*ترجمة وتقديم : لطفية الدليمي
حوارية بين الروائية – الفيلسوفة آيريس مردوح والفيلسوف بريان ماغي
العلاقة بين الفلسفة والأدب علاقة وثقى نشهدها في التضمينات الفلسفية في الكثير من المنتجات الأدبية لبعض أعاظم الكُتّاب ، ونعرف أنّ بعض الكتّاب كانوا أنفسهم فلاسفة محترفين ، والأمثلة في ذلك كثيرة ؛ غير أن طبيعة العلاقة وحدودها بين الأدب والفلسفة ظلّت حقلاً إشكالياً منذ العصر الإغريقي وحتى عصرنا هذا .
إنّه لأمرٌ يسرّني بالتأكيد أن أقدّم في هذا القسم – وبضعة أقسام لاحقة – ترجمة للحوارية الرائعة عن طبيعة العلاقة بين الأدب والفلسفة والتي عقدها الفيلسوف البريطاني الشهير ( بريان ماغي Bryan Magee ) مع الروائية – الفيلسوفة الراحلة ( آيريس مردوخ Iris Murdoch ) ، وقد سبق لي تناول جوانب من فكر هذه الفيلسوفة المميزة في حوار سابق منشور في المدى ؛ أما بالنسبة إلى ( بريان ماغي ) فهو فيلسوف ، وسياسي ، وشاعر ، وكاتب ، ومقدّم برامج بريطاني ولِد عام 1930 ويُعرَف عنه مساهماته الكبيرة في ميدان تقديم الفلسفة إلى العامّة وجعلها مادة تحظى بالمتابعة الجماهيرية القوية ، وهو صاحب مؤلفات كثيرة في هذا الميدان .
أذيعت هذه الحوارية على البرنامج الثقافي للتلفزيون البريطاني عام 1978 .
المترجمة
ماغي : قلتِ للتوّ أن الفلسفة مبحث إنساني يختلف عن العلم ، وأنا أتفق معك في هذا الشأن ؛ ولكن يبقى للفلسفة بضعة أمور أساسية تتشاركها مع العلم . أحد تلك الأمور هو أن كلاً من الفلسفة والعلم يسعى لفهم العالم من خلال محاولات لاتنطوي على نوازع شخصية أو تفضيلات فردانية الطابع – أي بكلمات أخرى يجعل المرء نفسه في كلا المسعيين – الفلسفة والعلم – عرضة للمعايير والدلائل خارج نطاق ذاته ، ويحاول بلوغ أمور صحيحة لم يختبر هو صحتها بطريقة المعايشة الوجدانية ، ويبدو هذا الأمر وثيق الإرتباط مع أحد الفروق الحاسمة والمميزة بين الفلسفة والأدب : قلتٍ قبل قليل امراً يتضمّن تأكيداً بأن كتابتكِ الروائية في الوقت الذي قد تكشف عن خصائصك الشخصية الأدبية المتمايزة فإنك لاتبالين كثيراً بأن تكون كتاباتك الفلسفية متمايزة بنفس القدر عمّا سواها من الكتابات الفلسفية . يبدو لي أمراً باعثاً على التفكير ان الخصيصة الأكثر أهمية التي تميّز معظم الكُتّاب في الحقول التخييلية والإبداعية هي توقهم المضني لامتلاك شخصية أدبية متمايزة عن الشخصيات الأخرى ، وقد بلغ الأمر مبلغاً هوسياً بات معه الكاتب مقتنعاً بأنه مالم يمتلك تلك الشخصية المتمايزة فلن يكلّف قارئ نفسه عناء قراءة أعماله . الحال مع الفلاسفة مختلف تماماً ؛ فالمرء قد يقرأ كلّ أعمال كانت برغبة شغوفة وعقل مبتهج رغم انه في نهاية قراءاته الواسعة قد لاتتكون لديه سوى فكرة ضئيلة عمّا يكونه كانت كواحد من الكائنات البشرية .
مردوخ : أنت تعني من وراء كلامك هذا أن مايبعث فينا الشغف في الكاتب هو شخصيته المعروضة في أعماله ، اليس كذلك ؟ أرى أن الكاتب بذاته يختلف عما نقرأ في أعماله ؛ فقد يكون شخصاً باعثاً على الملل في حين أعماله ليست هكذا ، والعكس صحيح أيضاً . من جانبي لست واثقة ممّا يسمّى ( الشخصية الأدبية ) : نحن نطلب إلى الكاتب أن يجوّد في كتابته وأن يكون له شيء بهيج يستدعي الكتابة ، وربما يكون من اللازم هنا أن نفرّق بين الأسلوب المميز الذي يسِم كاتباً ما وبين حضوره الشخصي : شكسبير له أسلوبه المميز ولكن ليس له حضور في أعماله ؛ في حين أن كاتباً مثل دي. إج. لورنس له أسلوب أقلّ تميّزاً من الأسلوب الشكسبيري ولكنّ حضوره الشخصي في رواياته أقوى بكثير ، وعلى الرغم من أن العديد من الشعراء ومعظم الروائيين يخاطبون القارئ في أعمالهم من خلال أسلوب مفرط في تأكيد لمساتهم الشخصية لكن يبقى معظم الأدب العظيم الذي كُتِب حتى يومنا هذا يفتقد إلى حضور قوي للكاتب في أعماله . إن الحضور الأدبي المفرط للكاتب ، وبخاصة إذا كان حضوراً تسلطياً طاغياً مثل لورنس ، يمكن أن يكون مدمراً ، وتزداد الفعالية التدميرية في العمل الأدبي إذا ماصارت إحدى الشخصيات المفضلة تبدو وكأنها الناطق الرسمي بلسان الكاتب ، والكتابة الرديئة تحفل في الأعم الأغلب بالكثير من التلميحات التي تشي بكاتبها . من الصعوبة الفائقة وضع قواعد حاكمة في هذا الشأن طالما أن الرغبة في التعبير عن الذات وترسيخ الكينونة الشخصية هي دافع قوي وراء كل الأعمال الفنية ( والأدب بينها بالطبع ) ؛ ولكن ينبغي في كل الأحوال تطويع تلك الرغبة الحارقة والتعامل معها بروح نقدية صارمة غير مسترخية . انا من جانبي لاأحفل كثيراً فيما لو حصل وامتلكت أسلوباً شخصياً متمايزاً عن الآخرين ؛ ولكني لاأرغب البتة في أن اسجل حضوراً مباشراً هو بعض إسقاطات ملامحي الشخصية في أعمالي الأدبية . من الطبيعي للغاية أن يكشف الكاتب في سياق كتابته عن أنساقه الأخلاقية ومواهبه الإبداعية ، وهذا الكشف الذاتي يحصل أيضاً في الفلسفة ، ولكنه يأتي في سياق المساءلة الفلسفية عن صحة الإستنتاج وصلاحية الدليل الفلسفي .
ماغي : عندما أتحدّث أحياناً مع بعض الأصدقاء ذوي الألمعية والذكاء والثقافة الرصينة ولكنهم يفتقدون المعرفة الفلسفية أكتشف دوماً أنهم ينكرون كون الفلسفة فرعاً من الأدب إذا مااعتبرنا أن الفيلسوف يبتغي بشكل من الأشكال التعبير عن رؤية شخصية للعالم وبالطريقة ذاتها التي يعتمدها كاتب المقالات أو الروائي ، وليس أمراً يسيراً أبداً أن توضّح لمثل أصدقائي هؤلاء السبب الكامن وراء رؤيتهم هذه . أفترض أن السبب يكمن جزئياً في أن المعضلات الفلسفية لها تواريخها الخاصة ، وأن كل فيلسوف يدخل المشهد الفلسفي في طور خاص من أطوار إرتقاء التأريخ الفلسفي ؛ لذا من الطبيعي أن يترتّب الأمر بحيث إذا أراد ذلك الفيلسوف إضافة مساهمة في الإرتقاء الفلسفي فينبغي عليه المساهمة بها عند ذلك الطور وحسب من التأريخ الفلسفي ، وبغير ذلك لن يكوّن ببساطة أية مساهمة فلسفية متوقعة . يبدو الفيلسوف من وجهة النظر الإرتقائية هذه شبيهاً بالعالم الطبيعي إلى حدّ كبير .
مردوخ : نعم ، هذا صحيح ، وربما هذا هو مايميّز الفيلسوف الحقيقي عن المفكرين والداعين إلى الأخلاقيات . ينشغل الفيلسوف بالحقل الفلسفي وبالكيفية التي وجد ذلك الحقل عليها عندما ولج المشهد الفلسفي ، وهنا سيجد أمامه كتلة محددة من القناعات التي ينبغي أن يستجيب لتاثيراتها فيه ، وقد يحصل أن يقيم حواراً ضيق النطاق وحسب مع الماضي الفلسفي ، أما الفنان ، وعلى العكس من الفيلسوف ، فيبدو كائناً من غير مسؤولية معوقة لتطلعاته ؛ إذ قد ينغمس حد النخاع مع اللحظة الراهنة ، أو قد يغوص بعيداً في تأريخ فنه ، ولكن في كل الأحوال لاتنتظره دوماً قائمة من المعضلات التي يُراد حلّها . ينبغي على الفنان أن يخترع معضلاته الخاصة ويسعى لحلها كيفما يريد ، وهذا بالضبط عمل يتقاطع مع مسعى الفيلسوف .
ماغي : ربما بسبب هذا التمايز الذي تحدّثتِ عنه بين الأدب والفلسفة فإن الكتابة الفنية – ومنها كتابة المسرحيات والروايات والقصائد – تتناول جوانب من الشخصية الإنسانية ( للكاتب والقارئ معاً ) بأكثر ممّا تفعل الفلسفة ، والفلسفة من هذا الجانب هي فعالية فكرية أكثر تحديداً وضيقاً في نطاق تناول الموضوعات الإنسانية ؛ بينما يتطلّب الأدب ليكون أدباً معتبراً أن يؤثر في مشاعر القارئ ويجعله مستثاراً من الناحية العاطفية . الفيلسوف – كما العالم – يحاول وبجهد غير قليل تحجيم الجاذبية العاطفية في عمله .
مردوخ : نعم ؛ لذا أظنّ أن من الممتع أكثر هو أن يكون المرء فناناً بدل أن يغدو فيلسوفاً . يمكن النظر إلى الأدب باعتباره وسيلة منضبطة ومدرّبة لرفع منسوب المشاعر لدى القارئ ( بالطبع ثمة وسائل أخرى لتحقيق هذا الغرض ) ، وبالنسبة لي أرى من المناسب تضمين إثارة المشاعر في صلب تعريف الفنّ الحقيقي على الرغم من عدم إمكانية إعتبار كل تجربة فنية حادثة مترعة بالمشاعر القوية . عبارتي هذه ذات محمول ميتافيزيقي بعض الشيء ) . الفنّ هو ملاعبة قريبة وخطيرة مع قوى اللاوعي الكامنة فينا ، ونحن نستمتع بالفن ( حتى بأكثر اشكاله بساطة ) لأنه يزعزع كوامن روحنا بطرق عميقة وغير مفهومة لنا في الغالب .
ماغي : تحدثنا حتى الآن عن الفروق التي تميّز الأدب عن الفلسفة ، وأظنه أمراً مهماً عندما نركّز على تلك الفروق ، لكن ثمة في الوقت ذاته بعض المشتركات المميزة بينهما . ألاتوجد مثل هذه المشتركات كما ترين ؟ أعلم من حواراتنا السابقة أنكِ تعتقدين بأن مفاهيم مثل الحقيقة يمكن أن تكون قريبة من جوهر إهتمام كلّ من الأدب والفلسفة .
مردوخ : نعم أتفق معك في هذا الأمر. الأدب والفلسفة ، وبرغم إختلافاتهما المميزة ، هما في نهاية المطاف فعاليتان تسعيان للبحث عن الحقيقة والكشف عنها ، وبهذا المعنى هما فعاليتان إدراكيتان تبتغيان الحصول على توضيحات محددة . الأدب ، مثل سائر الفنون الأخرى ، يقوم على رؤيا منظّمة تنطوي على الإستكشاف والتصنيف والتحديد والتشخيص ، وبالطبع لايمكن أن يبدو الأدب الجيد مثل أي عمل تحليلي لأن الخيال البشري لايمكن أن تكون منتجاته بعيدة عن الخصائص الحسية والمجسّدة والغامضة والمحددة والمنصهرة في إطار شخصية ما . الفنّ هو نمط آخر من الإدراك : فكّر للحظة وحسب في كمّ الفكر والحقيقة في أية مسرحية شكسبيرية أو في أية رواية عظيمة . يمكن بسهولة توجيه النقد للأدب وعلى أسس شكلية خالصة ؛ لكن أكثر النقودات المعهودة للأدب تتضمّن الإشارة لكونه غير مخلص للحقيقة بمعنى من المعاني : إن توصيفات أدبية مثل ( عاطفي ) أو ( فياض بالمشاعر ) أو ( مفرط الطموح ) أو ( منغمس في الذات ) أو ( تافه ) ،،،،، الخ يمكن أن تلصق بالأدب نوعاً من الكذب والبهتان والتهافت بما يوحي بقدر من التشويه في الفهم أو عدم الكفاية في التعابير الأدبية ، ويمكن لمفردة ( فانتازيا ) بالمعنى السيء للكلمة أن تضمّ كل تلك التوصيفات الأدبية القياسية التي تُطلق على الأدب حتى غدا الأمر كما لو أن مفردة ( فانتازيا ) صارت في وصف السوء النقيض لمفردة ( الخيال ) في وصفها للامور الجيدة .
الفلسفة ، وعلى خلاف ماقد يظنه الكثيرون ، هي فعالية تعتمد الخيال أيضاً ، ولكن عباراتها التي تسعى لبلوغها تختلف جوهرياً عن العبارات الفنية ، كما أن طرائق الفن وبيئته تشبه تلك التي يحوزها العلم من حيث أنها تمنع الإنزلاق نحو غواية الفنتازيا الشخصية . يتجاور الخيال الخلاق مع الفنتازيا الإستحواذية بحيث يشكّلان قوتين يصعب التمييز بينهما في عقل الكاتب ، ومن جانبه ينبغي على الكاتب دوماً أن يتجنّب اللعب بالنار : في الفن السيء تقود الفنتازيا ببساطة كل شيء وتكون مسؤولة عن كل شيء كما في الحالة المعهودة لروايات الرومانسية أو الرعب حيث يكون البطل دوماً ( وهو القناع المتخفي للكاتب ) هو الشجاع الكريم والمحبّ الذي لايمكن قهره ( مع أن له سوءاته وخطاياه ) ثم تنتهي الرواية بكلّ الطيبات الموعودة التي يمكن أن يجود بها الحظّ . الفنتازيا هي العدو الماكر لطاقة الخيال الكاشفة والقدرة الإدراكية الذكية الكامنة فيه ، والحاصل في غالب الأمر أن شجب القيمة الفنتازية للأدب تعني أن يشجب أحد ما انطواء الأدب على مفارقة الحقيقة .
___________
*المدى