أن نتيجتها قد تكون مجرد أن يصبح المرءُ أكثر حساسية، وأكثر دراية، وشخصاً أكثر حكمة. التغيير من هذا النوع الأخير هو ما نلحظه يلم بشخصية بطل رواية «السفراء» لهنري جيمس، ويتباين مع التغيير الذي يلم ببطل رواية «عناقيد الغضب» المحتقن لشتاينبك، وأيضاً مع التغيير الموصوف في روايات تركز على اكتساب الإيمان الديني، أو فقدانه.
أما لماذا يطلب الناقد تجنب الكتب الأيديولوجية، فلأنه يأخذها مأخذ منظومة أفكار عامة معادية للتحرر والاستقلال، حين توفر سياقاً يضع القارئ فيه كل كتاب يقرأه، ويقوم بتقييمه وفق معايير هذا السياق. القارئ المثالي بالنسبة له هو من يأمل أن يجدّد كل كتاب تالٍ يقرأه سياق كل الكتب التي سبق وأن قرأها، وأنه سيواجه مخيلة مؤلف إبداعي تبلغ من القوة حد أن تفقده مواطئ قدميه، وتنقله إلى عالم لم يعرف بوجوده أبداً. وستبدو، في هذا العالم الجديد، كل الشخصيات التي عرفها في الماضي مختلفة، وكذلك كل المؤلفين، تماماً مثلما يبدو الشاعر «ملتون» مختلفاً حين يقابله المرءُ عند الشاعر «بليك»، أو حين يقابل فيلسوفاً مثل «هيجل» عند «ماركس»، أو «هاملت» لدى «إليوت»، وسيبدو أصدقاؤه الأحياء وجيرانه مختلفين، ومختلفة علاقاته بهم، وكذلك خياراتهم ودوافعهم أيضاً.
* * *
يقول «رورتي» شارحاً أن ما يدعى «الأصالة» في فلسفة «هايدجر» هو ذاته ما يدعوه «بلوم» التحرر بالقراءة. وطريقة تحقيق كلا المفهومين تلخصه الحكمة التي يستعيرها الأخير من د.جونسون «نظف عقلك من الدارج». والدارج المقصود هنا يعني شيئاً ما مثل «ما يقوله الناس عادة بلا تفكير»، أو «الأمر الذي يقال عادة». ويمكن أن يكون الدارج أي شيء، بدءاً من الحس الفطري المشترك، ما يدعى الحكمة الشعبية، مروراً بتكرار مقتطفات من بعض النصوص بلا تفكير، وصولاً إلى التكرار الببغائي لأفضل الجمل المشهورة في أعمال «هايدجر» و«بلوم» ذاته.
في هذا العرض تمازجت أهمية القراءة مع نوعية القراءة التي يوصي بها الفيلسوف والناقد، إلا أن تركيزهما على نوعية ما نقرأ، وأثره في تشكيل إنسانية الإنسان، وفي توسع آفاقه، وتحريره من دارج ورائج القول، جاء فتحاً ثقافياً ذا جدة غير مسبوقة على حد علمنا. لا أحد في الزمن الراهن يحاول البرهنة على أهمية القراءة، فهي بدهية برهن تاريخ الإنسانية كله على أهميتها العظمى، ولكن ما ظل موضع خلاف هو ماذا نقرأ، وكيف نقرأ، ولأي غرض نقرأ. وأعتقد أن عبارة «نقرأ لنتحرر» تكفي، فهي تفتح أفقاً، وياله من أفق.