لو كان لشارع بيل أن يتكلَّم*

*جيمس بالدوين/ تقديم : أحمد العلي

قامت توني موريسون، أوّل روائية سوداء تنال جائزة نوبل للآداب (1993)، بتحرير بعض أعمال جيمس بالدوين بعد وفاته لصالح مكتبة الأدب الأميركي، وكتبت فيما يخص الرواية بين أيدينا: «… إن براعتك الثالثة يا جيمي، والتي يصعب استكناه جذورها، وحتى قبولها، هي رقّتك؛ رقّة لشدّة رهافتها ظننتها لن تستمر [في كتاباتك]، ولكنها انداحت أكثر، وضمّتني. ففي ذروة غضبي، لمستني برقّة كما فعل جنينُ تيش في رحمها: رقّة يستعصي القبض عليها، مثل همسة في الزّحام». نجح جيمس بالدوين في كتابة قصّة رومانسيّة شبيهة بموسيقا البلوز، حيث خيوط الحُزن والفرح تنسُج قماشاً واحداً بديعاً ترتديه الشخصيّات لتنضح بالحياة حتى يكاد ضحكها يُسمع، وعرقها يترك نقطاً على الورق. لكنك لا تشعر بالحزن على القلبين الغضّين حين تقسو الحياة عليهما، بل يأخذك الانبهار من الجنين الذي، وهو في رحم أمه، يسيطر على والدته ووالده وأجداده وعمّاته وخالاته؛ كيف لنُطفة لا تزال تتخلّق أن تضخ كمّا هائلاً من مشاعر الشجاعة والتضحية والأمل، وحتى الكره والقسوة واليأس، وأن تشقّ طرقاً جديدة للحياة في حيوات أناس لم يروها تكتمل بعد؟ الحكاية تُروى بصوت تيش؛ فتاة سوداء في التاسعة عشرة من عمرها تعيش في حيّ هارلم من مدينة نيويورك. أحبّت رجلاً أسود يُدعى فوني في عُمر يقارب عمرها، واتّفقا على الزواج وباركت العائلتان قرارهما. ولكنه أُلبس قضيّة اغتصاب وأودع السّجن، بينما تكتشف تيش أنها حامل، قبل أن يكملا مراسم الزواج. وقتها، ولفقر عائلة فوني، تضطرّ عائلة تيش إلى تمويل رحلة بحث إلى بورتوريكو للعثور على الفتاة المُغتصبة الهاربة، والتأكّد منها: هل فعلاً قام فوني بتلك الفعلة الشنيعة؟ أم أن الشرطيّ بيل، المسؤول عن أمن الشارع الذي يسكن فيه فوني، هو من ألبسه التّهمة؟ إنها رحلة تكشف ألواناً من الظلم الاجتماعي والعنصرية وتشريع الجور، مقابل قوّة ضاربة من النضال المرفوع بأيدي الحُب والبراءة.

أﻧظر إﻟﻰ ﻧﻔﺳﻲ ﻓﻲ اﻟﻣرآة. أﻋرف أﻧﻧﻲ ﻋُﻣِّدت ﺑﺎﺳم: ﻛﻠﻳﻣﻧﺗﺎﻳن، ولذلك سيكون من الطبيعي أن يخاطبني الناس باسمي مختصراً: ﻛﻠﻳم، أو ﺣﺗﻰ به كاملًا، فهو اسمي في النهاية. ﻟﻛﻧﻬم ﻟم ﻳﻌﺗﺎدوا ﻣﺧﺎطﺑﺗﻲ بذينك الاسمين أصلاً، ﺑﻝ ظﻠّوا ﻳﻧﺎدوﻧني ﺗﻳش. وﻫذا، ﺣﺳب ظﻧﻲ، ﻟﻪ دﻻﻟﺔ ما. إﻧﻧﻲ ﻣﺗﻌﺑﺔ، ورحت أؤمن شيئاً فشيئاً بأن هناك دلالة ما لكل ﻣﺎ ﻳﺣدث ﻣن ﺣوﻟﻧﺎ؛ إذ ﻛﻳف ﻟﻪ أن ﻳﺣدث دون أن ﻳﻛون ﻟﻪ ﻣﻌﻧﻰ؟ ﻟﻛن ﻫذﻩ اﻟﻔﻛرة رﻫﻳﺑﺔ ﺣﻘﺎً، وﻻ ﻳﻣﻛن أن ﺗﻧﺟم إﻻ ﻋن ﻗﻠق، ﻗﻠق لا ﻣﻌﻧﻰ له.

ذﻫﺑت اﻟﻳوم ﻟرؤﻳﺔ ﻓوﻧﻲ. وﻫذا ﻟﻳس اﺳﻣﻪ هو أﻳﺿﺎً، ﻓﻘد ﻋُﻣِّد ﺑﺎﺳم: أﻟوﻧزو، ﻣﻣﺎ ﻳﺟﻌﻝ ﻣن اﻟﻣﺄﻟوف أن ﻳﻧﺎدﻳﻪ اﻟﻧﺎس باسمه المختصر أيضًا: ﻟوﻧﻲ. وﻟﻛن ﻻ، ﻓﻘد اعتدنا ﻋﻠﻰ ﻣﻧﺎداﺗﻪ ﻓوﻧﻲ. أﻟوﻧزو ﻫﺎﻧت ﻫذا ﻫو اﺳﻣﻪ. ﻋرﻓﺗﻪ طﻳﻠﺔ ﺣﻳﺎﺗﻲ، وأﺗﻣﻧﻰ أن ﺗدوم ﻫذﻩ اﻟﻣﻌرﻓﺔ إﻟﻰ اﻷﺑد. ﻟم أﻛن أﻧﺎدﻳﻪ ﺑﺎﺳﻣﻪ، أﻟوﻧزو، إﻻ ﺣﻳن أﻛون ﻣﺿطرة ﻷن أﻧﻘﻝ إﻟﻳﻪ ﻧﺑﺄً ﺳﻳﺋﺎً.

واﻟﻳوم ﻗﻠت ﻟﻪ: «أﻟوﻧزو!»

نظر إﻟﻲّ ﺗﻠك اﻟﻧظرة اﻟﺧﺎطﻔﺔ اﻟﺗﻲ ﻛﺎن ﻳرﻣﻳﻧﻲ ﺑﻬﺎ ﻛﻠﻣﺎ ﻧﺎدﻳﺗﻪ ﺑﺎﺳﻣﻪ.

إﻧﻪ ﻓﻲ اﻟﺳﺟن. وﻫﻧﺎك يجري ﻫذا اﻟﻠﻘﺎء ﺑﻳﻧﻧﺎ. ﻛﺎن ﺟﺎﻟﺳﺎً ﻋﻠﻰ ﻛﻧﺑﺔ وأﻣﺎﻣﻪ طﺎوﻟﺔ، وﻛﻧت ﺟﺎﻟﺳﺔ ﻋﻠﻰ ﻛﻧﺑﺔ أﻳﺿﺎً وأﻣﺎﻣﻲ طﺎوﻟﺔ، ﻳﻔﺻﻝ ﺑﻳﻧﻧﺎ ﺟدار زﺟﺎﺟﻲّ. وﻗد درﺟت اﻟﻌﺎدة أن ﻳﻛون أﻣﺎﻣك هاتف وأﻣﺎم اﻟﺷﺧص اﻟذي ﺗﻛﻠﻣﻳﻧﻪ ﺧﻠف اﻟزﺟﺎج هاتف آﺧر، فتتحدثان عبرهما. ﻻ أدري ﻟمَ درج اﻟﻧﺎس ﻋﻠﻰ ﺧﻔض ﺑﺻرﻫم إﻟﻰ اﻷﺳﻔﻝ ﻋﻧدﻣﺎ ﻳﺗﺣدﺛون ﻋبر اﻟﻬﺎﺗف! ﻟﻛﻧﻬم ﻳﻔﻌﻠون ذﻟك دوماً. أﻣﺎ ﻫﻧﺎ، ﻓﻌﻠﻳك أن ﺗﺗذﻛري أنك ﻣﺿطرة للنظر إﻟﻰ اﻟﺷﺧص اﻟذي ﺗﺗﺣدﺛﻳن إﻟﻳﻪ.

ﻣن ﺟﻬﺗﻲ، ﺑتُّ أﻧﺗﺑﻪ ﻟﻬذا اﻷﻣر؛ ﻷنه ﻓﻲ اﻟﺳﺟن، ولمحبتي لعينيه، وﻓﻲ ﻛﻝ ﻣرة أراﻩ ﻳﺳﺎورﻧﻲ اﻟﺧوف ﺑﺄن ﻻ أراﻩ ﺛﺎﻧﻳﺔ. وﻫﻛذا، رﻓﻌت السماعة ﻣﺎ إن ﺟﻠﺳت ﻋﻠﻰ ﻣﻘﻌدي. رﻓﻌﺗﻬﺎ ﻓﻘط، وأﺧذت أﺗﺄﻣﻠﻪ.

ولهذا، ﺣﻳن ﻗﻠت أﻟوﻧزو، ﻧظرَ إلى اﻷﺳﻔﻝ ﺛم رﻓﻊ ﻧظرﻩ مبتسماً، وﺣﻣﻝ السماعة ثم ﻟﺑث ﺻﺎﻣﺗﺎً.

ﻻ أﺗﻣﻧﻰ ﻷﺣد ﻓﻲ اﻟﻌﺎﻟم أن ﻳﻧظر إﻟﻰ ﻣن ﻳﺣبّ ﻋﺑر زﺟﺎج.

ﻟم أﻛن أﻋﻧﻲ ﺷﻳﺋﺎً ﺣﻳن ﻟﻔظت اﺳﻣﻪ. ﻓﻘد ﻟﻔظﺗﻪ ﺑﻌﻔوﻳﺔ ﺧﺎﻟﺻﺔ، ﺑﺣﻳث ﻻ أزﻋﺟﻪ، وﺑﺣﻳث ﻳﻔﻬم أن قلبي لا تحوم حوله حتى أوهى الظِلال ﻣن الشك فيه أو اتهامه.

هل ترين؟ أﻧﺎ أﻋرﻓﻪ ﺗﻣﺎﻣﺎً. ﻓﻬو ﻳﺣﻣﻝ ﻗدْراً ﻋﺎﻟﻳﺎً ﻣن ﻋزّة اﻟﻧﻔس، ﻛﻣﺎ أﻧﻪ ﻳﺣﻣﻝ اﻟﻛﺛﻳر ﻣن اﻟﻬواﺟس أﻳﺿﺎً. وﻋﻧدﻣﺎ أﻓﻛر في ذﻟك، ﺗﻧﺟﻠﻲ أﻣﺎم ﻋﻳﻧﻲ اﻟﺣﻘﻳﻘﺔ الصارخة؛ ﻫذا ﻫو اﻟﺳﺑب اﻷﻫم وراء وﺟودﻩ ﻓﻲ اﻟﺳﺟن. أﻣﺎ ﻫو ﻓﻼ ﻳﻌﺗﻘد بذﻟك. وﻷﻧﻪ ذو طﺑﻳﻌﺔ ﻗﻠﻘﺔ ﻣﺗوﺟﺳﺔ، ﻓﻟم أﻛن أرﻳد أن أﺛﻳر ﻗﻠﻘﻪ ﻋﻠﻲّ. ﻛﻧت ﻓﻲ اﻟﺣﻘﻳﻘﺔ ﻣﺗرددة ﻓﻲ ﻗوﻝ ﻣﺎ ﻛﺎن ﺧﻠﻳﻘﺎً بي ﻗوﻟﻪ. ﻟﻛﻧﻧﻲ اﻋﺗﻘدت ﺑﺄنه لا بد أن يعرف. ﻳﻧﺑﻐﻲ أن ﻳﻌرف.

ﻓﻛّرت أﻳﺿﺎً، ﺑﺄﻧﻪ ﺣﻳن ﻳﺗﺧﻠص من ﻫواﺟﺳﻪ، وﻫو راﻗد ﻓﻲ ﻓراﺷﻪ ﺧﻼﻝ اﻟﻠﻳﻝ، وﺣﻳداً ﻣﻊ ﻧﻔﺳﻪ، ﻏﺎﺋﺻﺎً ﻓﻲ أﻋﻣﺎق ﺳرﻳرﺗﻪ، ﻣﻔﻛراً ﺑﺎﻷﻣر، ﻓﺈن ذﻟك ﺳﻳﻣﻧﺣﻪ ﺳﻌﺎدة، وﻟﻌﻠﻪ ﻳؤﻧﺳﻪ ﻓﻲ وﺣﺷﺗﻪ.

ﻗﻠت ﻟﻪ: «أﻟوﻧزو، سنُرزق بطﻔﻝ».

ﻧظرت إﻟﻳﻪ. واﺑﺗﺳﻣت. ﺑدا وﺟﻬﻪ ﻛﺄﻧﻪ ﻳﻐوص ﻓﻲ اﻟﻣﺎء. ﻟم ﻳﻛن ﻓﻲ مقدوري أن أﻋﺎﻧﻘﻪ. ﻛﺎﻧت ﻟدي رﻏﺑﺔ ﺟﺎرﻓﺔ للمسه. اﺑﺗﺳﻣت ﺛﺎﻧﻳﺔ وﺗﻌرﻗت ﻳداي ﻓوق ﺳﻣﺎﻋﺔ اﻟﻬﺎﺗف. ﺗﻠَت ذﻟك ﻟﺣظﺔ ﻟم ﻳﻌد ﺑﻣﻘدوري ﺧﻼﻟﻬﺎ أن أراﻩ. نفضتُ رأﺳﻲ، ﻛﺎن اﻟﻌرق ﻳﺗﺻﺑب ﻓوق وﺟﻬﻲ، وﻗﻠت: «أﻧﺎ ﺳﻌﻳدة ﺑذﻟك ﻳﺎ أﻟوﻧزو. ﺳﻌﻳدة ﺑﻪ. اﻟﻣﻬم أن ﻻ ﺗﻘﻠق أﻧت. ﻓﺄﻧﺎ ﺳﻌﻳدة ﺟداً».

ﻏﻳر أﻧﻪ ﻛﺎن ﻗد ﻧﺄى ﺑﺗﻔﻛﻳرﻩ ﻋﻧﻲ، ﻧﺄى تماماً. اﻧﺗظرﺗﻪ حتى ﻳﻌود. وﻟﻣﺣت اﻟﺳؤاﻝ ﻳﻠﺗﻣﻊ ﻓﻲ ﻋﻳﻧﻳﻪ: «طﻔﻠﻲ؟» ﻛﻧت أﻋرف أﻧﻪ ﺳﻳﻔﻛر ﺑﻬذﻩ اﻟطرﻳﻘﺔ. ﻻ أﻋﻧﻲ أﻧﻪ ﻛﺎن ﻳرﺗﺎب ﺑﻲ. ﻟﻛن ﻣن ﻋﺎدة اﻟرﺟﺎﻝ أن ﻳﻔﻛروا ﺑﻬذﻩ اﻟطرﻳﻘﺔ. وﺧﻼﻝ اﻟﻠﺣظﺎت اﻟﺗﻲ ﻳﻌﻳﺷﻬﺎ ﻫﻧﺎ، وﺣﻳداً، ﺑﻌﻳداً ﻋﻧﻲ، ﺳﻳﻛون اﻟطﻔﻝ ﻫو اﻟﺣﻘﻳﻘﺔ اﻟوﺣﻳدة ﻓﻲ اﻟﻌﺎﻟم ﺑﺎﻟﻧﺳﺑﺔ إﻟﻳﻪ، ﺳﻳﻛون ﺣﻘﻳﻘﻳﺎً أﻛﺛر ﻣن اﻟﺳﺟن، وأﻛﺛر ﻣﻧﻲ.

كان عليّ منذ البدء القول إننا ﻟﺳﻧﺎ ﻣﺗزوﺟﻳن بعد. وذﻟك ﻳﺷﻐﻠﻪ أﻛﺛر ﻣنّي. ﻛﻧت أﻓﻬم ﻛﻳف ﻳﺷﻌر. ﻛﻧﺎ ﻧﺗﻬﻳﺄ ﻟﻠزواج، ﺣﻳن اﻋﺗُﻘﻝ.

ﻛﺎن ﻓوﻧﻲ ﻓﻲ اﻟﺛﺎﻧﻳﺔ واﻟﻌﺷرﻳن. وﻛﻧت أﻧﺎ ﻓﻲ اﻟﺗﺎﺳﻌﺔ ﻋﺷرة.

ﺛم طرح ذﻟك اﻟﺳؤاﻝ اﻷﺑﻠﻪ: «ﻫﻝ أﻧت ﻣﺗﺄﻛدة؟».

«ﻻ، ﻟﺳت ﻣﺗﺄﻛدة. أﺣﺎوﻝ ﻓﻘط العبث ﺑﺄﻓﻛﺎرك!» فاﺑﺗﺳم اﺑﺗﺳﺎﻣﺔ ﻋرﻳﺿﺔ. أﺷرق وﺟﻬﻪ ﺑﺗﻠك اﻻﺑﺗﺳﺎﻣﺔ، ﻷﻧﻪ ﺣﻳﻧﺋذ ﺗﺄﻛد ﻣن اﻷﻣر.

«ﻣﺎذا ﺳﻧﻔﻌﻝ؟» ﺳﺄﻟﻧﻲ ﺑﺣَﻳرة طﻔﻝ!

«ﺣﺳﻧﺎً، ﺑﻣﺎ أﻧﻧﺎ ﻟن ﻧﺗﺧﻠص ﻣﻧﻪ، فأظن أﻧﻧﺎ ﺳﻧرﺑّﻳﻪ!».

عاد ﻓوﻧﻲ ﺑرأﺳﻪ إﻟﻰ اﻟوراء، وﺿﺣك. ﺿﺣك ﺣﺗﻰ ﺳﺎﻟت دﻣوﻋﻪ. وﻋرﻓت ﺣﻳﻧﺋذ أن اﻟﺷطر اﻷﻫم اﻟذي ﻛﺎن ﻳﻘﻠﻘﻧﻲ ﻗد ﻣرّ ﺑﺳﻼم.

ﺳﺄﻟﻧﻲ: «ﻫﻝ أﺧﺑرت ﻓراﻧك؟» وﻓراﻧك ﻫو واﻟدﻩ.

ﻗﻠت: «ﻟﻳس ﺑﻌد».

«ﻫﻝ أﺧﺑرت أﻫﻠك؟».

«ﻟم أﺧﺑرﻫم ﺣﺗﻰ اﻵن. وﻟﻛن ﻻ ﺗﻘﻠق ﺑﺷﺄﻧﻬم. أردت أن أﺧﺑرك أﻧت أوﻻً».

فقال: «ﺣﺳﻧﺎً، إﻧﻪ ﻷﻣر ﺟﻳد. طﻔﻝ!» وﻧظر إﻟﻲ. ﺛم ﺧﻔض ﺑﺻرﻩ.

«ﻣﺎذا ﺳﺗﻔﻌﻠﻳن إذن؟».

«ﺳﺄﺳﺗﻣر ﻓﻳﻣﺎ أﻧﺎ ﻋﻠﻳﻪ. ﺳﺄﻣﺿﻲ ﻓﻲ اﻟﻣواظﺑﺔ ﻋﻠﻰ ﻋﻣﻠﻲ ﺣﺗﻰ الولادة. ﺛم أﺿﻊ ﻧﻔﺳﻲ ﺗﺣت رﻋﺎﻳﺔ أﻣﻲ وأختي ﺳﻳس. ﻻ ﺗﻘﻠق أﻧت. وﻋﻠﻰ أي ﺣﺎﻝ، فإنك ﺳﺗﻛون بيننا ﻗﺑﻝ ذﻟك اﻟﺣﻳن».

قال بابتسامة خفيفة: «أواﺛﻘﺔ أﻧت ﻣن ذﻟك؟».

«كلّ الثقة! وﻟطﺎﻟﻣﺎ ﻛﻧت واﺛﻘﺔ».

ﻋرﻓت ﻣﺎ اﻟذي ﻛﺎن ﻳدور ﻓﻲ ﺧﻠدﻩ، ﻟﻛن ﻟم ﻳﻛن ﺑﻣﻘدوري أن أظﻬر ﺷﻌوري اﻟﺣﻘﻳﻘﻲ، ﻟﻳس اﻵن، إذ ﻋﻠﻲَّّ أن أﺑدو واﺛﻘﺔ ﻓﻳﻣﺎ أﻧﺎ أراﻗﺑﻪ.

ظﻬر اﻟرﺟﻝ ﺧﻠف ﻓوﻧﻲ. ﻟﻘد اﻧﺗﻬﻰ وﻗت اﻟزﻳﺎرة. اﺑﺗﺳم ﻓوﻧﻲ، ورﻓﻊ ﻳدﻩ، ﻛﺎﻟﻌﺎدة، ورﻓﻌت أﻧﺎ ﻳدي، ﺛم وﻗف. ﻛﻧت ﻣﺎ أﻧﻔك أﺷﻌر ﺑﺷﻲء ﻣن اﻟﻣﻔﺎﺟﺄة وأﻧﺎ أراﻩ ﻫﻧﺎ داﺧﻝ اﻟﺳﺟن. ﻛﺎن طوﻟﻪ ﻳﻔﺎﺟﺋﻧﻲ داﺋﻣﺎً. ﻟﻘد ﻓﻘد ﺑﻌض وزﻧﻪ ﺑﺎﻟطﺑﻊ، وﻟﻌﻝّ ذﻟك ﻣﺎ ﺟﻌﻠﻪ ﻳﺑدو أطوﻝ أﻣﺎم ﻋﻳﻧﻲّ.

اﺳﺗدار وﺧرج ﻋﺑر اﻟﺑﺎب، اﻟذي أﻗﻔﻝ وراءﻩ.

ﺷﻌرت ﺑﺎﻟدوار، ﻟم أﻛن ﻗد ﺗﻧﺎوﻟت طﻌﺎﻣﺎً طﻳﻠﺔ اﻟﻳوم، وأﺻﺑﺢ اﻟوﻗت ﻣﺗﺄﺧراً اﻵن.

ﻣﺷﻳت ﺧﺎرج ﺟدران اﻟﺳﺟن، ورﺣت أﺳﻳر ﻓﻲ ﺗﻠك اﻟﻣﻣرات اﻟﻌرﻳﺿﺔ اﻟﺗﻲ أﺛﺎرت ﺗﻘززي. ﻛﺎﻧت أﻋرض ﻣن اﻟﺻﺣراء اﻟﻛﺑرى. ﻟﻳﺳت اﻟﺻﺣراء ﻣﻘﻔرة أﺑداً، وﻫذﻩ اﻟﻣﻣرات ﻟﻳﺳت ﻣﻘﻔرة أﻳﺿﺎً. فإذا ﻣﺎ ﻋﺑرت اﻟﺻﺣراء اﻟﻛﺑرى، وﺳﻘطت ﺑﻌد أن أﻋﻳﺎك اﻟﻣﺳﻳر، وأﺣﺎطت ﺑك ﺣﻠﻘﺔ ﻣن اﻟﻧﺳور ﺑﻌد ﻓﺗرة وﺟﻳزة، ﺷﺎﻋرة ﺑﻣوﺗك ﺑﻌد أن ﺷﻣت راﺋﺣﺗﻪ، ﺗﻧﺧﻔض ﻧﺣوك ﺷﻳﺋﺎً ﻓﺷﻳﺋﺎً، وﺗﻧﺗظر؛ ﻓﻬﻲ ﺗﻌرف، ﻳﻌرﻓون ﺑﺎﻟﺿﺑط ﻣﺗﻰ ﻳﺻﺑﺢ اﻟﻠﺣم ﺟﺎﻫزاً، وﻣﺗﻰ ﺗﻌﺟز اﻟروح ﻓﻲ ﺻراﻋﻬﺎ اﻷﺧﻳر. وﺑﺎﻟطرﻳﻘﺔ ﻧﻔﺳﻬﺎ ﻳﻌﺑر اﻟﻔﻘراء ﺻﺣراء اﻟﺣﻳﺎة اﻟﻛﺑرى ﺑﺎﺳﺗﻣرار. ﻟﻳﺗﺣﻠق ﺣوﻟﻬم اﻟﻣﺣﺎﻣون واﻟﻛﻔﻼء وآﺧرون ما أكثرهم، ﻳﺗﺣﻠﻘون ﺣوﻟﻬم ﻛﻣﺎ ﺗﻔﻌﻝ اﻟﻧﺳور ﺗﻣﺎﻣﺎً. واﻟﺣقّ أن ﻫؤﻻء ﻟﻳﺳوا أﻏﻧﻰ ﻣن اﻟﻔﻘراء؛ ﻟﻬذا ﻓﻘد ﺗﺣوّﻟوا إﻟﻰ ﻧﺳور، إﻟﻰ ﺣﻳواﻧﺎت ﺗﻘﺗﺎت على القمامة، إﻟﻰ رﺟﺎﻝ ﺗﺎﻓﻬﻳن ﺑذﻳﺋﻳن. وﻻ أﺳﺗﺛﻧﻲ اﻟزﻧوج ﻣن وﺻﻔﻲ ﻫذا، ﻓﻬم ﻓﻲ ﻛﺛﻳر ﻣن اﻷﺣﻳﺎن، ﻳﻔوﻗون أولئك اﻟﺗﺎﻓﻬﻳن ﺳوءاً ﻓﻲ ﻋدة ﻧواح. رﺑﻣﺎ ﻛﻧت ﺳﺄﺷﻌر ﺑﺎﻟﺧزي ﻗﻠﻳﻼً من قولي هذا، ﻟوﻻ أﻧﻧﻲ أﻣﻌﻧت اﻟﺗﻔﻛﻳر، واﻧﺗﻬﻳت إﻟﻰ أن ﺷﻌوراً ﻛﻬذا ﻟن ﻳﺳﺎورﻧﻲ أبداً. وﻻ أدري إذا ﻛﻧت ﺳﺄﻣﺗﻧﻊ ﻋن ﻓﻌﻝ أي ﺷﻲء ﻣن أﺟﻝ تحرير ﻓوﻧﻲ ﻣن الحبس. ﻟم ﻳﺳﺑق ﻟﻲ أن ﺻﺎدﻓت ﻫﻧﺎ أﺣداً ﻳﺷﻌر ﺑﺎﻟﺧزي، وأﻗﺻد ﺧزﻳﺎً اﺳﺗﺛﻧﺎﺋﻳﺎً ﻛﺎﻟذي ﻛﻧت أﻗﺎوﻣﻪ، ﺳوى أوﻟﺋك اﻟﺳﻳدات اﻟﺳوداوات اﻟﻧﺷﻳطﺎت، اﻟﻠواﺗﻲ ﺗﻌوَّدن ﻋﻠﻰ ﻣﻧﺎداﺗﻲ باﻻﺑﻧﺔ، واﻟﺑورﺗورﻳﻛﻳّﺎت اﻟﻣﺗﻛﺑرات؛ اﻟﻠواﺗﻲ ﻟم ﻳﻔﻬﻣن ﻣﺎ اﻟذي ﻛﺎن ﻳﺣدث، ﻷن ﻛﻝ ﻣن ﺗﺣدّث إﻟﻳﻬن ﻟم ﻳﻛن ﻳﻌرف اﻹﺳﺑﺎﻧﻳﺔ. وﺷﻌور ﻫؤﻻء ﺑﺎﻟﺧزي ﻳﻧﺑﻊ ﻣن أﻧﻬن أﺣﺑﺑن ﺳﺟﻧﺎء. وﻟﻛﻧﻬن ﻣﺧطﺋﺎت ﻓﻲ ذﻟك. أﺣرى ﺑﺎﻟﻣﺳؤوﻟﻳن ﻋن ﻫذﻩ اﻟﺳﺟون أن ﻳﺗﻣرﻏوا هم ﺑﺎﻟﺧزي واﻟﻌﺎر.

ﻣﻬﻣﺎ ﻳﻛن ﻣن أﻣر، ﻓﺄﻧﺎ ﻟم أﻛن أﺷﻌر ﺑﺎﻟﻌﺎر ﻻرﺗﺑﺎطﻲ ﺑﻔوﻧﻲ، ﺑﻝ ﻛﻧت ﻓﺧورة ﺑذﻟك؛ ﻓﻬو رﺟﻝ ﺣﻘﻳﻘﻲ. وﻳﻣﻛن اﻟﻘوﻝ إﻧﻪ وﻗﻊ ﻓﻲ ﻫذﻩ اﻟﻣﺻﻳﺑﺔ ﻷﻧﻪ رﺟﻝ. أﻋﺗرف ﺑﺄﻧﻲ، ﻓﻲ ﺑﻌض اﻷﺣﻳﺎن، أﺷﻌر ﺑﺎﻟﺧوف ﻷن اﻟﺿﻳم اﻟذي طﺎﻟﻣﺎ أﻟﺣﻘوﻩ ﺑﻧﺎ، ﻛﺎن أﻓظﻊ ﻣن أن ﻳﺗﺣﻣﻠﻪ ﺑﺷر. وﻳﺗﻌﻳن ﻋﻠﻳك إذن ﺗرﺗﻳب أﻓﻛﺎرك ﻣﺎ وﺳﻌك ذﻟك، ﺑﺣﻳث ﺗﻌﻳﺷﻳن ﺣﻳﺎﺗك ﻳوﻣﺎً ﺑﻌد ﻳوم. ﻓﺄﻧت ﻟو ﺣﺎوﻟت اﻟﺗﻔﻛﻳر ﺑﺎﻟﻣﺳﺗﻘﺑﻝ اﻟﺑﻌﻳد، ﻓﻠن ﻳﻛون ﺛﻣﺔ طﺎﺋﻝ ﻣن ذﻟك.

____________

هامش :

* فصل من الرواية

__________
*الاتحاد الثقافي

شاهد أيضاً

طه درويش: أَتكونُ الكِتابَة فِردَوْسَاً مِنَ الأَوْهامْ؟!

(ثقافات) طه درويش: أَتكونُ الكِتابَة فِردَوْسَاً مِنَ الأَوْهامْ؟! إلى يحيى القيسي لَمْ نَلْتَقِ في “لندن”.. …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *