مشاهدات من داخل مكتبة عربية

*محمد إسماعيل زاهر

ونحن نحتفل بشهر القراءة، نشعر بأن هذه القضية في الوطن العربي مازالت تحتاج إلى مزيد من تكاتف الجهود كافة، التي ترصد مدارات فعل القراءة نفسه، وإذا دققنا النظر في هذا الفعل الخلاب والمدهش، وجدنا أن إشكالياته تعكس أزمات الثقافة ككل، بداية من فكرة الإقبال على الكتاب، وليس نهاية بعملية النشر والتوزيع والنقد.

(1)

القراءة فعل يبدأ من الطفولة، دهشة تنطلق من حدث ما يمر بالإنسان في لحظة محددة، هنا سنجد أنفسنا ننفتح على بدايات وعينا بالقراءة، وإذا كان لكل قارئ في طفولته دوافعه التي جعلته يمسك بكتاب ما ويتورط في عوالمه، ثم ينقطع عن القراءة أو يستمر فيها، فإن ذلك الفعل يطرح أسئلة تتعلق بمسألة كتب الأطفال أو أدب الطفل أو مجلات الكوميكس المصورة، ومسألة المواد المخصصة للقراءة في المدرسة، ومعظمنا يتذكر ذلك الجدب الشديد في المنتج الثقافي العربي المقدم للطفل، وذلك الملل الشديد الذي كانت تسببه دروس القراءة أو المطالعة في المدرسة، وأتصور أنه إذا كانت هناك أزمة في عدد القراء العرب مقارنة بأمم أخرى، فالسبب الرئيسي يعود إلى تلك الفترة، إلى الطفولة، ومعظم من واصلوا القراءة باستمرار بعد ذلك كان هناك أحد الدوافع الأخرى التي حثتهم على ذلك.

كتب الأطفال العربية في معظمها مكتوبة للأطفال، ومن هنا تأتي مشكلتها، مكتوبة بأسلوب رأسي ووعظي، حتى وإن تميز بعضها بالخيال فكثيراً ما نشعر بأنه مفتعل، يفتقد أصالة ما، ولذلك لم تكن يوماً موضوعاً للتحليل الثقافي، ولم تصلح يوماً لكي يقرأها الكبار، مثل أي قائمة من الحكايات التي كتبت للأطفال في ثقافات أخرى، وتحولت إلى موضوعات للبحث والدراسة.

(2)

القراءة فعل يستدعي حزمة من الأسئلة الأولية التي تتأسس عليها «ثقافة القراءة» أو القراءة كعملية معرفية، مثل لماذا نقرأ؟ وماذا نقرأ؟ وكيف نقرأ؟ وتتعدد الإجابات المتوقعة لكل سؤال حسب الشخص الذي نعمل على دفعه للقراءة، فعندما نتحدث إلى طفل عن فوائد القراءة «لماذا نقرأ»، سيختلف خطابنا بالتأكيد عن محاولة إقناعنا جمهوراً من الشباب بأهمية القراءة، أما إذا طرحنا السؤال بمكر على جمهور المثقفين فستواجهنا أزمة كبرى.
لماذا نقرأ؟ سؤال يحق لأي متابع للساحة الثقافية طرحه بصيغة استنكارية، فالإجابة تحتاج إلى مناقشة منتج ثقافي متراجع وفي أسوأ حالاته، لا أفكار جديدة، ولا قضايا جادة مطروحة للنقاش، ولا عمل أدبياً أو فنياً يعلق بالذاكرة بعد تلقيه، وحتى المعلومات التي نطالعها هنا أو هناك في بعض الكتابات، يبدو أن أصحابها يكررونها اعتماداً على قراءاتهم الأولى، في مراحل التكوين، وهناك حزم من الأفكار التي يتشبث بها أصحابها من المكرسين، برغم أن هذه الأفكار تغيرت أو تطورت في بيئتها الأصلية، أي أننا أمام فئة، منوطة بها القراءة الاحترافية، إما توقفت عن القراءة، وإما تقرأ ولا تجدد نفسها.

(3)

القراءة فعل انتخاب، ولا انتخاب من دون متابعة وتقويم ونقد، ومهما تشدقنا بكلمات تشعر الذي يسأل «ماذا أقرأ» بحريته في الاختيار، فإن ذلك لا يعفينا من مسؤولية إبداء الرأي. فكثيراً ما نطالع لهذا الكاتب أو ذاك مقولات من قبيل: «المهم أن نقرأ»..«أي قراءة أفضل من عدم القراءة»، وهي المقولات ذات الآثار شديدة السلبية على المستويات كافة.
تعج الكثير من المكتبات العربية الآن بكتب من قبيل: «فكر تصبح غنياً»، «أيقظ العملاق بداخلك»، «لا تهتم بصغائر الأمور»، «أفضل رجل مبيعات في العالم»، «كيف تكسب الأصدقاء وتؤثر في الناس»..وعشرات غيرها، وتوضع في أماكن بارزة في واجهات المكتبات، وتصدر في طباعة فاخرة، وتتصدرها كلمات تأخذ العين، على غلاف كتاب: «العادات السبع للناس الأكثر فعالية»، نقرأ: «الكتاب الذي بيعت منه أكثر من خمسة وعشرين مليون نسخة»، و«الكتاب الأكثر مبيعاً على الدوام»، وأصبحت هناك دور نشر متخصصة في هذه الكتب. وهنا سؤال يقفز دائماً إلى الذهن عند مطالعة مثل هذه العناوين: إلى أي مدى توزع هذه الكتب في العالم العربي؟ سؤال يحتاج إلى مزيد من الدراسة التي لا بد أن تعتمد على قراءة وتحليل هذه الكتب، ما الذي يدفع أي إنسان لمطالعة هذه الكتب؟ ماهي الإشباعات التي يحصل عليها القارئ من كتاب يتحدث عن خبرات غيره الحياتية مكتوبة بأسلوب شديد السطحية؟
والملاحظ أن هذه النوعية من الإصدارات والأساليب التي تستخدمها للترويج، لم تعد تقتصر على نوعية من الكتب خبرها المثقفون طويلاً، تستهدف شريحة معينة من القراء، بل هناك توجه الآن لترجمة كتب رصينة الغلاف، تصدرها دور نشر معروفة بجديتها وتحدثنا بالأسلوب نفسه في الفلسفة، وهناك بعض الفلاسفة الجدد الذين لا تختلف كتاباتهم عن تعليقات جمهور الفيسبوك وتويتر.
إذا انتقلنا من هذا الفضاء الذي لا يتابعه أحد، بوصفه ظل دائماً يتعلق ب «القراء المهمشين»، إلى فضاء آخر، مهم ومعتمد ضمن متن المثقفين العرب، ونعني الترجمة فسنجد ظاهرة لافتة، وهي تعدد ترجمات العمل الواحد، فمثلاً شاهدت في مكتبة واحدة خمس ترجمات متجاورة لرواية «العجوز والبحر» لهيمنجواي، أما الأدب الروسي فحدث ولا حرج، والقارئ الذي يطرح سؤال «ماذا أقرأ» سيكره الأدب الروسي إذا لم يطالع ترجمات سامي الدروبي وصياح الجهيم وأبوبكر يوسف، وسيكره الأدب الإسباني اللاتيني إذا لم يقرأ ترجمات صالح علماني، هذا القارئ مختبر للتجريب لأنه لم يجد أي متابعة أو تقويم أو نقد لذلك السوق الذي ينمو كل يوم، ونعني سوق النشر، حتى أصبحت الكتب أكثر عدداً من القراء.
عندما نستمر في جولتنا في المكتبة نفسها سنفاجأ بعشرات من الأسماء الجديدة، أسماء شباب يكتبون غالباً الرواية، هؤلاء لا يجدون من يتابعهم، أو يكتب كلمة نقد واحدة عنهم، كتب تصدر ولا يعلم عنها أحد شيئاً، كتب تملأ المكتبات، متى صدرت هذه الكتب؟ وما هو مضمونها؟ وما هي ثقافة أصحابها؟ ماذا قرؤوا؟ بمن تأثروا؟ البعض منهم يكتب أدب الرعب، أي بيئة أو ثقافة يعبر عنها، لماذا يكتب بعضهم بالإنجليزية؟ أسئلة كثيرة تحتاج إلى أن تطرح، وأعمال عديدة يجب أن تُقرأ عبر العرض والتقويم والنقد، حتى يحدث ذلك الانتخاب الطبيعي للكتب وأصحابها، الانتخاب الطبيعي للكتابة.

(4)

لا توجد قراءة من دون متابعة، والصورة السابقة ستملأ المشهد في المستقبل، وهنا على الجميع الانخراط في سؤال «ماذا نقرأ»، فالقارئ الجديد يحتاج إلى من يقول له هذا كتاب جيد وهذا كتاب رديء، والمثقف مطالب بقراءة عينة من الكتب الأكثر مبيعاً وأخرى من الترجمات الجديدة، وثالثة من كتابات الشباب، فبالتأكيد سيصل إلى نتائج فكرية واجتماعية ذات دلالة وأهمية، والناقد مطالب بإدلاء الرأي بعيداً عن المجاملات والشللية، وألاعيب المعادلات الرياضية وتهويمات أحدث النظريات النقدية، فنحن أمام نصوص وظواهر ثقافية ليست طبيعية، تحتاج إلى قدر كبير من الجرأة والصراحة.

(5)

القراءة فعل تغيير، وتغيير جذري في العقل أولاً، وفي المنتج الثقافي لاحقاً، وإذا حدث هذا التغيير بطرائق صحية، فنتوقع أن تتجاوز الثقافة العربية إشكالياتها كافة، لتستعيد موقعها بين ثقافات العالم المتقدم.

__________
*الخليج الثقافي

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *