“ريف” العائدة

خاص-ثقافات

*ميمون حرش

أمسكت “ريف “بالمقود بثقة، أدلقت رأسها من سيارتها، وقد ارتسمت على محياها ابتسامة بريئة، لتجيب عن أسئلة بعض المستقبلين في المطار، تمتمت بعبارات ليست منسجمة، لكنها تعبر عن رغبة ملحة لمعانقة الأحباب، وتشنيف الأسماع بالريفية المخملية الرومانسية، وكذا تقبيل تربة أديم الأمكنة حيث عاشت، نظرت إلى أطفالها الصغار، كانوا يرمقونها ورؤوسهم متدلية تكاد تلامس ميكروفون صحفي منسجم في حوار معها، شرحت له مجيبة عن سؤال تقليدي:

“إنها نعمة أن يكون المهاجر فوق أرض مدينته، ويحس بأنه آمن وسط أهله”.

الإنسان قد يطير، و قد يبحر، لكنه في الحالين لا يحس نفسه مولوداً إلا فوق أرضه حيث يصبح، بالنسبة إليه، كل شيء مباركاً، ولذيذاً، حتى الشتيمة حين تمتزج بهوى الريف، وتُقال بلغة الأم يصبح لها شكل آخر، فبدل أن توغر القلوب، تغسلها من الداخل لأن الرسميات أحياناً تجشم على القلوب، وتخنق الصدور، فلا بأس أحياناً من إزالة الكلفة بين المهاجر وبين أقرانه، وأترابه.

    وحين ابتعد الصحفي بحثاً عن فمٍ آخر يرضعه ميكروفونه، تنفست الصعداء كأن كل ما قالت مجرد إملاء ثقيل، نظرت من زجاج نافذة سيارتها، أخذت نفساً عميقاً، ثم فتحت الباب، مدت يدها، أخذت حفنة من تراب الأرض من شرخ اسمنتي، تحسستها في كفها، شمتها، ثم نثرتها بطريقة منسابة، الأطفال تتبعوا المشهد باندهاش، قال أكبرهم:

  • waw..

علقت الأم على صرخته شارحة:

  • “إنها رائحة الأرض تغزو القلب وتغسله من الداخل، فتجعله يرق، فتسطع داخله شمس صغيرة بحجم قلب طفل صغير يحب أمه بعمق “.

  • Aussi que moi mam (رد ابنها الأصغر)

 الرائحة هي آخر ما يخلفه المهاجر حين يغادر وطنه، ويترك أهله، وبها يتعرف الوطن أولاده حين يعودون، ومن غيّر جلده منهم، أو عمل على تغيير رائحته يلفظه الوطن، والرفاق يمدون لهم لسانهم ساخرين، ويعتبرونهم غرباء لا مكان لهم وسط الأهل والأحباب، فليس هناك ما يثير تربة الأرض أكثر من وطء أقدام فوقها تغيرت خطواتها، وأصبحت بمقاس آخر، لأن للأرض حدسها، ورائحتها نفاذة تغزو قلوب المخلصين، بيد أنها تخز المتحولين، ومن لم يخطب ودها تدير له ظهرها، وتتقيؤه، وحين تفعل الأرض ذلك يصبح المرء بلا هوية، فمن لا أرض له لا اسم له.

    تأكدت “ريف” من كل هذه الهواجس الدفينة أكثر إثر وصولها حين عانقت أمها التي انتظرتها طويلا، لم تقبلها فقط بل كانت تشمها في مناطق من جسدها أحست معها بدفء الأمومة التي تزيدها القبل طعم ماءٍ باردٍ زلال في صيف ربيعي تحت الظل.

    مضت أيام الأسبوع الأول من عطلتها بسرعة، فكرت:

  • “أيام العطل قليلة دائماً مهما كانت كثيرة، إنها كما الماء تتنخل من بين الأصابع دون أن نرتوي”..

   الأسبوع الثاني من عطلتها خصته لطقس تسميه ” نميمة بيضاء من أجل الوطن” تعني به التجوال في شوارع مدينتها والسير في أزقتها على غير هدى، كالمجنونة، لا تفتأ تسأل عن أحوال كل الناس، من تعرف، ومن لا تعرف، وسؤالها المشترك الأول لازمة هو: “هل تحس بالفرق بين اليوم، والأمس؟.. هل مدينتنا تتغير إلى الأحسن؟.

    مدينتها تغيرت كثيراً، بدا العمران يغزوها، والكورنيش الجديد جملها كما العروس، في الليل لم تعد تشكو المدينة جحود أهلها، لم تعد تُترك كما في الخوالي مدينة مهجورة في الليل، والنساء بتن يؤثثن شوارعها في جولات مع الأزواج، وصحبة الأولاد ذهاباً وإياباً في الكورنيش، خُطاب المدينة أصبحوا كثراً و مهرها في الصيف يزداد غلاء، تطالب العائدين إليها بثمن غالٍ، هم يدركون تباهيها بهم، تنتعش بعودتهم، وبحضورهم يركب الرواج أجنحة، وتندلق التجارة، وتنتعش في أمكنة شتى بسوق المركب، وسوق أولاد ميمون، وفي القيسارية، فلا تكاد تجد كوة للتحرك بسبب الاكتظاظ؛الباعة والمشترون يصبحون جزءً من الديكور في هذه الأسواق، والأمكنة، في بعض زواياها، تتلصص منها عيون جاحظة ترقب الفتيات اللواتي يتوزعن بين من ترتدي أزياء تكاد تخفي كل شيء، وبين من تلبس من أجل إحصاء “الممتلكات” حتى تُعرض في المزاد العلني مما يغري بالمعاكسة التي تغدو في الصيف حارة، وحارقة.

  ومع كل هذه الحركة، تجد من أهل التجارة من يشتكي، ويعزو بوار تجارته ليس للأزمة الاقتصادية العالمية، بل لبخل المهاجرين، وهم يرون أن العائدين لم يعودوا كما كانوا، برأيهم هناك حلقة مفقودة فيهم، تغير شيء ما فيهم، لم يعودوا أجوادًا كما في الخوالي، إذ لا يقبل أحدهم على الشراء إلا بعد أن يساوم البضاعة بشكل مستفز، وقد لا يقبل عليها إلا بعد أن يكون سبباً في ارتفاع ضغط البائعين، أياديهم لم تعد تُبسط بسهولة، صارت مغلولة أكثر من اللازم، حرثتها لعنة البخل، وخضبتها أخاديد الإمساك لذلك لم تعد تتحسس الجيوب إلا لماماً، كما لو أن عقارب تربض هناك بسلام؛بهذا يتحدث بعض الباعة هنا في المدينة، وهو حديث من قيل له – خطأ- من لم يستنفذ جيوب إخواننا المهاجرين المغتربين لم يذق طعم حلاوة هذا الصيف.

علقت المرأة على هذا المنكر قائلة:

  • “هؤلاء الباعة مساكين، هم يظنون أننا، هناك وراء البحار، نغرف البحر مالا، وننحت الصخور ذهباً، فلو يدركون مبلغ ألمنا في كسب بعض “الأورو”.

“ريف” في طريقها الآن إلى فرنسا، وهناك ستشمر عن سواعدها، وتخزن بعض المال لعودة جديدة..

شاهد أيضاً

قصة “الظل” لإدغار آلان بو

(ثقافات) قصة الظل[1]. إدغار آلان بو ترجمة: عبد القادر  بوطالب                أنت الذي تقرأ ما …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *