*طاهر علوان
مع تراكم أفلام الخيال العلمي، تتكرّس أحيانا النمطية، خاصة تلك التي تتعلق بالأبطال الافتراضيين والخارقين من جهة، وأيضا الغوص في الأزمنة من جهة أخرى، لا سيما المستقبلية أو في العودة إلى الماضي، لكن هذا لا يعدم في كل مرة تجارب مختلفة لا تتقيد بالضرورة بكل هذه الأسس، وتنحو منحى تجريبيا مختلفا، كما هي الحال في فيلم “كل شيء جميل بعيد” للمخرجين بيتر أوس وأندريا سيسون (إنتاج 2017).
والمخرجان تخليّا تماما في هذا الفيلم عن التعريف بعنصري الزمان والمكان، ليظهر “ليرنرت” (الممثل جوزيف كروس) يسير في صحراء قاحلة يرافقه صوت خارجي يتحدث عن روبوت أصيب بالعطب من جراء عصف الرمال ونفاد الطاقة، ثم نكتشف أن ذلك الروبوت المسمى “سوزان” لم يبق منها سوى الرأس الذي يشارك ليرنرت أفكاره، وهو يتقلّب في تلك الصحراء المديدة.
وفي وسط هذا سيكتشف ليرنرت فتاة شبه هالكة بسبب العطش ويقوم بإسعافها، لتنظم “لورا” (الممثلة جوليا غارنر) إليه في تلك المسيرة الشاقة، ونكتشف أن ليرنرت يبحث عن بحيرة الكرستال المجهولة وأن الروبوت مبرمج على هذه المهمة.
والرحلة إلى المجهول، هي التي تحرك الشخصيتين في نوع من التيه الذي لا نهاية له، ومع الرتابة وتكرار المشاهد بسبب نمطية المكان، فإن من الحلول الجمالية التي تم الاشتغال عليها بعناية كبيرة من قبل المخرجين تمثل في التصوير، سواء من خلال أحجام اللقطات أو الزوايا.
وبالفعل، اكتظ الفيلم بتلك المشاهد عميقة التعبير، من خلال استثمار المخرجين جيدا للمدى الصحراوي الفسيح، في تزامن مع انشغال الشخصين بهمومهما اليومية وكيفية مقاومة الموت جوعا وعطشا. ومن الواضح أن الفيلم هو من نوع الأفلام المتقشّفة وقليلة التكلفة، ودلّ على ذلك محدودية الشخصيات والأماكن، لكن ذلك الإنتاج قليل التكلفة قدّم ما يشبه قصيدة شعر سينمائية مجردة، ولم يكن الالتفات لوجود الروبوت إلاّ على سبيل التذكير بأننا بصدد ما هو خيالي، لا سيما وأن الروبوت يكشف عن سعة ما يخزّنه في رأسه وقدرته على تحديد جغرافية المكان.
وفي المقابل، تتصرف الشخصيتان الهائمتان في الصحراء المديدة والمعرضتان للهلاك في أي وقت في ما بينهما بحيادية تامة، وكل منهما لا ينتظر إلاّ بحرا مجهولا ومدينة غير معلومة، ولكن من دون أن يعرّفا بالبلاد التي إليها ينتميان، أو من أين جاءا ولماذا؟
وينتهي المشاهد إلى اكتشاف أنهما شخصيتان خارج الزمان والمكان، وليس مطلوبا منهما أن يكونا غير ذلك إلى النهاية، فيطرحان أسئلة تتعلق بشؤونهما الخاصة ويؤكدان اغترابهما عن أقرب الناس إليهما ممثلة في العائلة.
ولعل ما يلفت النظر أيضا، هو استخدام الروبوت استخداما مزدوجا، فهو يستخدم للتعليق على الأحداث بوصفه راو من جهة، وبوصفه مرافقا للشخصيتين في رحلتهما نحو المجهول من جهة ثانية، وهو في كل الأحوال خط سردي مواز تم توظيفه لغرض الخروج من نمطية الشخصيتين، وكونهما هما اللذان يستحوذان على جميع الأحداث تقريبا. وفي جانب آخر، بدت الشخصيتان وكأنهما غير مطالبتين بالتعبير عمّا يجول في داخلهما، بل وكأنهما صارا امتدادا لذلك السلوك الروبوتي، فهما لم ينجذبا لبعضهما قط إلاّ في المشاهد الأخيرة، حيث بدت مشاعرهما قاحلة كمثل تلك الصحراء القاحلة، والتي قررا الرحيل في امتدادها اللامتناهي.
ومع ذلك، وفي وسط الفيلم بدأ الإيقاع الفيلمي بالهبوط، نظرا لاستنفاد القيمة الدرامية وغياب خطوط الصراع وعدم وجود حبكات ثانوية ترتقي بذلك الإيقاع، ومن هناك بات المُشاهد أمام نوع من السرد الخطي المفرغ من المفاجآت والتماهي مع الشخصيات المنشغلة بهوامش يومية، كما يعاب على المخرجين إهمالهما لنمو الدراما الفيلمية، فلو تم زج الشخصيتين في خلاف أو مواقف متناقضة، أو لو تعمقت الشخصيتان في هواجسهما الخاصة لمضى البناء الدرامي إلى نهاياته بشكل إيجابي.
وبموازاة هذه المآخذ، نلمس نزعة لجأ إليها المخرجان في محاولة الخروج عن نمطية فيلم الخيال العلمي، بزجهما لمسة قد تبدو هامشية، إلاّ أنها توحي بذلك الخيال، من خلال الإبقاء على الروبوت إلى النهاية.
وفي المشاهد الأخيرة ولدى العثور على البحر اللامتناهي تتدفق جمالية الصورة أيضا، من خلال اللقطات الكبيرة، لا سيما وأن الشخصيتين تصلان أخيرا إلى مبتغاهما، لكن السؤال الذي لن تتوفر إجابة عنه تتعلق بثيمة ذلك البحر الكرستالي وأي وظيفة له، فيما إذا كانا سيبحران فيه أو سينتقلان إلى تلك المدينة المجهولة؟
ولعل جغرافية المكان والطبيعة هما العنصران الأكثر جمالية واستخداما في فيلم “كل شيء جميل بعيد”، حيث بدت تلك الصحراء المترامية وكأن الشخصيتين قد هبطتا عليها من كوكب آخر، إذ كان ملفتا للنظر أنهما اكتشفا نباتا بقيا يتغذيان منه طيلة الرحلة، فضلا عن الطريقة الطريفة في استخراج المياه بواسطة ذلك المسبار المبسط الذي أنجاهما من الموت عطشا.
______
*العرب
مرتبط