أموات في خدمة الأحياء… الأمير عبد القادر الجزائري نموذجا

*سعيد خطيبي

في كل مرة، بدون مناسبة أحياناً، يستفيق الأموات من قبورهم، وينخرطون في الحياة العامة، في الجزائر. الشهداء صاروا أكثر حضوراً من الأحياء. من كثرة استحضارهم وترديد أسمائهم، يُخيل لمن لا يعرف البلد أنهم هم من يحكمون، وأن الأحياء ليسوا سوى تابعين لهم. لقد شُحن عقل الجزائر بأن يمجد الأموات، يحترم ذكراهم أكثر من اللزوم، وألا يُجادل في القول ولا يُعاكسهم في الرأي. كلما فشل متحدث ما في إقناع المستمع بقضية أو رأي، استحضر واحداً من الأموات، ليجد المتلقي نفسه مُجبراً على الصمت، وعدم المُعارضة. في السياسة والثقافة، الأموات باتوا سجلاً تجارياً، يختبئ الكثيرون خلفه، ليمرروا، بسهولة، ما يفكرون فيه. الأمير عبد القادر هو أكثر الأسماء التي تكاد تتحول، مع الوقت، إلى صندوق استثمار، الجميع يُحاول أن ينال نصيباً من إرث الرجل، وكل واحد يوظف «الأمير» بحسب احتياجاته. في السينما وفي الانتخابات، في الأدب وفي العلاقات الدولية، لا يغفل البعض عن «مص» ما تبقى من سيرة الرجل، من أجل الوصول إلى بعض الغايات الموسمية.
في خرجة غريبة، العام الماضي، اختار واحد من المترشحين لانتخابات البرلمان، شجرة الدردار، التي بُويع فيها الأمير عبد القادر، قبل حوالي القرنين من الزمن، ليُعلن عن انطلاق حملته الانتخابية. هذا المترشح شغل منصب أستاذ جامعي، لمدة ثلاثين سنة، ورئيساً لجامعة الجزائر، ثم وزيراً، لكنه في الأخير فشل في إقناع الناس بما يود قوله، وما يود الوصول إليه، ولم يجد سوى «حيلة» استغلال تاريخ الأمير عبد القادر، لكسب تعاطف الناس معه، ولاستمالتهم للتصويت له.
وكل سنة، تتغاضى جامعات، في الجزائر، على «هزال» بعض مذكرات التخرج، تقبلها وتمنح علامات عالية للطلبة، فقط لأن تلك الأطروحات، تحمل في عنوانها اسم الأمير عبد القادر، فقد ترسخ اعتقاد ـ خاطئ ـ أن انتقاد مادة علمية كانت أو أدبية، تتحدث عن «الأمير»، إنما هو انتقاد للرجل نفسه، وانتقاص من تاريخه، وفهِم طلبة تلك المُعادلة، فبدل البحث والكتابة عن موضوعات جديدة، يلجأون للأسماء التاريخية، كي يخففوا عن أنفسهم عناء التنقيب، ويضمنوا رضا أساتذتهم عنهم.
هذا الاستغلال «الهزلي» لاسم الأمير عبد القادر له ما يبرره، وهو ضعف مخيلة السياسيين، وتراجع مستوى الجامعة، أو بالأحرى استقالتها، لكن الاستغلال «الأفظع» للأمير، وتحويله إلى صكوك بنكية، وأرباح مالية، تقدر بالملايين، سنجده خصوصاً في السينما، فمنذ حوالي العقدين لم تتوقف وزارة الثقافة، ومعها مؤسسات رسمية أخرى، عن الحديث عن «مشروع فيلم عن الأمير عبد القادر»، هذا المشروع الذي يدور كثير من اللغط حوله، بدون أن يرى النور، يستلزم أن نتوقف عنده ونفهم ماذا يجري في الخفاء. قبل ثلاث سنوات، صرّح الوزير الأول الأسبق عبد المالك سلال أن رئيس الجمهورية عبد العزيز بوتفليقة، أعطى تعليمات بإنجاز فيلم «كبير» يليق بشخصية الأمير عبد القادر. الوزير الأول الأسبق نفسه يبدو أنه على اطلاع بسيناريو الفيلم، الذي تود السلطات تجسيده، حيث صرح بأن المشهد الافتتاحي يصور الأمير، في دمشق، وهو يُدافع عن المسيحيين، في إشارة إلى الأحداث الطائفية، التي عرفتها دمشق عام 1860. في السنوات الماضية، راج أن المخرج الأمريكي تشارلز بورنيت (1944)، سيتولى إخراج الفيلم، وتداولت صحف أنباءً عن زيارات للمخرج نفسه، إلى الجزائر ودمشق، بغرض مُعاينة أمكنة تصوير، وللاتفاق مع السلطات عن تفصيلات السيناريو، وتحدث البعض أن المخرج سيجلب معه ممثلين هوليووديين، وأن الجزائر ستدخل «العالمية» بفيلم عن الأمير، سيتكفل بإنتاجه أوليفر ستون. لكن، بعد أشهر فقط، من نشوة التفكير في الانتصار المُحتمل، علم الجميع أن ملايين ضاعت، تحت ذريعة فيلم، لم ينطلق تصويره قط، ووقف وزير الثقافة الحالي عزالدين ميهوبي، أمام البرلمان، ليُعلن عن تجميد المشروع، والسبب: عدم التوصل إلى سيناريو يليق بشخصية الأمير عبد القادر. مع ذلك، راجت أنباء، في الهامش، تفيد بأن السلطة تخلت عن المخرج الأمريكي، لتصور الفيلم مع مخرج آخر، في الخفاء، وألا تعلن عنه سوى حال الانتهاء منه. لكن تكلفة الفيلم الباهظة (التي يقدرها البعض بحوالي 70 مليون دولار)، ومع ما تمر به البلاد من تقشف، يؤكد أن المشروع عاد إلى الأدراج، وأن الأموال ضاعت، وأن الأمير، الذي مات قبل أكثر من 130 عاماً، ما يزال يسيّل لعاب، الطامعين في الخزينة العمومية. وبينما كان الجميع يتحدث عن آخر تطورات مشروع فيلم، لم ير النور، بادرت وزارة الثقافة إلى إنتاج فيلم تاريخي آخر، عن عبد الحميد بن باديس، استنفدت ما كان في الخزينة، وفشلت في إقناع الجمهور بفيلم، جاء باهتاً، ولتفادي الانتقادات، والهروب إلى الأمام، أعادت تشغيل أسطوانة فيلم الأمير عبد القادر، طار وزير الثقافة إلى طهران، وصرح بأنه يُريد مخرجاً إيرانياً لفيلم عن مؤسس الدولة الجزائرية الحديثة. ثم ذهب لملاقاة المخرج مجيد مجيدي (صاحب فيلم «محمد رسول الله» ـ 2015)، وانطلقت آلة الإشاعات، من جديد، بأن السيناريو المعتمد، سيكون سيناريو كتبه الراحل بوعلام بسايح (1930 ـ 2016)، الذي كان من المقربين من السلطة، شغل عدة مناصب وزارية، من وزير إعلام إلى وزير ثقافة ثم وزير خارجية، الذي سبق له أن أصدر كتابين عن الأمير عبد القادر: «من الأمير عبد القادر إلى الإمام شامل» (1997) و«من لويس فيليب إلى نابليون الثالث، الأمير عبد القادر مغلوباً لكنه منتصر» (2002).
محن الأمير عبد القادر (1808 ـ 1883) لم تنته بنهاية الرجل، فقد ازدادت حدة، خصوصاً في السنوات الأخيرة. لحد الآن، لا نعرف من يمتلك الحق في الحديث عنه، ومن يحتكر إرثه! هل هي حفيدته الأميرة بديعة، المقيمة في دمشق، أم المؤسسة التي تحمل اسمه؟ الأميرة بديعة أعلنت، قبل سنوات قليلة، انسحابها من الانتساب إلى مؤسسة الأمير عبد القادر، بحجة أن المؤسسة ذاتها «تشوه صورة الأمير، وتقدمه بالشكل الذي تريده فرنسا»، وأضافت: «أنا منسحبة، وإن أرادوا أن يتاجروا باسم الأمير فليفعلوا». الأميرة بديعة تقضي جل وقتها في الرد عن كل شخص أو باحث يكتب عن الأمير، معتبرة نفسها الوريث الوحيد له. من جهتها، تواصل المؤسسة (التي تقدم نفسها باعتبارها «المُدافعة عن ذاكرة الأمير») نشاطاتها، واحتفالاتها وندواتها وإصدار نشرياتها، وفي الوقت نفسه، يتسع الخصام بين ورثة الأمير.
الأمير عبد القادر الذي قضى سبع عشرة سنة، في النضال من أجل تحرير البلاد، من الاحتلال، يحتاج إلى من يحرره من المُتخاصمين، فسيرته أكبر من أن تحشر بين عدد من الأفراد، يحتكرون إرثه لوحدهم. ثم سؤال آخر يظل مُعلقاً: ماذا فعلوا لحفظ إرث الأمير؟ هل استعادوا أرشيفه الموجود في فرنسا، الذي صار يُباع ويُشترى في المزادات؟ هل كتبوا سيرته، كما يجب، كي يمنعوا عنها التزوير والتدليس؟ فالمطبوعات المدرسية، في الجزائر، تقول إنه «استسلم»، في النهاية، ومصادر تاريخية أخرى تقول إنه «قاوم» حتى آخر لحظة، وفي ظل هذه الصراعات الهامشية، يبقى الأمير عبد القادر نموذجاً لتوظيف الأموات في خدمة الأحياء، وواجهة يختبئ خلفها، مُدافعون حقيقيون عن الأمير، وكذا كثير من المزيفين الآخرين.

_________
*القدس العربي

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *