*إبراهيم قعدوني
لا يحتاج الأدب الناطق بالإسبانية عامةً وأدب أميركا اللاتينية خاصّةً إلى توطئةٍ تُسلّط الضوء على أهميته في سياق الأدب العالمي. لقد أهدَت أميركا اللاتينية العالم بعضاً من أعظم المبدعين الذين أثروا مدوّنة الأدب الإنساني بأعمالهم التي لا تعوزها سمات الأدب الخالد. ولا شكَّ في أنَّ حيواتِ هؤلاء المبدعين وسِيَرَهُم الشخصية ظلّت محلّ اهتمام القرّاء الذين أُغرِموا بأعمالهم في أرجاء العالم.
في كتابها الصادر عن دار ممدوح عدوان نهاية العام الماضي بعنوان «قصة دردشة مُعلَنة»، تضع الكاتبة والمترجمة السورية المقيمة في الولايات المتحدة أمل فارس مجموعةً من المقابلات والحوارات التي أُجرِيت مع بعض أشهر أدباء وشعراء أميركا اللاتينية، وكما تقول فارس في مقدمة الكتاب فإنَّ “ما نعرفه عن كتّابنا المفضلين ممن أثَّرت فينا روائعهم، وكان بعضها بدون مبالغة سبباً في تغيُّر حياتنا، كنا قد قرأناه في بعض السطور المتفرقة هنا وهناك”، إلاَّ أنَّ الاطّلاع على هذه التفاصيل في سياقها الأصلي وقراءة حواراتهم “أمر في غاية الأهمية لكونه يساهم في تسليط الضوء على زوايا معينة من شخصياتهم وأفكارهم وتفاصيل حياتهم لم يتم التطرق إليها في السابق”.
احتوى الكتاب على عشر مقابلات منقولة عن الإسبانية مع كلّ من خوسيه ساراماغو، خورخيه لويس بورخيس، إدواردو غاليانو، باولو كويلو، خوليو كورتاثار، غابرييل غارسيا ماركيز، إيزابيل الليندي، أستور بيازولا، بابلو نيرودا وخوان رولفو. ويمكن القول إنَّ الثيمة المشتركة بين الحوارات، وعلى الرغم من اختلاف تواريخها ومن قاموا بإجرائها مع هؤلاء المبدعين، هي العودة بذاكرة الكُتَّاب إلى سِنيِّ حياتهم الأولى وعلاقتهم بالأمكنة والبشر والحياة ومن ثمَّ البحث في نشوءِ الكاتب داخل كلٍّ منهم.
تبدأ الحوارات مع الروائي البرتغالي خوسيه ساراماغو حيث نقرأ تفاصيلَ في قمّة العذوبة عن سيرة صاحب رواية «العمى»، عن طفولته وذكرياته مع جدَّيه اللذين يعدّان مصدر إلهامه حسب ما يؤكد. نُفاجأ بأن ساراماغو، الفائز بجائزة نوبل للآداب، ظلّ يجوبُ حافياً القرية النائية التي عاش فيها معهُما حتى سن الرابعة عشرة وأنه لم يتمكّن من قراءة كتاب قبل بلوغه الثامنة عشرة.
لا عجب إذاً أن يكرّس ساراماغو المتمرّد أدبه وحياته للدفاع عن العدالة الاجتماعية ومناهضة المؤسسات السلطوية مُمثّلةً بثالوث الدين والسياسة والمال، ومن غير المستغرب أن تستهجِن الكنيسة الكاثوليكية منحهُ جائزة نوبل للآداب وهو الذي عُرِف بانتقاده اللاذع لمؤسسات الكهنوت لاهتمامها بأرواح البشر الموتى بدل الانصراف للاهتمام بمعاناة الأحياء الناجمة عن اختلال الموازين البشرية وتفاقم حالة عدم المساواة في العالم.
يسأل خوسيه دي ساسا ساراماغو قائلاً “قلت سابقاً إن المشكلة الحقيقية تتركز في أنه ما زال هناك أغنياء وفقراء في هذا العالم! فيجيبه ساراماغو، نعم هذه هي المشكلة حقيقة، فما زالت الإنسانية تنتج ثروات هائلة لكنها تتوزع على الشكل الذي نراه حالياً، فلأول مرة في تاريخ البشرية يحاولون صنع عالم للأغنياء فقط، وهذا لا يعني مطلقاً أن الجميع سيصبحون على درجة واحدة من الغنى، بل يعني توفير كل ما تحتاج إليه الطبقة الغنية على حساب طبقة مسحوقة من الفقراء يزداد العالم إنكاراً وتجاهلاً لها يوما بعد يوم”. كذلك نقرأ ترجمة الكلمة التي ألقاها ساراماغو في حفل تسلّمه جائزة نوبل للآداب سنة 1988، يوجِزُ فيها سيرته وأبرز معالم فلسفته الروائية ومواقفه إزاء العالم وقضاياه.
أمّا الحوار الثاني فكان مع الكاتب الأرجنتيني ذائع الصيت خورخي لويس بورخيس الذي يوصَفُ بـ”المكتبة المتنقّلة”، وهنا نطالع سيرةً مختلفةَ لكاتبٍ لم يعرِف شظف العيش الذي عرفه ساراماغو، فبورخيس سليل عائلةٍ ثريّة وقد درس في سويسرا وكان مولَعاً بالكتب والقراءة منذ حداثة سنّه وهو ما يردُّه بورخيس لرغبة أبيه في تحقيق حلم حياته الذي لم يدركه في أن يكون -أي الأب- كاتباً مشهوراً.
بذلك قد وضع الأب الذي كان يعمل مدرّساً للّغة الإنكليزية تحت تصرّف ابنه خورخي مكتبةً ضخمةً سينهل منها بورخيس ما ألهمه لاحقاً ليكون كاتباً فريداً هو الآخر. يُخبِرُ بورخيس محاوره عن ترجمته لقصة “الأمير السعيد” لأوسكار وايلد وهو لم يكن قد تجاوز في حينه العاشرة من العمر، كما ينقل محاور بورخيس عن أختِ الأخير قولها إن أكثر ما تتذكره عن أخيها استلقاءه الدائم على الأرض مع كتاب، يقرأ ويقرأ دون توقف!
يا لها من مفارقة مؤلمة أن يفقد بورخيس بصره في السادسة والخمسين من عمره لتتولّى أمه ليونورا سيبيدو مهمَّةَ كتابة أعماله كافةً. وقد عُرِف عن بورخيس ذاكرته الثاقبة في الحِفظ حتى أنه كان يحفظ عن ظهر قلب كل ما يكتبه أو يقرأه. ِمن أقوال بورخيس التي نطالعها في نهاية حواره “أنا من أصول إسبانية وإنكليزية وبرتغالية ويهودية وبلغارية ونورمندية، أي أنني أحمل في دمي مزيجاً من الأعراق المتعددة، وأعتقد أن خليط الدم هذا هو شيء يسري في عروقنا جميعاً”.
في الحوار الثالث نقرأ نصَّ مقابلة الكاتب الأوروغواياني إدواردو غاليانو على قناة Sangre Latina “سانغري لاتينا”. ينحدر غاليانو من أصول متعددة هي مزيج من الإسبانية والإيطالية والبريطانية، وقد باشر العمل الصحافي في سن مبكرة حيث نشر أول مقالاته في الجريدة الأسبوعيةEL SOL، “الشمس” موقعة باسمٍ مستعار هو “Guius”.
وقد نُفي غاليانو إلى الأرجنتين عام 1973 وأسس فيها جريدة الأزمة LA CRISES، حيث تحسّس من هناك نبض أميركا اللاتينية والعالم عبر رحلة إبداعه وعطائه ككاتب وصحافي ورسام، وُترجمت أعماله الأدبية إلى أكثر من عشرين لغة، وكان أشهرها “الشرايين المفتوحة لأميركا اللاتينية” ويمثل هذا العمل تحليلاً دقيقاً لما تعرضت له أميركا الجنوبية من استغلال لثرواتها منذ عهد كريستوفال كولون حتى أيامنا هذه، وقد طُبع هذا الكتاب نحو ثلاثين طبعة منذ إصداره في عام 1971، وحُظِرَ في عدة دول منها الأرجنتين والأورغواي وتشيلي، وقد زادت شهرة الكتاب بعدما قام الرئيس الفنزويلي هيوغو تشافيز بإهدائه إلى الرئيس الأميركي باراك أوباما في عام 2009.
يلي حوار غاليانو لقاء أندريس أوبينهايمر مع الروائي البرازيلي باولو كويلو صاحب “الخيميائي” الغني عن التعريف والذي تقول الإحصائيات إنه أحد أكثر الشخصيات متابعةً على وسائل التواصل الاجتماعي الذي يعتبر أن الكتابة على تويتر هي “مستقبل الأدب”. بعد ذلك ينتقل الكتاب إلى مقابلةٍ مع الشاعر الأرجنتيني خوليو كورتاثا، أحد أبرز أدباء ما يعرف بأميركا الإسبانية والذي يُعرف بتوجهه اليساري ودفاعه الشرس عن حقوق الإنسان. نشر كورتاثا أول مجموعة شعرية له عام 1938 تحت الاسم المستعار “خوليو دينس”. يتحدث كورتاثا في هذه المقابلة عن الخوف والعزلة وعن طفولته القاسية وهو الذي نسي ملامح أبيه الذي هجر البيت إلى الأبد ولما يتجاوز خوليو السادسة من العمر.
لا يمكن تناول أدب أميركا اللاتينية بالطبع دون المرور بأيقونة واقعيته السحرية ممثلّةً بالمعلّم ماركيز، شيخُ الرواةِ الحكّائين. في هذه المقابلة يحاور الصحافيُّ خيرمان كاسترو الروائيَّ الكولومبي غابرييل غارسيا ماركيز الذي عُرف بعزوفه المتواصل عن إجراء المقابلات الصحافية والتلفزيونية.
نقرأ في هذه المقابلة الكثير من التفاصيل الشيّقة والممتعة عن سيرة الروائي الفذّ ورحلته مع الكتابة بدءاً من قريته بارانجيكا وصولاً إلى نشره أولى قصصه في صحيفة الإسبيكتاذور التي بشّرت بولادة روائي عبقري سيكون له حضوره الخالد في الأدب العالمي. يقول ماركيز لمحاوره “كنت أعيش في منزل يولد فيه طفل كل عام، من الصعب عليَّ تحديد الأعمار جيداً، لكن إذا كان عمري في ذلك الوقت 13 عاماً فأنا متأكد من أنه كان لدي ثمانية إخوة. جاء وقت كان لا بد لي فيه من مغادرة المنزل، وكانت لذلك فائدتان، الأولى على الصعيد الشخصي، وهي ‘النجاة عوماً’ كما يقول المثل، أما الأخرى فكانت لتخفيف العبء الثقيل عن العائلة”.
بعد ماركيز نقرأ حواراً لا يقلّ عن الحوارات الأخرى إمتاعاً وهو مع الروائية التشيلية إيزابيل الليندي متحدّثةً عن العملية الإبداعية ومساراتها من واقع تجربتها الذاتية. ولعلّ أكثر ما يستوقف القارئ في ما تنقله المترجمة عن الليندي قولها “إنّ النازح ينظر إلى الماضي ويتألم، بينما المهاجر ينظر إلى المستقبل مستعداً لاستغلال كل الفرص المتاحة”. بعد مقابلةٍ مع الموسيقي الأرجنتيني العالمي أستور بيازولا المعروف بملك التانغو، نطالع حواراً ثريّاً وساحراً يجريه ماركيز مع بابلو نيرودا في مداولاتٍ عميقة حول السرد والشعر، لتنتهي الحوارات بعد ذلك بنصٍّ لمقابلة مع الروائي المكسيكي خوان رولفو.