القارئ الرسام

*يوسف أبو لوز

كل كتابة عن القراءة تنطوي على سعادة غامرة لا يشعر بها حقاً سوى أولئك الذين لا يعتبرون الكتابة وظيفة أو عملاً ثقيلاً إجهادياً، (بعض الصحفيين مثلاً بل أغلبهم)، إذ تعتبر الكتابة في «حالة السعادة أو الشغف» شكلاً من أشكال الاحتفاء.. إنها أي الكتابة عن القراءة بمثابة مهرجان أو عيد. بشغف نادر يتحدث الكاتب الأرجنتيني «البرتو مانجويل» عن الكتب التي قرأها هو الذي يمتلك مكتبة فيها أكثر من مليون كتاب، ويتحدث «بورخيس» عن الكتب وكأنها كائنات حية، وعندما كان الشاعر محمود درويش يتحدث عن قراءاته يذهب إلى الحديث عن الروايات أكثر مما يشير إلى كتب الشعر، وما من كاتب كبير تسأله عن قراءاته إلا وأشار إلى الكتب المرجعية في الحضارات بشكل خاص إلى جانب التاريخ والأسطورة والجماليات والأدبيات الكلاسيكية القديمة بشكل خاص.
الكتابة عن القراءة هي في حد ذاتها قراءة ثانية أو قراءة استعادية سمها (قراءة مركبة).. إنها كتابة جاذبة حميمية بشكل خاص، فأنت عندما تكتب عن كتاب قرأته فأنت لا تقوم بما يفعله الصحفي السريع، أي عرض الكتاب، بل تستعيد ما هو روائحي، حسي، عاطفي، إنساني، نفسي لمجمل مكونات الكتاب من المؤلف إلى شخصياته إلى أمكنته وإلى أزمنته الجامدة والمتحولة.

(١)

يمكن أن تسمي القراءات المرجعية (قراءة عليا) أي أنها تعود إلى أمهات الكتب، والموسوعات والمعاجم والكتب التي تسمى (دائرة معارف).. الكتب ذات الأجزاء وكل جزء في حد ذاته هو أشبه بدولة ولا نقول دولة من الورق، بل دولة معرفة، دولة الفكر والفلسفة والحكمة ودولة التاريخ.
لا يمكنك أن تعطي، على سبيل المثال، وصفاً آخر غير وصف «القراءة العليا» لكتاب مثل «قصة الحضارة» للمؤرخ الأمريكي والباحث «الآلة» في الحضارات «وول ديورانت».

«الكوميديا الإلهية» أيضاً تحمل معنى القراءة العليا، وكذلك مؤلفات من مثل «كتاب الموتى» و«ألف ليلة وليلة» وعلى مستوى السرديات لم يسأل كاتب له اعتبارية أدبية عن قراءاته إلا وأشار إلى رواية «دون كيخوت» للإسباني ميجيل دي سيرفانتس وعلى هذا المنوال قس إلى ما لا نهاية من «القراءة العليا».

(٢)

القراءة الوسطى، إن أمكن الوصف تتلخص تدريجياً مما هو مرجعي وله صلة بالتاريخ والحضارات والثقافات القديمة (السومرية، البابلية، الفينيقية، الكونفوشية، الزرادشتية، الزن.. وإلى آخره) وهنا- اجتهاداً لا أكثر- أقول إن الأسطوريات الأثينية اليونانية مثل (الإلياذة) على سبيل المثال قد تقع في خانة (القراءة الوسطى).. مرة ثانية هو اجتهاد أرجو أن يلقى نقضاً أو نقداً بوصفهما إضافة إلى الاجتهاد لا نسفاً له.
إن الأدبيات السردية في القرن الثامن عشر والتاسع هي أيضاً قراءة وسطى، وهنا، وكما يلاحظ القارئ فإن هذا النوع من التصنيف أي القراءة العليا، والوسطى، والصغرى أو الدنيا يتصل بما هو زمني لا أكثر ولا يحمل هذا التصنيف تمييزاً نقدياً أو تمييزاً تقويمياً أو تقييمياً، فتاريخ الكتاب والقراءة له مراحل وله حقب، وكل مرحلة وكل حقبة لها قيمها الفنية والأسلوبية والجمالية.
الأدب الروسي، والفرنسي، والصيني، وبخاصة الرواية قد تقع في إطار القراءة الوسطى، وهنا يلاحظ القارئ وحده أن صناعة الترجمة بشكلها التوسعي واعتبارها حرفة قد أخذت تزدهر في القرن التاسع عشر والقرن العشرين على يد مترجمين كبار مثل سامي الدروبي مثالاً لا حصراً، ومن بوابة الترجمة سوف تزدهر القراءة الوسطى.

(٣)

القراءة الصغرى أو القراءة الدنيا هي قراءة أدبيات وجماليات وسرديات القرن العشرين الذي سيعرف مصطلحات مثل الحداثة، وما بعد الحداثة، سيعرف مصطلحات من مثل الاستشراق، وظهور مدارس نقدية وفنية مثل السوريالية، والدادائية، والتجريدية سواء في الكتابة أو في الفنون.
نشير هنا إلى عناوين كبرى في الفلسفة والنقد الأدبي، (ثم تالياً النقد الثقافي).. هذه العناوين هي إنتاج معرفي ضخم في القرن العشرين، غير أن الشعر بشكل خاص، والشعر العربي هو المقصود هنا، قد شهد في النصف الثاني من القرن العشرين ثورة انقلابية على وزن الخليل بن أحمد الفراهيدي، وتمثل ذلك في قصيدة التفعيلة، وتالياً قصيدة النثر.
قراءة الشعر قراءة مرجعية (قراءة عليا) ذلك أنه ديوان العرب منذ ما قبل الجاهلية وحتى اليوم.. لكن هذا الفن العربي الذي يتصل بجوهر الثقافة العربية والهوية العربية الأدبية وحتى النفسية، أقول هذا الفن سيشهد أكثر من مستوى للقراءة، في مستواه الكلاسيكي التقليدي (قراءة ادونيس مثلاً للشعر العربي في مقدمته المهمة جداً لكتابه المؤلف من ثلاثة أجزاء «ديوان الشعر العربي»، إضافة إلى اختياراته لنماذج في حد ذاتها، وبخاصة ذلك الشعر الذي يحمل في داخله معنى وجودياً إنسانياً فكرياً وفلسفياً).
قرئ الشعر العربي، أيضاً، في مستواه الحداثي، وقرئ في مستواه التجديدي والتجريبي والتجريدي، أي المستوى المتماهي مع المدارس الفكرية والفنية والفلسفية التي ظهرت في الغرب مثل السوريالية على سبيل المثال لا الحصر.
إذا، تلون الشعر بأطياف قرائية عدة، نقدية وغير نقدية، أي القراءة الشعبية، وفي هذا الإطار سيكون شاعر مثل نزار قباني مقروءاً على مستوى عريض، جماهيري ونخبوي، أيضاً من شرقي الوطن العربي وحتى غربه، سيكون محمود درويش أيضاً مقروءاً شعبياً ونخبوياً في البلدان العربية كلها.. وكذلك الجواهري (الكلاسيكي) والبردوني (الكلاسيكي) أيضاً.
ما هي عدة القراءة؟
كأي حرفي أو مهني لا بد أن تتوفر للقارئ (عدة شغل) و(عدة شغل) القارئ تتمثل في قوة خياله، وفي مزاجه، وروحه المتقبلة للنص المقروء، قارئ لا ينفي الكاتب، ولا يصادره ولا يمحوه إذا اختلف معه في الرأي.
يتحول القارئ، أحياناً، إلى سلطة نقدية وسلطة رقابية، بل هناك قارئ معبأ في الأصل وموجه، وهنا تحضرنا جميعاً قصة ذلك الشاب المصري الذي حاول اغتيال نجيب محفوظ بطعنه في رقبته بسكين، فعندما وقف ذلك الشاب في المحكمة سأله القاضي في ما إذا قرأ شيئاً لنجيب محفوظ جعله يغضب إلى حد ارتكابه جريمة، ويا للمفاجأة فقد قال الشاب نعم لم أقرأ أي شيء للروائي العربي الوحيد الذي حاز «نوبل».
لكنني هنا لا أريد أن أتحدث عن هذا النوع من القراء المحتشدين بالكراهية، وهم كثر، بل أذهب إلى قارئ مشرق جميل، إنه القارئ ذو المخيلة.. وأسميه هنا: القارئ الرسام.
يستخدم القارئ الرسام مخيلته، ويستعير من الفنان التشكيلي قدرته على تحويل الألوان إلى كائنات وبسرعة أقول نقرأ ونرسم، نقرأ مشهداً في رواية تتحدث مثلاً عن سهوب الثلج البيضاء في سيبيريا، فنرسم في خيالنا سهوباً بيضاء.. نقرأ قصيدة لرسول حمزاتوف مثلاً فنقوم في خيالنا برسم جبال داغستان وهكذا إلى ما لا نهاية.
في العدد الثاني من مجلة «شؤون أدبية» الصادرة عن اتحاد كتاب وأدباء الإمارات في العام 1985إن أسعفتني الذاكرة نقرأ مادة عنوانها «القراءة بوصفها عملاً إبداعياً»، ولعل القارئ المبدع هنا هو ذلك الذي يمتلك مخيلة حرة.. فهو يقرأ ويترجم ما يقرأه إلى ألوان وظلال، وربما يترجم ما يقرأ إلى مشهد متخيل على خشبة المسرح، وإذا كانت درجة حساسية هذه المخيلة عالية، فقد يترجم ما يقرأ إلى قطعة موسيقى.

(٥)

قبل سنوات قرأت رواية «العطر» للكاتب الألماني «زوسكند» وهي قصة قاتل أراد أن يصنع عطراً من خلال حاسية الشم المذهلة عنده فهو ولد هذا القاتل واسمه «جرونوي» بلا رائحة، إنسان ولد تحت عربة سمك، وتركته أمه وهربت ليكتشف في صباه وربما في شبابه أنه بلا رائحة.
يرتكب «جرونوي» جرائم قتل مسرحها فتيات في العشرين من أعمارهن، وباقي القصة معروف لمن قرأها ولا داعي للتكرار هنا، غير أنني وأنا في الصفحات الأخيرة من الرواية وأذكر كان الوقت قبيل المساء، أخذت أتعرق وبلا وعي مني قمت وفتحت باب شقتي، وأكملت الرواية ممتلئاً كلياً بشيء واحد اسمه: الخوف.
على الجانب الآخر هناك من يخاف من القراءة.. السلطات الديكتاتورية الأحادية الحزبية تحديداً وذات النظم الطغيانية تخاف من القراءة وتحرق الكتب.
لماذا يرمي المغول كتب بغداد عندما دخلوها إلى نهر دجلة، ليتحول النهر إلى لون أسود بعد أن ذاب حبر الكتب في ماء النهر.
إنه الخوف، الخوف من الكتب، والخوف من القراءة التي تصنع الوعي والتفكير والنقد.
في العام 1526ميلادية وبدافع الخوف أيضاً أصدر الملك الإنجليزي «هنري الثامن» قائمة رسمية بالكتب الممنوعة ويقول الكسندر ستيبتشفيتش في «تاريخ الكتاب- الجزء الثاني»: «كان هذا الملك يرى أن أكبر خطر يتمثل في دعاة الإصلاح الألمان والإنجليز وخاصة في كتب لوثر غير أن قائمة الكتب الممنوعة كانت صغيرة ومنع مواطنيه من قراءتها فقد كانت تتضمن 18عنواناً».
بدافع الخوف من القراءة أيضاً أصدر «هنري الثامن» قائمة أطول تتضمن 85 عنواناً وتمنع قراءتها.

(٦)

الزمن الثقافي الحضاري والعالي والانفتاح والتعايش وقبول الآخر في الإمارات هو زمن القراءة في عشرية القراءة وما بعدها.. زمن احترام الكتب، والنمو الملحوظ في صناعة النشر في دولة تعيش على أرضها أكثر من 200 جنسية تقرأ بلغات بلدانها إلى جوار لغتنا العربية الأم.. لغة القراءة، ولغة الشعر، ولغة الكتابة في بلد تكرم الكتاب والكتّاب والقراء.

_________
*الخليج الثقافي

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *